صنعاء 19C امطار خفيفة

الموت السريري للأحزاب في اليمن

‏من غير المعقول أن يُعتقل أمين عام أكبر حزب في اليمن، بينما تلوذ جميع القوى السياسية في البلاد بالصمت، بما فيها الحزب الذي اعتُقل أمينه العام.

تُعد واقعة اعتقال أمين عام المؤتمر الشعبي العام، هي الواقعة الأولى التي تُسجَّل لاعتقال مسؤول حزبي رفيع منذ إعلان التعددية السياسية في اليمن. وعندما كان يتعرض أي كادر حزبي، حتى لو كان من أعضاء الأحزاب الصغيرة، لأي تضييق من قبل السلطة، تشتعل الدنيا وتقوم ولا تقعد ببيانات وإدانات واسعة.
اليوم؛ يدفع المؤتمر الشعبي العام ثمنًا باهظًا لما صنعه بالقوى السياسية خلال فترة حكمه وتفرّده بالسلطة، بخاصة بعد حرب صيف 1994 التي أقصى من خلالها شريكه في الحكم وفي تحقيق الوحدة الوطنية، الحزبَ الاشتراكي اليمني. خلال سنوات ما بعد 1994، عمد المؤتمر الشعبي العام والقيادات النافذة في الدولة إلى التضييق على الأحزاب السياسية وتفريخها، إذ تمت مصادرة جزء كبير من أموال الحزب الاشتراكي، وتمكّن من تفريخ حزب البعث إلى حزبين، وحزب الرابطة إلى حزبين، والحزب الناصري إلى ثلاثة أحزاب، واتحاد القوى الشعبية إلى حزبين... إلخ.
كما يدفع المؤتمر اليوم ثمن تحالفه مع جماعة (أنصار الحوثي) في 2016، وكانت الدفعة الأولى في 2017 التي كانت قيمتها رأس علي عبدالله صالح رئيس المؤتمر الشعبي العام، وعارف الزوكا الأمين العام. ويمكن القول إن واقعة اعتقال غازي الأحول، الأمين العام الحالي للمؤتمر، هي الدفعة الثانية، ولا يُستبعد أن تكون الدفعة الثالثة أشد إيلامًا ووقعًا على تنظيم سياسي له حضوره الشعبي في مختلف المناطق اليمنية شمالًا وجنوبًا.
نحن لا نشمت بالمؤتمر، ونشعر بتعاطف شديد معه، بل نقف إلى جانبه، وقد صار مستضعفًا ومهانًا بهذا القدر المؤلم، ولا نرجو له إلا أن يكون له موقف واضح وصريح من تحالفه مع جماعة، أقل ما تُوصف بأنها "مراهقة سياسيًا وطائشة وبلا عقل"، ذلك أن صمته المطبق على ما جرى ويجري له من إذلال، يدفع الجماعة إلى ممارسة المزيد من الأفعال المتهورة.
إن استدعاء الصبر في مواقف كهذه يفتح الشهية لدى الطرف المستبد، ولا يمنح الضحية أي موقف مساند من فرقاء العمل السياسي، وبالتالي فإن التزام الصمت من قبل قيادة المؤتمر الشعبي العام في الداخل والخارج، وعدم إصدار أي موقف رسمي ولو باسم بعض قياداته تجاه واقعة اعتقال غازي الأحول، يُيسّر للجماعة في قادم الأيام اعتقال من ترى من قيادات المؤتمر أو من قيادات أي حزب آخر لاتزال تعيش في مناطق سيطرة الجماعة.
شخصيًا، لا أستبعد أن تتوسع عمليات اعتقال القادة الحزبيين، وقد تشمل -على سبيل الذكر لا الحصر- صادق أبو راس رئيس المؤتمر، ويحيى الراعي الأمين المساعد، وسلطان السامعي عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، ومحمد المقالح عضو اللجنة المركزية للاشتراكي، وآخرين من الصفوف الأولى للقيادات الحزبية والسياسية في اليمن.
تبذل جماعة أنصار الحوثي جهودًا مضنية في سبيل تحويل قيادات الأحزاب السياسية التي لاتزال تقيم في صنعاء وباقي مناطق سيطرتها، إلى أدوات ودمى تحركها كيف تشاء ومتى تشاء، تملي عليها ما يجب وما لا يجب، وكأنها تابعة لها مسيَّرة لا مخيَّرة. وقد استطاعت بالفعل السيطرة الكلية على بعضهم، ومنحتهم الفتات من المال والتلميع الإعلامي، بل حوّلت بعضهم إلى مخبرين طائعين!
لا ترى الجماعة في الأحزاب السياسية اليمنية إلا من زاوية منحها المشروعية. ومن هذا المنطلق، كان الاتفاق السياسي الذي وقّعته مع المؤتمر الشعبي العام في 2016، هو الأساس الذي انطلقت منه لتلتهم القوى السياسية، وبدأت بالمؤتمر نفسه، الشريك الشكلي، وتحاول تجميل صورتها بوضع قليل من مساحيق التجميل للتضليل على الآخرين، من خلال منح بعض الوجوه مواقع قيادية شكلية، لكنها لا تهش ولا تنش. وهو الأمر الذي أوضحه سلطان السامعي في آخر تصريح متلفز، قال فيه إن أعضاء المجلس السياسي الأعلى لا يعلمون عن القرارات ومن يتخذها إلا من خلال الأخبار. وهي إشارة واضحة إلى أن جميع أعضاء المجلس السياسي الأعلى من غير المنتمين للجماعة لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بممارسة السلطة الفعلية، ويمكن اعتبارهم مجرد شهود زور. لكن من المؤلم أن تجد أن هؤلاء "الشهود الزور" هم نخبة ممن لهم تاريخ في الحياة السياسية اليمنية، كـ"أبو راس والسامعي والنعيمي". وفي الاتجاه نفسه تجد أن الجماعة قد ركّزت أحمد الرهوي، القيادي في المؤتمر، كرئيس للحكومة، بينما في الواقع ليس سوى مجرد أداة، عليه أن يوقّع ما يُؤمر به، ووقف عاجزًا حتى عن تعيين مدير مكتبه!
في الواقع، تمكنت الجماعة من إحكام الخناق على الأحزاب اليمنية، فيما تقف هذه الأحزاب متفرجة و"متشفية" ببعضها البعض. فالمؤتمر يبرر بأن الإصلاح والمشترك هما من جلبا الجماعة إلى صنعاء في 2011، وأجبرا الحكومة على تقديم الاعتذار لها، بينما الإصلاح والمشترك يريان أن المؤتمر هو من مكّن الجماعة من السيطرة على صنعاء في 2014. وكل طرف سياسي يعتقد أنه فقط على الحق، بينما الواقع يقول إن كل الأحزاب والقوى أخطأت التقدير، وخانها الحس السياسي والوطني.
في الحقيقة، لم أكن أتوقع أن واقعة، كواقعة اعتقال الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام، ستُواجه بهذا البرود من حزبه ومن الأحزاب اليمنية الأخرى، وهو الأمر الذي يكشف أن الأحزاب اليمنية ميتة سريريًا، والميت سريريًا لا أمل في أن يعود إلى حياته الطبيعية كما كانت من قبل، ولا أمل إلا في أحزاب جديدة تولد من رحم المعاناة، لتعيد الحياة للعملية السياسية في اليمن.

الكلمات الدلالية