صنعاء 19C امطار خفيفة

تمرد أرملة

تمرد أرملة
صورة رمزية انشأت بالذكاء الاصطناعي
1
اسمي أسماء منصور، أعمل ممرضة في أحد المراكز الصحية في محافظة حجة. أسكن في منزل مستقل بناه زوجي بجوار دار والده. ولديّ ولد وبنت، محمد يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وهند تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا. توفي زوجي إثر ذبحة صدرية مفاجئة.
لم تمضِ خمسة أيام على دفن جثمانه حتى بدأت ألاحظ الغمز واللمز بين النساء. وبعد عشرة أيام، فاجأتني والدتي بطلب والدي بالعودة معهم إلى منزلهم، بحجة أنه لا يجوز أن أظل في بيت زوجي المتوفى وعنده إخوة شباب. وفي الوقت ذاته، كان عمي يخطط مع عمتي لإقناع نجيب، ابنهم الشاب، بالزواج بي بعد إكمال عدة الوفاة، بدعوى أنني مازلت صغيرة في العمر، وأنه أحق بأن يرعى مال أخيه وأولاده.
تألمت من قرار والدي وأسرة زوجي، لماذا لا يتركونني وشأني ويشعرون بمقدار وجعي على رحيل زوجي وسندي؟ هذا الرجل الشهم الذي تزوجني وأنا بعمر ابنتي الآن، فاحتضنني وأعطاني الحب وشجعني ودفعني إلى مواصلة الدراسة وأدخلني معهدًا صحيًا، ووقف معي، وأعطاني حرية العمل في مجالي، وكان أكبر داعم لي، لم يشعرني يومًا أنني إنسانة ناقصة، بل كان يستشيرني في معظم أموره، رجل مثله قليل، حتى زملاؤه في الشركة التي كان يعمل بها بكوه كما لم يبكوا غيره لحسن تعامله معهم.
غضب والدي وإخوتي من قراري بعدم العودة. اقترحت عليهم والدتي أن يتركوني حتى أكمل العدة، وعندها يتم الحديث في الأمر.
كانت أروى، أخت زوجي، هي الوحيدة التي تتعاطف معي وتتألم لأجلي، فهي الأخرى بعد وفاة زوجها أرغموها على الزواج من أخيه. لكنني لن أرضخ لهم، ولن أتزوج أحدًا بعد قاسم، فهو في قلبي، وطيفه معي، وأنا إنسانة ولي مشاعر، فكيف أكون زوجة لنجيب وأنا لليوم أراه مثل أخي؟ إن ما يقوم به البعض من إرغام النساء الأرامل على الزواج مباشرة بعد وفاة أزواجهن، هو امتهان لكرامة المرأة وعدم الشعور بإنسانيتهن ومشاعرهن.
ذات يوم همست لي إحدى قريباتي: "تزوجي ولا تمانعي، من رحل خلاص يُنسى، عيشي حياتك، انظري إلى فخرية بنت سنان تزوجت من أخ زوجها، وقد نسيت الأول، وتعيش مع الثاني مرتاحة". ضحكت بسخرية وأنا أرد عليها: "وهل نعتمد فخرية مثلًا وقدوة؟ هناك زوجات يحببن أزواجهن وتظل أرواحهم معهن لآخر العمر، في حاجة اسمها الوفاء للعِشرة، وأنا لا يمكن أن أنسى قاسم".
قررت التمرد على هذه العادة، وأن أكون كبش فداء، لعل النساء الأرامل في منطقتي يرفضن ما لا يرغبن به.
جلست مع محمد وهند، وحكيت لهما القصة كاملة، واتفقت معهما على أن نسافر إلى صنعاء بعد إكمال عدة الوفاة بيوم، وقبل أن يتخذ أي قرار بشأني. رتبت مع سميرة بنت خالتي المتواجدة في صنعاء، كل شيء، وفي اليوم المحدد انطلقنا ثلاثتنا قبل خروج الناس لصلاة الفجر، ووصلنا إلى السوق، ومنه استقللنا سيارة إلى صنعاء. وتركت لعمي المنزل وما فيه.
كنت حديث المنطقة كلها، وأنني تمردت وهربت وتجاوزت التقاليد. وانقسم الناس بين مؤيد لي وبين معارض. ولأول مرة ظهرت بعض النساء يتحدثن عن عقلانية ما قمت به، فهن لا يجرؤن على الحديث في هذا الشأن.
2
في صنعاء، أقمنا في شقة صغيرة. بعتُ قطعة من ذهبي، واشترينا المستلزمات الضرورية، ودفعتُ إيجار الشقة. وبحثت سميرة لي عن عمل في مستشفى خاص، فباشرتُ العمل. وبعد فترة، عمل محمد في محل لبيع الخضراوات والفواكه في الحي. كانت أسرتي وأسرة زوجي يعتبرونني متمردة، وغضبوا مما فعلت. وعندما تواصلوا معي، أقنعتهم بأنني لن أعود، وأن ابني رجل ويتحمل مسؤوليتنا، وأن فكرة زواجي من آخر عليهم أن يطرحوها جانبًا، وأن من سيزورنا ويطمئن علينا سيكون موضع ترحيب بالغ.
بعد بضعة أيام، سافر عمي وجاء إلينا، وقال إنه اتفق مع والدي على تزويجي لنجيب، ليكون معي رجل يحميني. أقنعته بأنني لن أعود ولن أتزوج من نجيب ولا من غيره، ولن يدخل حياتي أحد بعد قاسم، وأنني راشدة عاقلة، وأعرف كيف أتصرف في حياتي.
قال: "إذا تمسكتِ بقرارك هذا، فأنتِ راشدة لنفسك، لكن أولاد ابني أنا وليهم وهم تحت وصايتي"، فقلت: "أولادي معي، ولن يفارقوني لحظة." صرخ بصوت عالٍ: "القانون معي وبصفي، فأريني ماذا ستفعلين". سحب محمد وهند، وأراد أن يخرج بهما، فتعالت أصواتنا وهند تبكي. محمد يحاول أن يكلمه: "يا جدي، أنت على رأسنا من فوق، لكن أمي لن تتزوج قسرًا، ونحن سنظل معها، وأنا رجل البيت بعد والدي". تعصب عمي وقام بضربه بالعصا التي كان يحملها وهو يشتمه ويقول إنه "تربية مكلف".
وقفت على الباب أتوسل إليه أن يترك الأولاد، لكنه كان غاضبًا ويصرخ بأنه هو المسؤول عنهم وسوف يأخذهم ليرعاهم، ولن يتركهم لامرأة مثلي لا تحترم أحدًا.
تجمع الجيران خلف الباب يتساءلون عما يحدث. عم حسين صاحب العمارة نادى على محمد، إذا هناك شيء سوف يستدعي عاقل الحارة.
فتح عمي الباب وهو يصرخ: "لا علاقة لكم، أولادي وأنا حر فيهم".
استنجدت بهم وأنا أقول: "يريد أخذ أولادي مني بالقوة، أنا وهم في حمايتكم".
قالوا جميعًا: "أنتِ ابنتنا وفي حمايتنا". فأرسلوا لعاقل الحارة فحضر، وشرحت له الموضوع كله، واتفق الجميع على أن أبقى مع أولادي في شقتي، وأنهم جميعًا معنا. وأقنعوا عمي بذلك، وما تركه قاسم من أملاك يقسم بيننا بما حكم به شرع الله.
غادر عمي وهو في حالة غضب ويهدد بقوله: "تستقوين بالغُرباء عليّ، لكن سهل الأيام بيننا، وأمر أولادك بيدي".
في اليوم التالي سافر أخي الكبير عمار، وجاء إلينا. كان يصيح: "ما في عندنا نساء يعملن الذي برؤوسهن. أنتِ خليتي الناس تحكي علينا ووطّيتِ رأس أبيكِ". ومد يده عليّ، ونزل بي ضربًا. تدخل محمد لإبعاده عني، وهند تبكي مصدومة أنها ترى أحدًا يمد يده على أمها.
تصدى محمد لخاله وكان يقول له: "الله المستعان يا خال، تمد يدك على امرأة لا حول لها ولا قوة، وأنت سندها وعزوتها، أختك هذه فقدت أعز الناس في حياتها، الرجل الشهم الذي كان سندها، والذي شجعها تدرس وتشتغل، ما قد قال لها يومًا أنتِ وطّيتي رأسي، بل كان فخورًا بها، ودائمًا يقول لنا: شوفوا أمكم كيف قوية بمائة رجل، افخروا بها طول العمر.
لذا، يا خال، أمي هذه بمقام ألف رجل منكم طالما وأنت تمد يدك عليها وتهينها جنبنا. أنا المسؤول عن أمي، وما كنا نسير عليه في حياة أبي نسير عليه بعد مماته".
كنت أبكي وأنا أسمع ابني وسندي الذي طلع رجلًا بحق وحقيقي أفضل من أخي الذي جاء لضربي وإهانتي واتهامي.
خرج عمار يفيض غضبًا وهو يردد: "طالما وهذا كلامكم، هيا لنشاهد نهايتكم إلى أين".
تعاطف العم حسين معنا بعد أن سمع ما دار من عمي ومن أخي، وقال لي: "يا أم محمد، اجلسي في البيت وادفعي نصف الإيجار من هذا الشهر، ووقت ما توفرت معكِ نقود الإيجار ادفعيها، وأي حاجة تحتاجونها أنتِ وأولادك فأنتِ ابنتنا، والله لو لم يكن الإيجار مصدر رزقنا لقلت لكم اجلسوا ولا تدفعوا ريالًا واحدًا".
تعنت عمي في إرسال وثائق محمد وهند، واحتجزها عنده، لكن تدخل الناس ولاموه كيف يترك أولاد ابنه يضيعون دراستهم وسط خلافاتهم التي لا تستحق هذا كله.
بعدها أرسل بها، ودرس محمد وهند، وبدأنا نستقر نفسيًا ونشعر بالراحة، وكنت من عملي إلى البيت.
حتى بدأت أشعر بمضايقة من زوجة عم حسين، وفي كل مرة تتهمني بشيء، حتى وصل الأمر إلى أنها تطلب منا الخروج من الشقة، وقالت: "أنتِ ما لك أمان، أرملة وتلفين حول زوجي، وأنا ألاحظ أنه يهتم بكم". قلت: "لا، إلى هنا وكفى، إلا هذا الاتهام".
خرجنا نبحث عن شقة ولم نجد، فقالت: "مهلتكم يومين وإلا سأخرج أثاثكم إلى الشارع".
ذهبت إلى عاقل الحارة أبكي وأستنجد به، وأن الشقق كلها فوق مقدرتنا. فذهب إلى العم حسين، وبعدها حصلت مشكلة بين العم حسين وزوجته وذهبت إلى بيت أهلها.
3
بعد شهر، استأجرت شقة متواضعة، وانتقلت إليها. ذهبت إلى العم حسين لأشكره على مساندته لنا، وطلبت منه أن يعيد زوجته، لا أحب أن يقال عني مخرّبة بيوت، وزوجته ما فعلت ذلك إلا لحبها له وغيرتها عليه.
بعد مرور عام، مرضت عمتي أم قاسم، فطلبت من محمد وهند أن يسافرا لزيارتها والاطمئنان عليها. ولكيلا أبقى في المنزل وحدي في غيابهما، كنت أعود من العمل إلى بيت سميرة، وأجلس أنا وبنتيها هيام وهويدا في غرفتهما. ذات يوم كنا نتحدث عما يحصل معي من مضايقات ونظرات الرجال، فمازحتني هيام قائلة إن زوجة العم حسين معها الحق في أن تغار مني، فأنا صغيرة وجميلة، هذا وأنا -كما قالت- لا أضع حتى الكحل في عيني. ضحكت وقلت لها: "إرادة الله أخذت قاسم مبكرًا من دنيتي، وأنا لا أحب حتى أن أضع الكحل، حتى لا يقال إن الأرملة تتزين، وأحاول أن أرتدي عباءة واسعة وبرقعًا لأبدو عجوزًا... ومع هذا، لم أسلم من أحد". أصرت هويدا على أن تضع لي مكياجًا لتشاهد كيف سأبدو به، فرفضت بشدة، سألتني بالله أن تضع لي القليل، وأن أغسل وجهي مباشرة، فاستسلمت وأخذت تزين وجهي. في تلك اللحظة، جاءت إحدى جارات سميرة، وهي من قريتنا، ولاحظت المكياج على وجهي. جلست ربع ساعة وغادرت، فاستغربت سميرة من خروج سعدية مبكرًا اليوم.
بعد نصف ساعة، رن هاتفي. محمد يحكي بأن جده في حالة غضب، والصياح يملأ البيت، لأني جالسة مع زوج سميرة وعلى وجهي مكياج.
نظرت إلى البنات بنظرة ذهول: متى وصل هذا الخبر وبهذه السرعة؟
قلت: "يا بني، لا عليك من كلامهم، ولا تحمل همًا، فليتكلموا براحتهم، أنت وأختك تعرفان أمكما، وهذا يكفيني. في الصباح، خذ أختك وسافرا".
أغلقت الهاتف والتفت إلى سميرة وقلت لها: "قومي، سعدية هذه يجب أن أوقفها عند حدها، والله، والله لن أتركها".
خرجنا إليها، فاستغربت من زيارتنا، وكانت قد خرجت من عندنا للتو.
قلت لها: "إذا معك مصحف، أعطيني". فناولتني المصحف، فقلت لها: "نادي على أولادك". وكانت في ارتباك وقلق، دخل أولادها، فقلت: "احلفي فوق كتاب الله وأمام أولادك وبمعزتهم أنك دخلت ورأيتني جالسة مع عبد الرحمن وأنا بزينتي وكأنني زوجته، وهذه سميرة بجانبنا تسمعك".
ترددت سعدية وقالت: "لماذا؟ وماذا في الأمر؟ ومن قال؟"، قلت لها: "دخلت عندنا، وبغمضة عين خرجت مسرعة لتتصلي بالقرية وتوصلي لهم هذا الخبر. ما الذي تستفيدين؟ ولماذا؟ وأنا بجانبك والبنات وضعن لي المكياج، وفي لحظتها مسحته وغسلت وجهي، لماذا تتبلين علي هكذا؟ وعبد الرحمن أساسًا غير متواجد بالمنزل. أليس هذا عيبًا عليك، وتريدين أن تعملي فتنة بيني وبين سميرة؟". التفت إلى أولادها وقلت: "أيرضيكم أن أمكم تكذب وتفتري علي، وتركت الناس يشمتوا بأولادي؟".
اعتذرت سعدية وتأسفت وطلبت المسامحة. قلت لها: "الآن تتواصلي بالذي اتصلت عليه ونقلتي إليه الخبر الكاذب، وتحكي له الحقيقة، ويذهب إلى عمي وأولادي وتسمعيهم أنت الحقيقة، وليمتنع أحد عن ذكر سيرتي على لسانه بعد اليوم".
حلفت سعدية للجد أنها كذبت وافترت بكلامها عليّ، وأن غيرتها هي التي دفعتها إلى ذلك، كما قالت.
وكانت قصتي هذه مع سعدية على كل لسان، فكانت من تقابلني تعمل لي ألف حساب، والبعض يتخوف من الحديث معي. كانت رسالة وأردت إيصالها للجميع: أنا امرأة وقادرة على تحمل مسؤولية نفسي وأولادي، وأحافظ على سمعتي وشرفي، ولست سهلة لأحد، ولن أدع أحدًا ينظر إليّ بعين الريبة.
أصر عمي على ألا يسافر محمد وهند، وفي اليوم التالي ذهب للقاضي وعقد لهند على أحد شبان القرية. اتصل محمد منزعجًا يخبرني بما حصل، وأن جده قال إنه صاحب الولاية علينا، وهو الذي يقرر.
جُننتُ وتواصلت مع أبي وإخواني، ومع الحاج مصلح، أحد وجهاء المنطقة، وطلبت منهم أن يوقفوا هذا الزواج، تدخل الأهالي وتوسطوا، لكن عمي رد عليهم: "أنا عقدت لها، وأنا أدرى بمصلحتها".
وكلت محاميًا بالقرية وتولى القضية ورفع دعوى قضائية، وحكم القاضي بالفسخ. والناس بالقرية لاموني لأني وقفت ضد عمي في المحكمة، وعندهم لا توجد نساء تذهبن إلى المحاكم. أكلتني الألسن، لكني كنت عند قراري ولن أستسلم.
4
بعد فترة، حصل محمد على وظيفة في مصنع، وطلبوا منه ضمانة تجارية، فاقترحت زوجة العاقل أن أكلم زوجها ليساعدني، وقد كانت بيني وبينها صداقة. ذهبت معها لمنزلهم وجلست أكلم العاقل، وهي قامت بإحضار القهوة. العاقل بصوت خافت يقول: "ما رأيك نلم الشمل وأستأجر لك شقة كبيرة لك ولأولادك، وأستر عليك؟".
لم أستوعب ما سمعته، كانت صدمة. قلت: "الله المستعان يا عاقل، أنا أستنجد بك لأني أعتبرك الكبير حقنا ومثل أبونا، وتقول تسترها عليّ؟ لماذا؟ أو أنا ارتكبت جريمة وبتسترها عليّ؟ أو أنني جئت لعندك أقول لك أريد زواجًا؟، إذا كان هذا كلامك فأنا لا أريد منك وساطة ولا ضمانة ولا تسترها عليّ، والذي برأسك هذا انسَه".
قال بصوت متقطع وكأني طعنت رجولته: "صلي على النبي، أنا أريدك على كتاب الله وسنة رسوله، بدل ما تجلسي كذا وعيون الناس كلها عليك، وكل يوم واحد يقول يريدك. الذي بالحلال والذي بالحرام...".
لم أدعه يكمل فقلت: "خيبت أملي فيك يا عاقل، وخلي الناس يقربوا لعندي، والله لأخرج عيونهم، لماذا قالوا لكم إني بضاعة مكشوفة ورخيصة؟".
وأنا في الباب التقيت مع زوجته وبيدها صينية القهوة، وكانت قد تسمرت في مكانها مما سمعته. خرجت ولحقتني على الباب ومدت لي مبلغًا ماليًا، وطلبت مني أن أذهب وأستأجر شقة بعيدًا عن الحارة، فالعاقل سيبقى بعدي حتى يحصل على الذي بنفسه، فقد فعل هكذا معها وهي الزوجة الثالثة.
كنت في البداية رفضت أخذ الفلوس، لكن قلبتها بدماغي، هذه غيرة النسوان، لأستفيد مرة واحدة مما يحصل.
خرجت وذهبنا انا ومحمد نبحث عن شقة، فوجدنا في حارة بعيدة، وانتقلنا إليها من دون أن يحس أحد.
في الليل بكيت وتألمت من أعماقي، وأنا أتساءل لماذا هذا كله تواجهه من توفي زوجها؟ عاهدت نفسي أن أبذل قصارى جهدي، ولن أدع أحدًا ينظر إلى المرأة الأرملة أنها مطمع للرجال، أو أنها فريسة سهلة، أو مباحة، أو أتركهم يترقبون تحركاتي وسير حياتي.
واتخذت قراري: أنا امرأة، ومن حقي الاهتمام بنفسي، وقادرة على أن أوقف كل شخص عند حده، فكنت أرتدي ما أريد، وأضع مكياجي في بيتي أو في جلسات النساء. وفي العمل خلعت النقاب الذي يغطي وجهي، وصار الكل يعرف أسماء بوجهها، وصرامتها في التعامل، وفي معاملتها الطيبة للمرضى. ولم أخلع خاتم الزواج من إصبعي.
5
أنهى محمد امتحانات الثانوية العامة، وشعرتُ بفرحة غامرة لهذا الإنجاز، إذ حصل على معدل 96%.
وبعد وساطات، تمكن عبد الرحمن من الحصول على منحة دراسية داخلية لمحمد، فالتحق بكلية الطب.
أنهت هند الثانوية العامة، فتقدم لخطبتها أخ صديقتها، وتم الزفاف، وسافرت معه إلى القاهرة.
في السنة الرابعة من دراسته، طلب مني محمد أن أخطب له زميلته وفاء، وتمت الخطوبة، واتفقنا على أن يكون الزفاف بعد التخرج.
نصحني محمد بإكمال دراستي، وهذا ما تم، ولم يكن العمر عائقًا لي، وصرت أعمل مساعدة طبيب، وانتقلت للعمل في مستشفى آخر، وبراتب أكبر..
أُصيب عمي بجلطة، وتواصلوا معي، وأسعف إلى المستشفى الذي أعمل فيه، وهناك تم الاعتناء به، وكنت قد ساعدت بنصف قيمة العملية، وحصلنا على تخفيض من إجمالي العملية. كان عمي وأولاده يلاحظون تحركاتي واهتمام كل العاملين فيه لأجلي، ويسمعون أن الدكتورة أسماء ذات شأن كبير، فهي من ملائكة الرحمة، وتعاملها مع المرضى جعل للمستشفى سمعة طيبة، فتغيرت نظرتهم تجاهي، وبدأ عمي يتعامل معنا بشكل أفضل، وخرج من المستشفى إلى بيتنا، واعتنيت به كأنه والدي، وهذا شيء أسعدهم جدًا، وعند سفره طلب مني المسامحة، فسامحته، وقال: "يا ابنتي في أي وقت ترجعي القرية بيت زوجك موجود".. هنا شعرت أنني قادرة على إعادة علاقتي معهم جميعًا دون أن أضطر إلى التنازل عن قراري..
فكنت أشتري فواكه وهدايا، وأرسل لوالدي ووالدتي ولأسرة عمي، كما كنت أرسل لهم فلوسًا وعلاجات إذا توفر معي، وأتواصل معهم للاطمئنان على صحتهم، حتى بدأت العلاقة تتحسن بيننا.
6
ذات يوم أحضروا إلى المستشفى رجلًا مصابًا في حادث مروري، وكنت أعمل على رعايته والاهتمام به. كانت ابنته سمية ممتنة لاهتمامي بوالدها، وكنت أقول لها إن هذا عملي وواجبي.
في ذلك الوقت، كنت قد تعاقدت مع عيادة خاصة افتُتحت حديثًا في الحي الذي نسكن فيه، على أن أعمل معهم بعد انتهاء الدوام الرسمي.
ذات مساء، فوجئت بوصول سمية ووالدها إلى العيادة لمتابعة حالته. فرحت سمية برؤيتي، وعرفت منها أنهم يسكنون معنا في نفس الحي. طلبت مني أن آتي إلى منزلهم لعمل الحقن لوالدها والمجارحة، وأنها ستدفع لي مبلغًا مقابل ذلك. وافقت، وكنت أذهب إلى منزلهم كلما استدعوني.
ذات يوم، جلست معي بعد أن سمعت قصتي، وقالت: "ابنك سيتزوج، وعروسه سوف تريد بيتًا مستقلًا، وأنتِ ستبقين وحيدة. فكري في الزواج وعيشي مع رجل يهتم بكِ وتهتمين به".
بعد أيام قليلة، فاجأتني بقولها: "ما رأيكِ أن تكوني زوجة لأبي؟ فهو بعد وفاة أمي لم يتزوج، وظل وفيًا لها، لكنه يحتاج إلى امرأة تعتني به وترافقه في حياته، وهو مازال بكامل قوته وشبابه. نحن جميعًا مشغولون بحياتنا، لديّ أخوان متزوجان، أحدهما خارج اليمن، والآخر يعيش بمفرده، وأنا أعيش مع أبي، ولم يتبقَّ على عرسي سوى أشهر قليلة، وسأسافر، وأريد أن أطمئن عليه لأنه يرفض أن يذهب للعيش مع أخي. وهو بنفسه عندما حدثته عنكِ وافق، وطلب أن أعرض عليكِ الأمر. ما رأيكِ أنتما الاثنان أن تقضيا بقية أيامكما معًا؟".
قلت لها: "أنا أرفض فكرة الزواج من الأساس".
التقت سمية مع سميرة، وطرحت عليها الموضوع، وطلبت منها إقناعي بفكرة الزواج، فحاولت سميرة معي، وقالت إن محمد سيتزوج، وسمعته ذات يوم يتحدث بأنه يطمح لدراسة البورد العربي هو ووفاء، أي أنهما قد يسافران ويتركانني وحدي. فلأتّكئ على رجل في بقية عمري.
كما حاولت إقناع محمد، لكنه رد عليها بقوله: "الرأي لأمي، أنا عن نفسي لن أتركها لحظة حتى آخر يوم في عمري، وحيثما أكون ستكون معي".
ذهب سعيد والد سمية إلى محمد، وجلس معه، وقال إنه مستعد للسفر إلى القرية ودفع المهر المطلوب، وأي شيء يطلبونه سينفذه. ولديه فيلا أجلس فيها مع من أحب، ولي كل ما أريد.
سميرة تحاول إقناعي: "تخيلي يسافر سعيد إلى القرية، ويكون حديث الناس بقدومه والهدايا التي سيأخذها معه للأسرة ويغدقهم بالمال، وترتبطي برجل ميسور الحال تعيشين بقية عمرك مرتاحة معززة مكرمة ويهتم بكِ، وتبتعدين عن نظرات الرجال التي لا ترحم، ويكون أولادك وأحفادك يزورونك وأنتِ سعيدة بهم".
طلبت مني أن آخذ وقتي وأفكر، وكأنها قد حاولت إغرائي بكلامها.
كان سعيد رجلًا مقتدرًا ومحترمًا، ولم ينظر إليّ مثل البقية، وجاء طلب الزواج عن طريق ابنته. لكني في قرارة نفسي مقتنعة ولو أتتني كل مغريات الدنيا.
رفضت طلب سعيد وقلت: "سأظل وفية لزوجي حتى آخر العمر، ولو دارت الدنيا عليَّ ولم يقبلني ابني وإخوتي، سوف أبني لي غرفة عند بيت أبي وأجلس فيها، وأساعد الناس إذا وُجد مريض أو حالة ولادة".
أخذ محمد يقبل رأسي وهو يعدني بأنه لن يتركني لحظة، وإذا ما شالتني الأرض يأخذني على رأسه.
مرت الأيام، وتزوج محمد من الدكتورة وفاء، واشتغلا معًا، وأخذنا نخطط للمستقبل بأن نفتح عيادة خاصة، ونعمل بها ثلاثتنا. رفعت سقف طموحي، وقررت لماذا لا نفتح مركزًا صحيًا في قريتنا، ونشتغل هناك، ونقدم خدماتنا الصحية للناس...
قال محمد: "ولمَ لا؟ الأيام الجميلة قادمة يا أمي..".

الكلمات الدلالية