رائحة البحر
رائحته كانت أول ما استقبلني، قبل أن أراه،
قبل أن ألمس موجه.
وصلنا بعد العصر بباص النادي(*)، الذي كان يطوي الطريق كما تُطوى صفحة من كتاب قديم،
إلى مدينة المخا، التي بدت كظل مدينة، لا كما وصفها نيبور(**)،
ولا كما عُرفت يومًا باسم "موكا"، حين كانت تصدّر البن إلى العالم.
كنت أجلس بجانب صديقي خالد، قرب النافذة، كان يستمع إلى حميد الشاعري،
وكانت تلك أول مرة أسمع موسيقاه.
بدت غريبة، لكنها علقت في ذهني.
أختلس النظرات إلى الكابتن فؤاد، الجالس أمامنا،
بوقارٍ يشبه الصمت، وحنوٍ يشبه الأبوة.
كنا في الخامسة عشرة، نريد أن نكتشف العالم،
نضحك بفرح، لا شيء يعكر صفونا.
حتى العراك...
ننساه في لحظات،
لم أكن قد رأيت البحر من قبل.
كنت مشدودًا إلى تلك اللحظة، كأنني أسير نحو حلمٍ قديم.
وصلنا إلى وادي الملك قرب المخا بلهفة.
لم يكن بحرها عميقًا، لكنه كان ساحرًا بزرقته،
والنخيل يحيط بالساحل كأنه يحرسه من شيء لا نراه.
حين وصلنا، كنت فقط أنظر إليه،
كأن العالم من حولي قد اختفى.
أحببته قبل أن أراه،
رأيته في الكتب، في الصور، في أحلامٍ لا تكتمل.
لكن حين وقفت أمامه، شعرت كأنني أمام شيء حيّ،
شيء يتنفس، يراقبني، يختبرني.
فدائمًا، التجربة الأولى لا تُنسى،
لأنها لا تكتفي بالمرور،
بل تترك أثرًا يطبع في أعماقنا.
الموج يتقدّم ويتراجع،
رائحة البحر، صوت ارتطام الماء، صوت الطيور، وبقايا ما يلفظه الشاطئ...
كل ذلك أربكني.
خلعت حذائي، وتقدّمت بخطوات مترددة.
الرمال دافئة، ناعمة، كأنها ترحب بي.
ثم لامست قدماي الماء.
بارد... لكن ليس برودة مؤذية،
بل برودة تشبه يدًا تُوضع على جبينك حين ترتجف.
ضحكت، ونظرت إلى خالد، كان يضحك أيضًا،
لكنه لم يكن يفهم ما يحدث داخلي.
كنت أريد أن أصرخ:
أنا هنا! البحر أمامي! أنا لست في كتاب، ولا في حلم... أنا في الحقيقة.
تقدّمت أكثر،
غمرتني المياه حتى ركبتي،
شعرت بشيء طاغٍ يتسلل إلى أعماقي، وقدماي تغوصان في الرمل،
نسيت كل من حولي، وكأنني أصبحت جزءًا من الزرقة.
ثم، وسط كل ذلك، بدأت أكلّم البحر بهمس المحبين...
قلت:
هل كنت تنتظرني؟
كل هذه السنوات، وأنا أراك من بعيد، في الصور، في الحكايات...
فقال:
أنا لا أنتظر أحدًا، لكنني لا أنسى من يشتاق إليّ.
قلت:
أخافك قليلًا.
أنت واسع، غامض...
فقال:
كل من أحبّني خافني أولًا.
قلت:
هل تخبئ أسرارًا؟
هل دفنت أحلامًا؟
فقال:
أنا لا أفضح أحدًا.
كل من حلم، خبأت حلمه في موجة، حتى يعود.
قلت:
هل قرأت رواية الشيخ والبحر(***)؟
فقال:
كنت هناك، حين كتبها همنغواي.
كنت في عيني الشيخ، وفي صراعه، وفي انتصاره.
أنا لا أُهزم، حتى حين أُنهك.
قلت في نفسي:
شكرًا...
كنت أظن أنني جئت لأراك،
لكنني الآن أرى نفسي.
---------------
(*) باص نادي طليعة تعز، بقيادة المدرب الكابتن الفاضل فؤاد عبدالله.
(**) الرحالة الألماني كارستن نيبور زار مدينة المخا بين عامي 1762 و1763، وسجّل وصفًا دقيقًا لها في كتابه "من كوبنهاجن إلى صنعاء".
(*) رواية "الشيخ والبحر" هي من أعظم أعمال الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، نُشرت عام 1952، وحازت على جائزة نوبل في الأدب عام 1954.