حين يقتل الإهمال مبدعي الصورة
كوادر تلفزيون عدن.. من رواد الشاشة إلى طيّ النسيان

في أحد برامج المسابقات التلفزيونية بمدينة عدن، ظهر المذيع سليمان الطحطوح وهو يطرح على المارة سؤالًا حول كاتب كلمات أغنية "يا بلادي". أجاب رجل ستيني بأن الشاعر لطفي جعفر أمان هو صاحب الكلمات، وأن المرشدي هو من غناها. وحين سأله المذيع إن كان متأكدًا، رد الرجل قائلاً: "نعم، فأنا من أخرجت الأغنية في تلفزيون عدن"، ليُفاجأ المذيع بالجواب ويسأله: "هل أنت مخرج؟"، فيرد: "نعم، أنا محمد حسين بيحاني".
بُثّت الحلقة عبر قناة فضائية غير حكومية، غير أن ردود الأفعال جاءت غاضبة، إذ اعتبر كثيرون أن المذيع لم يعرف واحدًا من أبرز مخرجي تلفزيون عدن في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. الغضب انعكس على تعليقات الناشطين في مواقع التواصل، ومنهم الإعلامي جمال خضر الذي قال: "اللوم لا يقع على المذيع فقط، بل على وزارة الإعلام التي همّشت بيحاني ومعه الكثير من كوادر تلفزيون عدن".

المذيع الطحطوح نشر لاحقًا اعتذارًا على صفحته في فيسبوك قال فيه: "لا أنكر أنني قصّرت في التفاعل مع الموقف، لكن الصدفة والدهشة أربكتني. وإذا كنت أنا قد قصّرت بحق الأستاذ بيحاني وأنا أصادفه لأول مرة، فماذا قدّم له أولئك الذين يعرفونه ويعرفون تاريخه؟".
بعد أشهر من ذلك اللقاء، وتحديدًا في مارس الماضي، رحل محمد بيحاني، كبير مخرجي تلفزيون عدن، إثر معاناة مع مرض عضال وإهمال رسمي طويل، ليُطوى معه فصل آخر من فصول التهميش.
إرث مهمل وكوادر تتساقط بصمت
أعادت تلك الواقعة تسليط الضوء على معاناة كوادر تلفزيون عدن، الذي انطلق في 11 سبتمبر 1964 كثالث محطة تلفزيونية في الجزيرة العربية. كثير من العاملين فيه اليوم إما يواجهون المرض، أو يكابدون الفقر والعوز، أو وجدوا أنفسهم مشردين.
خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، رحل عدد من أبرز كوادر التلفزيون تحت وطأة المرض والفقر دون أن ينالوا رعاية تُذكر. في نوفمبر الماضي توفي جميل العواضي (محرر)، وفي أبريل توفي نصر الوجيهي (كبير المحررين)، وفي سبتمبر رحلت المذيعة عديلة إبراهيم، فيما غادر في يوليو أحمد إسماعيل (المدير العام الأسبق للأخبار). كما توفي المخرج صبري عبدالباري في يناير الماضي، وفي الشهر نفسه رحلت المذيعة سميرة طاهر بعد سنوات من وفاة زوجها أحمد سعيد الحاج نائب مدير التلفزيون.
تتابعت الوفيات: المذيع طارق حسن (2021)، المخرج عادل ميسري (2020) متأثرًا بالحميات، المصور محمد عبدالله السيد، معد البرامج جهاد لطفي (2022)، والمعد صالح الوحيشي (2020)، إضافة إلى رحيل علي صالح أحمد الشيخ، أحد الكوادر المخضرمين.
سخط الموظفين
مع اندلاع حرب 2015، أُغلق مبنى تلفزيون عدن في مديرية التواهي، ونُقل بث القناة إلى مدينة جدة السعودية بقرار حكومي. غير أن الحكومة المعترف بها، لم تستوعب موظفي القناة هناك، وعيّنت بدلاً عنهم كوادر من خارجها، ما فجر غضب الموظفين القدامى.

الدكتور خالد عبدالكريم، الرئيس السابق لقناة عدن، قال لـ"النداء": "موظفو القناة الأوائل يعيشون العوز والمرض، ويموتون بصمت في مدينة تائهة بين الغلاء والعتمة والقات وصراعات النفوس".
خلال العامين الماضيين، نظم الموظفون احتجاجات ووقفات للمطالبة بحقوقهم دون جدوى. النقابي عبدالله حاجب قال لـ"النداء": "بعد تحرير عدن من الحوثيين، تدهورت أوضاع موظفي تلفزيون عدن وأصيب كثير منهم بأمراض خطيرة، ولم تقدم إدارة التلفزيون أي مساعدة تُذكر".
أما الإعلامي أحمد السلامي فأكد لـ"النداء" أن "رواتب الموظفين في عدن لم تعد تكفي لتوفير احتياجاتهم الأساسية، بينما تُصرف مبالغ طائلة بالريال السعودي باسم قناة عدن لأشخاص ليسوا من كوادرها".
كوادر منسيّة تنتظر الإنصاف
إن تجربة تلفزيون عدن، بما تحمله من إرث إعلامي وثقافي عريق، تكشف اليوم عن صورة مؤلمة لتجاهل متواصل طال كوادره الذين صنعوا تاريخًا لا يُقدَّر بثمن. فقد تحوّل كثير من هؤلاء الرواد من صانعي الشاشة إلى ضحايا الإهمال والمرض والعوز، فيما ظلّ صدى أصواتهم وصورهم عالقًا في ذاكرة جيلٍ بأكمله.

إن قصص المخرجين والمذيعين والمحررين الذين رحلوا بصمت أو ما يزالون يصارعون الحاجة، مرآة لوضع الإعلام الرسمي في اليمن، وما آل إليه من تراجع وانكسار بفعل الإقصاء وسوء الإدارة.
ويبقى السؤال الملحّ: هل سيظل هذا الإرث الإعلامي الكبير رهينة النسيان، أم أن هناك من سيعيد الاعتبار لتجربة بحجم تلفزيون عدن وكوادره؟