صنعاء 19C امطار خفيفة

مع محاولة العلائي

مع محاولة العلائي

الحياة محاولات.. ابتداءً من محاولة فهم كل شيء وانتهاءً إلى محاولة التخلص مما فهمنا.

آخر المحاولات تضمنها الكتاب الصادر عن "جداول للنشر والترجمة والتوزيع" بعنوان "حدود مصنوعة... نقض المفهوم الجغرافي للزيدية في اليمن" للكاتب والباحث الجاد محمد العلائي الذي يحيا يوميًا محاوِلًا فهم ما يجب التخلص منه، بنبرةٍ موضوعية تختبر كل فرضية وحكم ومُسلّمة؛ وبما أوتي من حكمة وتبصر يستدعي من التاريخ ما يبرد شطط الشعارات، ويدحض أوهامًا فعالة وأمانيَ غرّت أصحابها، وأغرَتهم لسَوْقِ أباطيل وأكاذيب وقناعات.. ما أيسر رسوخها وأشق تغييرها.
تلك الحدود المصنوعة بكلماتٍ مسحورة تفصل أجزاءً عن أجزاء، يزيلها وصل الحدود الطبيعية بواقع التنوع اليمني، كما يفعله قلم متمتع بحق التفكير والنقد والنقض وإبطال السحر بإعمال العقل وتفعيل أدوات البحث، فينتج كتابًا يحاول:
- الحد من "سربلة" الدعاية؛
- وكف "الضمّ" عن لجم الإسهام المحموم لتلك الدعاية في التفتيت وخلط التواريخ المتناقضة.
تلحظ في الكتاب تنفس الكاتب برئة الوطنية الأسبق من كل نظام وظاهرة، والشاملة لكل الفئات والطوائف والمذاهب والميول على أساس يمنيتهم وانتمائهم للبلد الذي عُرِف ساحةً مباحة لأي جامح وطامح، طالح وصالح.
محمد العلائي
لكنه ذو تاريخ يتخلله اتصال وانفصال، استمرار وتقطع؛ تتبع العلائي واستخلص منه ملامح "برغماتية يمنية" برزت لدى أفراد في الجنوب "علي بن الفضل"، ثم لدى قبائل في الشمال انسجموا مع تصنيفهم "اسميًا" وفق أحد الباحثين الغربيين.
هل يكتفي هذا العقل اليقظ بسبر أغوار التاريخ؟
كلا.. سيظل يفند وينقد وينفذ خلال عهود "الجمهورية الفانية" -هذا اسم كتابه الأول- إلى ما يصح ولا يصح تجييره لمنطقة معينة عمّن يستهوينا تمجيدهم أو يستغوينا تحقيرهم نتيجة تحيزات مسبقة أو أمزجة نفسية تحكمها ظروف وأهواء سياسية وعصبية أو منافسة مناطقية داخلية، فتوحده الأذهان وتلونه بمذهب واحد وترسم حالة تصنيف "جيومذهبي" حسب تعبيره.
كثيرٌ منا تُسليه مبارزات وترندات التواصل الاجتماعي حول مسائل شتى؛ هلا تقبلتم الدعوة إلى "سِمنةٍ" أكثر فائدة وامتلاءً من "الغثاء الترندي"؟
إنها مبارزات محمد العلائي الفلسفية لما تخبره ألسن العوام وتحبره أشهر الأقلام العربية اليمنية والأجنبية، عن مقولات "تكررت حتى تقررت" في أذهان الخلق كمسلمات يحكمون بمقتضاها، وتعمد الإثارة لا الإنارة التي يستهدفها صاحبنا لكي تعين على تفهم واقع الأمر، وتبين أن معظم ما يَسوقُنا "أوهام" وانطباعات زائفة.. ربما!
لا يخلو كتابه -كأي كتاب- من تعبيرات وأسماء تعوزها الدقة، صدرت بمثابة أحكامٍ مطلقة فرضها الانسياق نحو تأكيد سلامة فكرته تجاه نهج غير سليم؛ نختلف قليلًا معه حولها لكن نتفق معه حول غيرها أكثر، على غرار اختلافه واتفاقه ونقضه بناءً على منطق تفكير يحاول أن يكون سويًا وسط محيطٍ غير سوي.
يبعث على الارتياح، أنه بيّن المصادر المؤدلجة وغيرها، المختلفة والمتخلفة منها، بعد تقصٍ دؤوب لجذور مفاهيم ومصطلحات شائعة مثل "اليمن الأعلى" و"اليمن الأسفل"، يقول "قد يكون الخزرجي (علي بن الحسن) أول مؤرخ استخدم اللفظين..".
انتهى كذلك إلى إبانة جوانب القصور فيما يشتمل هذا التقسيم من مدن بتحديد ما لا يشتمله؛ مِن ثمّ يخلُص إلى أن "اليمن، من حيث تنوع التضاريس أكثر بكثير من مجرد إقليمين مرتفع ومنخفض. إنه لوحة فوضوية بمناظر متباينة".
... البلد "المستضيف" كل "وافد" بدعوة سياسية لا شعائر مذهبية، ما دام "لوحة فوضوية" كما يصنفها العلائي، وتاريخه كما معظم الشرق الأوسط "تاريخ حروب وفتن" انسلت وتنسل منه نزعات تقسيم.. حال تأمل خارطة اليمن الكبير بهضابه وجباله، صحاريه، سواحله ووديانه، بزرعه ونفطه... دعونا نجرب أو نحاول معًا تغيير خطاب توزيع اليمن من شمال وجنوب إلى شرق وغرب، لعله يكون أخف حدةً. كونه تعبيرًا عن اتجاهات جغرافية غير سياسية وغير مذهبية، أي لا تثيرَ حساسية أحد.
حاولوا كذلك تذكر أن نوازعنا الداخلية ومستويات أخلاقنا هي ما يحركنا كبشر؛ منذ هبط آدم وحواء في الأرض.
تذكروا أن قابيلَ الذي هرب إلى اليمن بعد اقتراف جريمته ضد هابيل المدفون في سوريا، كما قيل، لم يكن حافزه اختلاف الدين أو المذهب أو العِرق.
لما تكن العرقية والبيئة الجغرافية المحرك والمحرض الرئيس، إنما النوازع الداخلية.
إن سلوكنا المتبادل ينبوع أحكامنا التي تتدفق على أذهان المتلقين والمتفرجين وتصطنع الحدود بيننا.
طالما الحياة سلسلة محاولات، ينبغي محاولة فهم وإدراك هذه الحقائق كي نشارك محمد العلائي محاولة نقض أي "حدود مصنوعة" مما تسيد وشاع خطئًا.
بدون استيعابنا أن فرضية بيئة "نابذة" أو "حاضنة" ليست تفيد وضع حدود الانتماء إلى أي فكرة لأن "التعدد يتجلى حاليًا على مستوى العائلة الواحدة" كما يشير العلائي في كتابه؛
وبدون فهمنا وإدراكنا أن اليمن للجميع؛ لن ننتزع صك التمليك الذهني للمنتفعين من شيوع المذهب لترسيخ سلطة لا تبني وتكريس تشظٍ لا يُغني.. بل يُفني.
كان الأحرار اليمنيون يدعون إلى الجمهورية والوحدة بشعارهم الوطني الذي يقر حقيقةً أصيلة:
"لا زيدية ولا شافعية ولا شمال ولا جنوب.. شعب واحد ويمن واحد".
كتاب العلائي الجديد يجدد تأكيد هذه الحقيقة اليمنية الساطعة.. مهما حاولوا حجبها.
ختامًا:
باسم اليمن الواحد..
وباسم تنوع اليمنيين ضمن حدود طبيعية.
حاولوا مع هذا الوطني اليمني أن تنقضوا كل مصنوعٍ ينقض السلام لليمن. ليكون السلام بكم ومنكم، وعليكم رحمة الله وبركاته.

الكلمات الدلالية