صنعاء 19C امطار خفيفة

أبناء الجبل الذي لا ينحني

لو سألت كرديًا عن هويته، فلن يجيبك بعبارة سريعة، كالمستعجل في محطة قطار، بل سيرمقك بابتسامة نصفها سخرية، ونصفها مرارة، ويقول: "نحن كُرد". كلمة قصيرة جرداء، كأنها قادمة من صخور الجبال نفسها، لا شروح لاهوتية ولا مقدمات تاريخية، مجرد اسم ظل عالقًا بين لغات الآخرين، مثل ورقة عتيقة في كتاب لا يقرأه أحد. كأن الكلمة بذاتها قصيدة ناقصة، أو وعدٌ لم يكتمل.

الأكراد لا ينتمون إلى طائفة، ولا إلى مذهب واحد. إنهم طائفة الجغرافيا نفسها، طائفة الجبل. كل الأمم صنعت دولًا ثم وضعت شعوبها داخلها، أما الأكراد فقد صُنِعوا أولًا ثم تُركوا في العراء، تتنازعهم خرائط لم يخطّوها، كأن التاريخ قال لهم "كونوا أمة"، ثم انصرف ليضحك من بعيد.
الأكراد هم الذين كتب عنهم ابن خلدون، في صفحات مرتبكة، كأنه لا يعرف أيدرجهم في البدو أم في الحضر. هم الذين ظلوا "شعبًا بلا دولة"، حتى تحولت العبارة نفسها إلى تعريف رسمي، أكثر رسوخًا من أي دستور.. هم الذين حُكم عليهم أن يكونوا في قلب أربعة أوطان، دون أن يصبحوا يومًا وطنًا.
الغريب أن الأكراد لم يختفوا برغم كل محاولات "التبخير القومي" التي جرت ضدهم.. في تركيا أُرغموا على أن يكونوا "أتراك الجبال"، وفي العراق صاروا مادة لصناعة المقابر الجماعية، وفي إيران هم "المتمرّدون الأبديون"، أما في سوريا فكانوا مجرد هامش غير مذكور في النص الرسمي.. ومع ذلك ظلوا هناك يرقصون الدبكة الكردية كأنها إعلان سياسي صامت، ويغنون بلغتهم كأنها بيان مقاومة أرق من الرصاص.
ليست كلمة "كردي" لعنة بقدر ما هي استعارة مستمرة للفقدان.. حين وُزعت الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، دخلوا قاعة المؤتمرات متأخرين، فلم يجدوا كرسيًا فارغًا. ومن يومها صاروا شعبًا ينام على حقيبة سفر لا تفتحها المطارات.
تاريخهم سلسلة جبال تمشي على قدمين.. من صلاح الدين الذي خرج من تكوينهم ليؤسس أسطورة في كتب المنتصرين، إلى الفلاح البسيط الذي يعزف على الطنبور في قرية نائية، بينما الحدود تقطّع خريطته إلى أربع دول.
"الذي يمتلك سببًا للحياة يستطيع أن يتحمل أية كيفية" يقول الفلاسفة. أما الأكراد فكانوا دائمًا يمتلكون هذا السبب، لم يسعوا إلى إمبراطوريات ولا إلى فتح مدن بحد السيوف، كانوا فقط يصرون على ألا يذوبوا في الآخر.. البقاء بالنسبة لهم لم يكن استراتيجية سياسية، بل غريزة هوية، كأن اللغة الكردية شجرة برية، كلما حاولت الدول قطعها نبتت من جديد بين الصخور.
تاريخهم يشبه القصائد، أكثر مما يشبه كتب الفتوحات، يكتبون هويتهم بالأساطير، أكثر مما يكتبونها بالدساتير.. في كل جيل يولد صلاح الدين جديد، لكنه يموت على أعتاب وطن لم يكتمل.. صلاح الدين نفسه الكردي الأشهر، حرّر القدس ولم يحرر كردستان، كأن القدر يسخر من مفارقات البطولة.
الأكراد يشبهون الزرادشتيين والمسيحيين واليزيديين الذين عاشوا بينهم.. دينهم ليس عقيدة واحدة، بل فسيفساء من طبقات، دين جبلٍ لا يفرض تفسيرًا واحدًا للسماء.
يتوضأ الكردي بماء النهر ويصلّي كما يصلّي جاره، لكنه في أعماقه يظل أقرب إلى النار القديمة، إلى طقوس الضوء والرقص، إلى الإيقاع الذي يجعل من الدين أغنية أكثر مما يجعله قانونًا.. مسلمون على طريقتهم بطابع يختلط فيه التصوف بالقبلية والحنين بالتمرّد.. هم قوميون، لكن قوميتهم ليست صاخبة بقدر ما هي حزينة، كأغنية سيئة التسجيل من إذاعة بعيدة.
الأكراد لا يتقنون فن "الاختفاء" كما فعل الدروز مثلًا، ولا يحيطون أنفسهم بهالة باطنية كالإسماعيليين، هم على العكس تمامًا، وضوحهم فضيحة.. تراهم وتسمعهم وتقرأ أشعارهم، لكنك لا تستطيع إدراجهم في خانة نهائية.
"المنفى ليس موقعًا جغرافيًا، بل حالة وعي" يقول إدوارد سعيد. وإذا كان هذا صحيحًا، فالأكراد هم المنفى وقد تحول إلى أمة.. أمة لم تعترف بها الجغرافيا، لكنها تفرض حضورها في الذاكرة والخيال.. إنهم أبناء الجبل الذي لا ينحني، وكلما اعتقدت الإمبراطوريات أنها أخضعتهم، خرجت من رحم الجبل قرية جديدة، ترفع راية جديدة.. كلما قيل إنهم انقسموا على أنفسهم، وحّدهم قصفٌ جديد أو مجزرة جديدة.. كلما حاولت الخرائط ابتلاعهم، تذكّرت أن هناك شعوبًا لا تُهضم بسهولة.
لو فتشت في جيب كردي فلن تجد دستورًا ولا بطاقة هوية، ستجد بيتًا شعريًا.. الشعر عندهم وطن بديل، خرائط مكتوبة بالقوافي لا بالمداد السياسي.. مدنهم تتسع في الأغاني، وجبالهم تسافر في القصائد، وذاكرتهم تحفظ من الشعر أكثر مما تحفظ من بيانات الأمم المتحدة.
في زمن الدول المركزية اختار الأكراد أن يسكنوا الجبال.. لم يكن ذلك انسحابًا ولا هروبًا، بل إعلان هوية. الجبل بالنسبة لهم ليس مجرد تضاريس، إنه استعارة للاستقلال، رمز للصلابة، وذخيرة للبقاء.. كلما انهارت عاصمة أو تبدلت مملكة، ظل الجبل مكانه شاهدًا على عناد لا يتبدد.
الأكراد ليسوا أقلّية بالمعنى البسيط، إنهم سؤال مفتوح في وجه الدولة الحديثة.. من يحاول إذابتهم يكتشف أنهم كالملح يذوبون في كل لغة، لكنهم لا يفقدون طعمهم.. إنهم تجربة فريدة خاضها التاريخ كي يذكّر نفسه أن الأمم لا تُقاس بالحدود، بل بما يتبقى بعد الخرائط.. شعبٌ يظل يكرر نفسه كقصيدة مشاغبة لا تقبل النقطة الأخيرة.

الكلمات الدلالية