صنعاء 19C امطار خفيفة

الإخوة كارامازوف

العنوان أعلاه رواية ذائعة الصيت للروائي الروسي الكبير دوستويفسكي، أمضى في كتابتها قرابة العامين، أنجزها عام 1880. تناولت حينها تحليل مدى تشابك العلاقات المتعلقة بحياة البشر كالروابط الأسرية وعلاقة الإنسان بالدين أو بالأحرى العلاقة بين الكنيسة والدولة.

ومن خلال تطور الأحداث والصراع بين أسرة كارامازوف نقف على طبيعة ما يكتنف حياة البشر من بغضاء وحب وكره ترتبط تحديدًا بمصالح يقدرها كل طرف وفق ما يوافق هواه بعيدًا عن أية موضوعية، إلى جانب مواضيع الخير والشر. كما تعالج الرواية المبادئ التي تتحدى معتقدات الناس. هناك أيضًا عمل روائي رائع يحمل اسم الإخوة الأعداء للكاتب الأرقى نيكوس كازانتزاكيس، وهي رواية خلابة تتناول أحداث فتنة داخلية باليونان خلال أربعينيات القرن الماضي.
وجدت ذلك مدخلًا ذا دلالة وأنا أتناول موضوعًا يتصل بما أثارته عبارات وأتربة تطايرت هنا وهناك، وهي تتناول غمزًا ولمزًا وطعنًا في ذمة من أثير حوله غبار الإثارة التي لا تفيد، لكنها تزيد المحيط والواقع الوطني المتشظي لهيبًا وحريقًا.
أنا هنا أشير لما صاحب زيارة الرئيس علي ناصر محمد إلى سلطنة عمان، من إثارات وألفاظ أربأ لمن كتبها أن يعاود الكرة. بلدنا مجروح متشظٍّ يحتاج لمن يدله للصواب بعيدًا عن الانفعالات والاتهامات، كما تم كيل الاتهامات للأخ أبو جمال... وما المانع إن تحرك، فالأمور بخواتمها، يهمنا وطنيًا دعم أي مسعى وطني يفضي إلى تحقيق ما يلي:
1. إيقاف الحرب الشاملة بكل معانيها مع ضمانات كاملة.
2. صياغة مشروع مصالحة وطنية حقيقية.
3. يتبعها مرحلة انتقالية مزمنة تفضي لانتخابات حرة وضمن رؤية توافقية وطنيًا تعالج أسس ومطالب القضية الجنوبية العادلة.
4. احترام كافة القرارات والتوافقات الوطنية، وبضمنها مخرجات الحوار الوطني.
5. وختامًا أن يتم تبني مشروع مارشال لإعادة الإعمار والتنمية والاقتصاد.
ضمن هكذا أسس ينبغي أن يكن التعامل مع تحرك الأخ الرئيس علي ناصر محمد، لأن ما يطرحه الرجل لا يتباين مع جوهر النقاط المذكورة.
أخشى القول إننا أو البعض منا للأسف مازال أسير نهج تصفية الحسابات وتحميل هذا أو ذاك كامل المسؤولية، باعتباره الشيطان الرجيم... أما الآخر لدى هذا الطرف أو ذاك، فهو الملاك الطاهر، وهو مالك الحقيقة الوحيد، المالك للاتجاه الصحيح، والخطأ كل الخطأ كامن عند ملعون الوالدين، ممن لا يروقون له... وكثيرة هي العناوين التي ماتزال تحتدم داخل أحاديث وتقييمات نخبنا السياسية... إن ارتقى وضعنا المضطرب سياسيًا ليستوعب مكنون هذا اللفظ. وللأسف نجده مضطربًا داخل مكونات ثقافية عادت للوراء، وارتدت مفاهيم أبعد ما تكون عن وعائها الوطني القائم على القبول بالآخر والإيمان بقيم الصراع أو الخلافات أو الاختلافات وفق مبادئ الانطلاق من أسس التفاهمات الوطنية التي شكلت أرضية مشتركة تباينت معها الرؤى لعديد الأسباب موضوعية وغير موضوعية.
بلادنا اليمن عانت وعاشت صراعات تحمل عناوين وطنية جذرها التاريخي الخلاص من نظام الإمامة الأسوأ الذي خيم على البلاد تخلفًا، وتعاصر معه الخلاص من هيمنة استعمارية مرتبطة بحقبة توسع ظاهرة الاستعمار الأوروبي.
إنجازنا لذلك المشروع الوطني أدى لدخول بلادنا مرحلة التحرر الوطني، والتمكن من بداية الدخول في مشروع بناء أسس الدولة الوطنية، رغم ما جابه هذا الإنجاز من التحديات الكثيرة: تحديات داخلية وخارجية.
هنا كانت المعضلة... هنا تمخض الجبل وتولدت معها خلافات وصراعات ذات طابع تناحري على مستوى ثورتي سبتمبر وأكتوبر، والكل يدرك أبعاد ما أشير إليه، ولعل أخطر ما تجلى تمثل بالخوف من مفهوم ومكانة الدولة والمواطنة المتساوية لدى أطياف داخلية وإقليمية ودولية.
للأسف نقول ونسأل كيف استطاع معول التاريخ الأسود أن يتسيد مقولاتنا الفكرية لدى البعض الذي يصر ويمعن إصرارًا لنقرأ تاريخنا وما جرى بمحطاته من صراعات وخلافات قراءة أحادية النظرة تنتفي عنها موضوعية التناول والتحليل، نقول كفى لهكذا نظرات وتحليل، لدى البلد تحدٍّ وجودي بات عرضة للتشرذم والتفتيت، وضمن مسميات تغادر عمدًا منطلقاتنا الوطنية التي أسست مداميك الدخول لبدايات الدولة الوطنية بالمعنى الشامل والكامل.
حين اخترت عنوان مقالتي "الإخوة كارامازوف"، وكذا الإشارة لرواية الإخوة الأعداء لنيكوس كازانتزاكيس، وما بهما من إشارات ذات معنى للفتن الداخلية ومسبباتها، وهو ما وددت التوقف أمامه متأملًا متسائلًا عن معنى الهجمة الشرسة التي تم شنها على الأخ الرئيس علي ناصر محمد، وكأنه متهم سبقت إدانته مع سبق الإصرار والترصد، وكلنا يدرك أن الملف لخطورته سيظل مفتوحًا وصولًا للحقيقة الكاملة، والتي غالبًا ما تمس أي تحرك يمارسه وكأنه مصلوب تم صلبه لا يحق له الحراك، بمعنى حرية الحركة، وللجميع الوطني تقييم مآرب وأبعاد هكذا تحرك قبولًا أو رفضًا وفق ما أشرنا إليه من خطوات.
حيث لم يصدر التاريخ بعد حكم إلياذة الجحيم بحقه، مازال تاريخنا السياسي قائمًا، وبداخل ملفاته كشف ما جرى من صراعات وخلافات بداخلها، توجتها الأنانية والانحيازات السياسية الضيقة والصراعات ذات الصلة بمفهوم ما قبل الدولة والقبول بالآخر؛ الآخر الذي له كامل الحقوق بعيدًا عن الابتزاز والإلغاء والتجاوز لما تم التوافق عليه، بعيدًا عن تسليح الصراعات بالقوة الغاشمة بالفرض بأدوات ما قبل الدولة تارة، وتسخير نص ديني ما من هذه الزاوية، وبعيدًا عن الابتذال وسوقية التدليل يرقى فقط للتضليل بعيدًا عن جوهر الحقيقة التي يهمنا جميعًا الوصول إليها والبناء عليها، وكما يقول كازانتزاكيس: أنا لا أستطيع العيش دون يقين، بخاصة ونحن قد مررنا بحقبة تاريخية مثلت لنا حلمًا، أصابها للأسف الاعتوار، بدءًا بهزيمة انتصار حصار صنعاء وإلغاء ثورة 26 سبتمبر، مرورًا بما أصاب ثورة 14 أكتوبر من انتكاسات لعل أخطرها جريمة 13 يناير 1986، وما سبقها من محطات قراءاتها كانت أبعد ما تكون عن جوهر الثورة، أقرب لجوهر المنفعة الضيقة.
وكلنا ندرك ما تتضمنه مراحل الثورات والصراعات والحروب الوطنية الداخلية، وما يتم دفعه من أثمان، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن هناك على الدوام أطرافًا ثابتة تضحي وتدفع الثمن، وهم الغالبية الشعبية التي ظلت تدفع ثمنًا باهظًا قبل وبعد 13 يناير، علمًا أننا نمتلك إذا سخرنا العقل الهادئ، وهو يناقش وينتقد هنا وهناك، والنقد مبدأ أساس للوصول إلى الحقيقة، وهو ما كنا نود سلوكه عند تناول تحركات الأخ أبو جمال، بعيدًا عن الابتذال.
الناس تبحث عن ثبوت ما يدين ملف 13 يناير 86، وهو بالمناسبة أسوأ ملف أثر سلبًا على اليمن كله، وكلما وجهنا حروفنا وسطورنا بحثًا عن الحقيقة، كان إسهامنا أكثر فائدة وأثرًا.
الخلافات والصراعات الكبرى في تاريخ الشعوب تظل تبحث عن الحقيقة، وهذا دور ومجال البحث بعيدًا عن الإساءات والإدانات مع سبق الإصرار على تبنيها والبناء عليها. وما فائدة البحث عن الحقيقة إن كان من يعتقد أنه مركز الحقيقة المطلقة، ولديه وحده مفاتيحها، وتلك لعمري هي قمة مأساة حاضرنا السياسي المحاصر بعنوان "أنا وحدي من يمتلك الحقيقة، ولتخرس بقية الأصوات النشاز". وبحال كهذا كيف سنتعامل مع من يريدون إرجاعنا سنوات وعقودًا طوالًا، أغلبها -إن لم تكن كلها- قاتمة السواد، بل أشد سوادًا من سواد ليل بهيم؟

الكلمات الدلالية