صنعاء… إلى أين؟
صنعاءُ ربّما استعدّت لمعركةٍ عسكريةٍ افتراضيّةٍ يُرجَّح ألّا تقع قريبًا، وربّما لا تقع أبدًا، لكنها لم تستعدّ بعدُ للمعركة المستمرة منذ الهدنة: معركة السياسة والاقتصاد، والسرديّة والدبلوماسية، وبناء العلاقات والتحالفات كما يفعل خصومها.
أمام هذه الميادين تبدو البندقية عاجزة، ويغدو الخطاب التحشيديّ المستمرّ استنزافًا ذاتيًّا. وهنا يكمن المأزق الحقيقي — فمن هذا الواقع تنمو الهزيمة الشاملة، وتتدحرج ببطءٍ ناعم، كمن يتجرّع السمَّ البطيءَ بيده.
منذ أن صمتت المدافع، لم تدخل صنعاء مرحلةَ سلامٍ حقيقيّ، بل مرحلةً رماديةً يتقاطع فيها السكون العسكري مع الجمود السياسي.
سكنت الجبهات، لكن اشتعلت معارك أخرى: معارك المشروع والشرعية والمصالح والتحالفات.
وفي هذه الميادين لا تكفي الشعارات، ولا تصلح أساليب الحرب القديمة؛ فالانتصارات اليوم لا تُصنع بالبندقية وحدها، بل بالدبلوماسية الفاعلة، والاقتصاد المتماسك، والرؤية السياسية القادرة على إقناع الداخل قبل الخارج.
لكن ما يحدث هو العكس تمامًا.
الداخل يُستنزَف بتحشيدٍ مستمر وخطابٍ تعبويٍّ لا ينتهي، وتُدار الملفات الكبرى بعقلية القمع والعمل البوليسيّ، لا بعقلية الدولة القائمة على التخطيط والمشروعات والحوار وتعزيز التماسك الداخلي.
تُهدر الفرص في خلافاتٍ صغيرة، بينما يراكم الخصوم مكاسبهم في الصمت والمفاوضات والعمل الدؤوب.
هكذا تتحوّل القوة إلى عبء، والبندقية إلى سلاحٍ فارغٍ من المعنى، وأوراق الضغط إلى أوراقٍ محروقة.
فالهزيمة لا تأتي دائمًا بصوت القذائف، بل أحيانًا بصمتٍ طويلٍ، وإدارةٍ عمياء، وتجاهلٍ متعمّدٍ لأبسط قواعد السياسة والإدارة.
ومن لا يدرك أن معارك اليوم تُحسم بالعقل لا بالعسكرة، وبالاقتصاد لا بالاستعراض، وبالحكمة لا بالتحشيد، يكتب هزيمته بيده، وإن ظنّ أنه ما يزال ممسكًا بالبندقية.