دار الراكب

دار الراكب
من خوف الطفل إلى دفء القرية
كانت أول معرفتي بـ"دار الراكب" ليلةً لا تُنسى. كنت في السابعة، والظلام قد لفّ الطريق كما تلفّ الأم طفلها المدلل. وصلنا إلى بداية مطلع الدار، والسائق عبدالواحد، رحمه الله، أوقفني هناك وقال لي:
"اصعد لوحدك، أول دار هو دار الراكب، أنا سأذهب من الطريق الآخر".
لم أكن أعي تمامًا ما يعنيه أن أُترك وحدي في مكان لا أعرفه، لكنني مشيت. الأشجار كانت تحيط بالمكان كأنها تراقبني بصمت، والليل كان كثيفًا، لا يُرى فيه شيء. توقفت فوق حجرة وجلست، كأنني أبحث عن معنى لهذا الظلام. صاح عبدالواحد:
"هل وصلت؟"
قلت له:
"لا، مازلت جالسًا، لا أستطيع الوصول، المكان مظلم".
لم أخبره أنني كنت خائفًا.
لم يتردد، بل عاد إليّ ومشينا معًا حتى وصلنا إلى الباب. كان بابًا خشبيًا، بالكاد يُرى من شدة الظلام.
دخلت، ولم يكن في الدار رجل.
كان عبدالولي، رحمه الله، قد سافر إلى الحديدة للعمل، وإدريس، أخوه، كان هناك أيضًا، يدرس ويكدّ في سبيل لقمة العيش والعلم.
هكذا كان حال أبناء تعز، يخرجون من قراهم، يحملون كتبهم في يد، ومهنتهم في اليد الأخرى، يجتهدون بصمت، دون أن يشتكوا.
استقبلتني عمتي خوزران وانتصار بابتسامة دافئة، كأنها ضوءٌ وسط هذا الليل.
دخلت صالة طويلة، الظلام لايزال يرافقني، لكن شعلة صغيرة تنبعث من علبة حليب كانت كافية لتضيء الوجوه وتكسر وحشة الليل. رحبوا بي بحرارة، وقدموا لي عشاءً: فتة حليب بالسمن البلدي. كنت فرحًا بها.
ذلك قبل أن أكتشف "المقلب" المغمس بالسمن البلدي، الذي أعدّته عمتي خوزران صباحًا. لم أذق مثله في حياتي.
نمت باكرًا تلك الليلة، لم يكن النوم قرارًا بل استسلامًا للتعب. وعندما نهضت، كان الصباح قد تسلل إلى الدار، لا بضجيج، بل بهدوء يشبه همس الجدات. رأيت الدار كما لم أرها من قبل: بسيطة، لكنها تنبض بدفء.
الوجوه التي لمحتها في الظلام، ظهرت الآن بنور النهار. البنات كنّ قريبات من سني، يضحكن بخجل.
رأيت جدتي فاطمة الرازحي، رحمها الله، واقفة كجذع شجرة قديمة، لا تهتز، لكنك تشعر أنها تحمي المكان كله.
لم أكن أعرف القرية من قبل. كانت أول مرة أسافر، وسافرت وحدي. أظنها كانت رغبة جدي عبده سعيد، أن أذهب إلى قريتنا "الغليبة" لأدرس هناك. لكنني كنت صغيرًا، لا أفهم تمامًا معنى السفر، ولا معنى الدراسة بعيدًا عن الأبوين.
فيما بعد، أدركت كم كنت محظوظًا بذلك القرار. كانت تلك السنوات من أجمل ما مرّ في حياتي. فقد كانت مليئة بدفء البيوت، وحب الناس، وهدوء الأيام التي لا تُعاد، وذكريات "الغليبة".
شعرت حينها أنني أنتمي لهذا المكان، رغم أنني وصلت إليه خائفًا، ولم أمكث فيه سوى سنتين.
الدار كانت من طابق واحد، وملاصقة له من أسفل سفل صغير لبقرة عمتي خوزران، التي كانت تتحدث إلى البقرة كما لو كانت فردًا من العائلة.
الدار مبنية ملاصقة لدار جدنا الرازحي القديم من أعلى، ذلك البيت الذي يقف فوق تلة بسيطة، يشرف على القرية كما يشرف شيخ على أحفاده، لا يتكلم كثيرًا، لكنه يرى كل شيء. وحيدًا فوقها، حيث الهواء نقي.
كان المجلس بسيطًا، لا شيء فيه يثير الدهشة، لكن كل شيء فيه يهمس بالحنين: كُوّة صغيرة للبطانيات، تلفاز أبيض وأسود مغطى بخرقة بيضاء كأنما يخجل من أن يُرى، وبطارية لا تمتلئ إلا نادرًا.
على الجدار صور كثيرة، بعضها باهت، وبعضها يحدّق فيك كأنها تتذكر من مرّ بها.
الصور لم تكن للزينة، بل كانت ذاكرة معلّقة، لا تُقال، بل تُرى.
فقريتنا "الأعبوس"، أبناؤها عشقوا التصوير منذ القدم، منذ أيام أحمد عمر العبسي في عدن ثم في تعز فيما بعد، الذي يُعد رائد التصوير في اليمن.
نافذتان صغيرتان تطلان على دار الراكب القديمة، ونافذة ثالثة تطل إلى أمام الدار، كأنها عين تراقب الحياة بصمت.
تنظر إلى الأحوال حولها، تراقب المارة، وتحتفظ بأسرار الغياب.
وشجرة صامتة، عارية، تنام فوقها أغصان العجور متوسدة سيقانها.
غرفة نوم بسيطة، يستقر سريرها في أحد الأركان بصمت، وغرفة أخرى شبه مخزن، لا أحد يدخلها إلا للضرورة.
لكنني كنت أتسلل إليه خلسة، أبحث في الظلام عن كيكةٍ في الجونية الخاصة بطعام البقرة.
يدي الصغيرة كانت تغوص في الجونية، وكم كنت فرحًا حين أعثر على كيكة مازالت كما هي.
أما السقف، فكان أكثر من مجرد سطح: كانوا يزرعون فيه أشياء بسيطة، لكنه كان أيضًا وسيلة للتواصل بين النساء، ينادين بعضهن عبره، بأصواتٍ تحمل من الحنان أكثر مما تحمل من الكلمات.
كان المطبخ جدرانه يكتنفها السواد، ليس سوادًا عاديًا، بل سواد عاش طويلًا مع النار والدخان، واحتفظ بآثار الوجبات التي طُبخت فيه، والهمسات التي قيلت عند ناره.
رائحته كانت مميزة، لا تُشبه رائحة الطعام، بل رائحة "الصعد"، الذي لا تجده في المدن، لكنه في القرى جزء من الحياة.
المطبخ لم يكن مجرد مكان للطهي، بل كان ذاكرة مشتعلة، يختبئ فيها دفء النساء، وأحاديث الصباح.
أتذكر الغداء في وسط الصالة: عصيد مع الحقين، والحلقة.
مازلت أتذكر شحارة العصيد بالقدر الأسود المتفحم.
كانت عمتي خوزران، عافاها الله، تجلس بقربنا، تراقبنا كما تراقب الأم صغارها وهم يأكلون بشغف. سألتني:
"هل شبعت؟".
قلت لها:
"باقي قليل يا عمّة".
ابتسمت، ومسحت فمي بلطف. ثم أعادت السؤال، وهي تضحك، ضحكة لا تُنسى:
"هل شبعت الآن؟".
فقلت لها، وأنا أضحك معها:
"باقي خزق صغير في معدتي، لو ملأته، شبعت".
ضحكت، وضحك الجميع، لكنني شعرت أن شيئًا في تلك اللحظة قد امتلأ، ليس في المعدة، بل في القلب.
كلما أتذكر أن الدار أصبحت شبه متهدمة، يعتصرني حزن صامت.
كانت مأوى لنا حين نأتي من تعز، بيتًا لا يطلب شيئًا، لكنه يمنح كل شيء.
يخطر لي أن عبدالولي، رحمه الله، حين رحل، أخذ معه شيئًا من جدرانها.
لم يكن البيت مجرد بناء، بل كان يمتد من روحه، يتنفس من حضوره.
وحين غابت روحه، بدأ البيت يشتكي، ويتلاشى شيئًا فشيئًا.