صنعاء 19C امطار خفيفة

الدوشان: من دوشة إلى "ذو شأن"!

كيف يتحوّل الصوت العالي من إزعاج عام إلى وجاهة وطنية؟

في أسواق اليمن، لا تحتاج إلى أن تكون أديبًا ولا خطيبًا ولا حتى فاهمًا في أي شيء.
يكفي أن ترفع صوتك، تهز كتفيك، وتقول كلمتين غريبتين بثقة... حتى يهتف من حولك:
"يا ساتر... هذا دوشان!".
لكن ما إن تلبس عمامة، تمسك عصا، وتنسب نفسك لقَحطان أو هَمْدان، حتى يتحوّل نفس الشخص إلى:
"ذو شـأن!".
فكيف يحدث هذا الانقلاب؟
كيف يتحوّل "الدوشان"، الذي يعني في اللغة الشعبية: المزعج بلا سبب، إلى رمز بلاغة ومكانة واحترام؟
وهل نحن أمام تطوّر لغوي؟ أم مجرّد انقلاب طبقي... بصوت مرتفع؟
أولًا: من هو المواطن "الدوشان"؟
في اللهجة اليمنية، الدوشان هو:
أول من يصرخ، وآخر من يعرف لماذا.
يرى أن "الصوت العالي" أهم من "الفكرة العالية".
يبدأ أي نقاش بـ: "اسمعني!" ويختمه بـ: "أنا مش بسيط!".
لكن لحظة...
في بعض المناطق، نفس الكلمة تصف شخصًا مختلفًا تمامًا:
"الدوشان": شاعر القبيلة، منشدها، ومُعلِنها الرسمي في المناسبات!
إذن... كيف يجتمع البلطجي والناطق الرسمي في كلمة واحدة؟
ثانيًا: حين يصبح "الدوشان"... "ذو شأن"!
لا تحتاج إلى شهادة جامعية، ولا حتى شهادة ميلاد.
فقط:
1. ارفع صوتك في مجلس مشائخي.
2. اربط نسبك بأي اسم ثلاثي ينتهي بـ"ان" (مثلاً: قحطان، همدان، كهلان...).
3. امدح القبيلة، وذم المدينة.
وستحصل فورًا على لقب:
"ذو شأن".
أي صاحب هيبة وكرامة و... صدى مزعج، لكن بصبغة بلاغية محترمة!
الناس ستصفق، والمذياع سيتضخم، والنقد سيتوقف.
ثالثًا: نفاق المعنى بين البدو والحضر
في الريف:
"الدوشان" شاعر.
صوته العالي يُعتبر إعلانًا عامًا.
عمامته تمنحه مصداقية.
في المدينة:
نفس الشخص يُعتبر "تشويشًا سمعيًّا عامًا".
يتلقى شكوى من الجيران.
وربما يُطلب منه خفض الصوت... أو خفض وجوده.
فما الذي تغيّر؟
الشخص؟ أم البيئة؟
يبدو أن "البيئة" هي من تقرر إن كان صوتك "بلاغة" أم "دوّشة".
رابعًا: الدوشان في السياسة
صدق أو لا تصدق... كثير من الدوشانين دخلوا التاريخ من أبواب البرلمان:
كانوا يصرخون في الأسواق.
ثم صرخوا تحت القبة.
ثم صرخوا في القنوات... والناس صفقوا.
لم يتغيّر الأسلوب... فقط تغيّرت المنصة والمايكروفون.
في النهاية، الصوت هو العملة... والهدوء هو الإفلاس.
خامسًا: من المسؤول عن هذا التحوّل؟
القبيلة؟ ربما... لأنها تُمجّد من يمدحها، ولو بالصراخ.
المدينة؟ بالتأكيد... لأنها تخاف الصوت العالي أكثر مما تحترم العقل.
نحن؟ غالبًا... لأننا لا نفرّق بين من "يقول شيئًا"، ومن "يقول بصوتٍ عالٍ لا شيء".
الخاتمة:
بين "الدوشة" و"ذو الشأن" شعرة.
بل قل: "حرف ذال" واحد... يتبخر في لهجاتنا اليمنية!
ربما نحن بحاجة لثورة لغوية... أو مجرد زر كتم صوت.
حتى نتمكن من التفريق بين من يصرخ لأنه يفكر، ومن يصرخ لأنه... فقط يحب أن يسمع صوته.
الهوامش والمراجع:
1. معجم اللهجات اليمنية، زيد المحبشي.
2. أصوات القبائل، دراسة صوتية في الشعر والمقام والصرخة.
3. مقابلات شعبية، مأرب، ذمار، رداع.
4. موسوعة التحولات الدلالية، الجزء الثالث: "من البلطجة إلى البلاغة".
5. مصدر ميداني: "سمعته يصرخ... فظننته خطيبًا"، المواطن صالح (صاحب دكان بسباسي -سوق الزُّبيري).

الكلمات الدلالية