صنعاء 19C امطار خفيفة

اشتباك السرد والتاريخ في رواية "هذه ليست حكاية عبده سعيد" لنادية الكوكباني

أين تبدأ حدود التخييل وأين تنتهي سلطة الوقائع؟

أين تبدأ حدود التخييل وأين تنتهي سلطة الوقائع؟

الاشتباك مع الموضوع التاريخي، في فنون السرد (الرواية على وجه الخصوص) لايزال يثير الكثير من الأسئلة الإشكالية المفتوحة، لا سيما حين يتقاطع النص المنتج إبداعيًا مع أزمنة وتواريخ متعاقبة، قريبة أو بعيدة، جرت مقاربتها بكثافة، وصارت بحكم الثابت والمسلم به، أو حين يذوب النص في فضاءات متخيلة، وهي في الأصل مكانية محددة ومعرّفة جغرافيًا، يصعب إعادة تعريفها بمقترحات التخييل.

لهذا حين يتعامل الكاتب مع المادة التاريخية الإشكالية، يجد نفسه إزاء معادلة حساسة تتطلب الكثير من الوعي والحذر: أين تبدأ حدود التخييل الأدبي؟ وأين تنتهي سلطة الوقائع المثبتة في المصادر المعتمدة؟ وهل يُتاح للمبدع أن يتحرك داخل هذه المساحة بتلقائية لإنتاج سردية تتقاطع مع الرائج من المرويات، بما فيها تلك التي باتت تُعدّ جزءًا من الذاكرة القرائية نتيجة ما منحته لها الوثائق والمذكرات السياسية وكتب التاريخ من وثوقية وتأثير؟
من وجهة نظري، أرى أن المخيال السردي يمتلك مشروعيته الكاملة، حين يعيد تشكيل المادة التاريخية -وقائعها وأحداثها- بما يخدم النص الأدبي، ويحرره من الجفاف الوثائقي، ويدفعه نحو أفق أكثر طراوة وانفتاحًا على احتمالات الكتابة المتجددة والمتخففة من سلطة النص المتصلب ويقينيته، لكن ليس إلى الحد الذي يفقدها روحها.
فالكتابة الإبداعية، بطبيعتها، تسعى إلى إعادة تعريف الزمن وتشكيله في منصوص المكان بوصفه فضاء قابلًا للقراءة، لتتيح للمتلقي مساحات حرة لتأويل سرديتهما وتفكيكها، لا إلى استنساخها وإعادة انتاج صورها بالتدوير السهل، بمعنى أقرب أنها تعيد تشكيل العالم وهي تبحث عن المسكوت عنه، والهامشي، والملتبس، وتعيد تقديمه ضمن رؤية تخييلية تمنحه حضورًا فنيًا ووجودًا جديدًا داخل معادلة الإنتاج والتلقي (طرفاها الكاتب والقارئ ووسطهما اللغة).
لكن، وفي المقابل، لا يمكنني أن أكون مع التوظيف غير المنضبط أو المباشر للأسماء الصريحة، أو الأحداث المتحققة، أو المسميات المحملة بإشارات واضحة، داخل بنية النص السردي، دون مراعاة وظائفها الحقيقية كما توثقها المصادر التاريخية المتداولة.
فهذا النوع من التوظيف، الذي قد يبدو مغريًا في لحظته توليده الإبداعي، لكن سرعان ما يؤدي إلى ارتباك النص وتشوّش بنيته، بل وقد يضع القارئ في حيرة بين ما هو تاريخي وما هو متخيل، خصوصًا حين تُطمس الحدود بينهما بلا إقناع كافٍ.
بمعنى أقرب، أنا ضد "اعتساف" الموضوع التاريخي، سواء من حيث الزمن أو المكان، وضد إذابته في النص الأدبي بطريقة مرتجلة أو مشوشة، لا تمنح النص صفة أدبية مكتملة، ولا تتيح له أن يُقرأ بوصفه سردًا تاريخيًا محكومًا بمنهجية التوثيق وصرامة المعاينة.
والنتيجة، في أغلب هذه الحالات، أن النص لا يحقق توازنًا بين المرجع والمتخيل، فيتوه في منطقة رمادية بين المحكي ببناه السردية والتاريخ، أي بين ما هو فن أدبي وما هو وثيقة تاريخية صماء.
ما دعاني إلى إثارة هذه الإشكالية المركبة، هو العمل الروائي الأخير للكاتبة نادية الكوكباني، الموسوم بعنوان "هذه ليست حكاية عبده سعيد"، وهو عمل ينتمي إلى هذا النوع من الاشتباك بين السرد والتاريخ، ويثير الكثير من الأسئلة حول حدود التخييل، ووظيفة السرد، وفعالية الاقتراب من الشخصيات والوقائع ذات الحضور التاريخي شديد الالتباس، وتفكيك سيرها الأصلية وإعادة بنائها من وجهة نظر أدبية مؤسسة على المتخيل.
هذا العمل، كغيره من النصوص التي تتكئ على التاريخ، يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول العلاقة الإشكالية بين النص الأدبي والمروية التاريخية، ومدى قدرة الكاتب على إنتاج سردية تُسائل الرواية الرسمية للتاريخ، من دون أن تقع في فخ تشويش الوقائع أو تحريف الأدوار.
(*) مدخل المادة القرائية للرواية الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية 2025

الكلمات الدلالية