شحاتة
امتطى سالم فرس مهنته التي لا يُحسَد عليها.. لا أحد يستطيع أن يوقف انطلاقته، أو يحدّ من جبروته وضيمه.
أعتاد أن يجبر الجميع على دفع العائد اليومي له، ثم يمنح كل واحد منهم حصته بمزاجه، دون أن يتجرأ أحد على النقاش، حتى وإن سلبه كل ما غنمه طوال اليوم، بعد أن يقف أمام رجليه ذليلاً راضياً، وهو يرقص ويغني مع شلة المهرجين.
كان واثقاً أن أحداً لن يتجرأ الكذب عليه؛ فقد جعل كلاً منهم رقيباً على الآخر ــ فالمسئولية تتطلب ذلك ــ.
قادهم الجهل والخوف إلى ما هم عليه. ينتابهم الحزن والكآبة إن قصّروا في إسعاده، حتى صاروا يتسابقون لإرضائه.
لا يسمح لأي شخص أن يمارس الشحاتة في هذا الحي دون إذنه. يتزوج بطريقته وبشرعه، ولو لليلة واحدة، حتى صارت النساء يتسابقن للنوم معه وفق شرعه. المهم نيل رضاه. أما هو، فالإنجاب والتكاثر عنده غاية لزيادة الدخل وتوسيع النفوذ.
يلقي بمسئولية الرضع إلى الشارع الممتلئ بالقمامة، ليرفعوا مؤشر الدخل منذ ولادتهم.
لا أحد يستطيع أن يقول له: "لا". ومن يحاول أن يتسلل إلى الحي، يطارده أتباعه حتى ينال ما يليق به من الضرب المبرح، وسط تصفيق وتشجيع هواة المصارعة. كما حدث للبعض، الذين وجدوا أنفسهم مغمورين بالدماء والرضوض على كافة أجسادهم حين تسللوا ليلاً.
مؤخراً اكتشف سالم الأعور، أو كما يحلو للبعض تسميته موشي ديان، أن هناك من تطاول وخرج عن المألوف؛ نزل في الحي بدهاء، في غفلة من الزمن، لفتت هيئته الشريرة أنظار الجميع، وأرهبته حين رآه محمولاً على الأكتاف، وسط حشد كبير يهتف:
"ما لنا إلا حمود.. بالروح بالدم نفديك يا حمود!"
رُبّما لم يكن حمود أقوى من سالم، إلا أنه يختلف عنه في اختيار فريسته بغرابة وفهلوة مغلّفة بذكاء نادر.
شعر سالم أن طريقة حمود في مطاردة الفريسة لم يعهدها الحي من قبل. ومع ذلك، أبقى مسافة أمان، مترقباً لحظة المواجهة التي لن يقرع طبولها أحداً سواه.
يبطئ السير نحوه، لا يحاول التصادم معه.. يفتعل الحيل للتعايش معه، لأنه صار أمراً واقعاً لا مفر منه.
يدرك أنه مفروض عليه، وأن هناك من يقف خلفه ويموله كما هو الحال بالنسبة له.
ترك الأمر لأتباعه ليتعاملوا معه.. ولم يخنه الرهان بهم؛ فمتى أراد الزجّ بهم في حمم معارك حامية الوطيس، لم يترددوا، إلا أنهم أخفقوا هذه المرة.
أنتابه الشك بهم، حاول تطبيق أحدث الأساليب لمعرفة تململهم منه أو ما يفكرون به، فلم يجد ما يوحي بذلك. فما حاجتهم للتفكير، وقد كفاهم زعيمهم مؤونة العقل؟! وهذا قاسم مشترك تهامس به سالم مع حمود ذات ليلة، وأشياء أخرى حسما أمرهما بها، في ظل بحثٍ عن ثغرة لافتراس أحدهما الآخر.
وعندما قرعت الطبول، تفجّر الدم في أزقة الحي كجدول لا ينضب، ثم ذاب الفارسان في كيان واحد، وغشّت العيون غشاوة الدخان… فلم يرَ الناس سوى كارثة تكرر نفسها.