صنعاء 19C امطار خفيفة

صوت من المطبخ

صوت من المطبخ

الإهداء: لجارتنا سميرة، رحمها الله.

كنت جالسًا متلحفا بالبطانية، أشاهد حلقة الكابتن ماجد، لما سمعت صوت أمي من المطبخ، بصوتها اللي عرفت منه إن في مهمة تنتظرني.

— "يا إبراهيم، قم اشتري لنا زيت، الزيت خلص!"
ردّيت وأنا أتنهد:
— "يا أماه، مش كل مرة أنا اللي أروح، خلّي أخي يروح."
قالت وهي ترفع صوتها:
— "أخوك قد وصّيته أمس، لمكان بعيد، قم لا تتدلّع، وإلا والله ما أشتري لك البوتي!"
— "قلت حاضر، حاضر، با قوم..."

قمت وأنا أتمتم: "كل ساعة تهديد! دايمًا توصيني أنا..."

نزلت للدكان، اشتريت الزيت ورجعت، وأنا أتنفّس الصعداء، قلت: أخيرا باجلس أشاهد. لكن ما لحقت أجلس إلا وسمعت صوتها من جديد:
— "قم روح لعند جارتنا، قل لها باجي لها العصر."
صحت من مكاني:
— "يا أماه، ليش ما قلتي لي وأنا خارج؟ كنت قلت لها مع طريقي!"
قالت وهي تغسل الصحون:
— "ما تذكرت إلا الآن، قم لا تتأخّر."

وأنا أقوم، شفت أخي يخرج لسانه لي بإغاظة، وضحكته تملأ وجهه. تجاهلته، لكن في داخلي كنت أفكر في البوتي الجديد اللي وعدتني أمي تشتريه لي. تخيلت نفسي ألبسه، وأركض به في الحارة، الكرة تحت قدمي، والعيال يصرخوا باسمي:
— "إبراهيم! إبراهيم!"
كنت أتخيل نفسي أهدف أهداف مستحيلة، مثل الكابتن ماجد، أطير في الهواء، وأركل الكرة فتشق السماء وتدخل الشباك، والجميع يصفّق.
حتى جارنا عمي صالح، اللي دايمًا يصيح علينا لما نلعب قريب من دكانه، تخيلته يبتسم ويقول:
— "هذا الولد با يصير نجم!"

كنت أضحك لحالي، وأنا أعد الأهداف اللي با أسجّلها، وأتخيل شكل البوتي: لونه أسود، فيه خطين بيض، يلمع تحت الشمس، وكل ما أشوت الكرة، يطلع صوت.

ما انتبهت لسرعة خطواتي وأنا أسابق خيالي، إلا وقد وصلت باب الجارة. طرقت الباب، فتحت لي وهي تبتسم، قلت لها:
— "سَعَم تقلك أمي إنها با تمر عليك العصر."
ضحكت، ضحكة خفيفة، وقالت:
— "إيش قلت؟"
— "قلت سَعَم تقلك أمي إنها با تمر عليك العصر."
ضحكت أكثر، وقالت:
— "سَعَم؟! طيب، قل لها إني جالسة بالبيت."

رجعت وأنا أفكّر: ليش تضحك كل مرة أقول لها "سَعَم تقلك أمي..."؟ ما كنت أفهم، بس كنت أحس إن في شيء يضحكها... شيء ما عرفته وقتها.

رجعت البيت، وأمي كانت على وشك تغسل الرز، سألتني:
— "إيش قالت لك؟"
قلت:
— "قالت لك إنها جالسة."
قالت أمي:
— "طيب، روح اغسل يدك وتعال ساعدني."

جلست جنبها، وأنا أغسل الرز بيدي الصغيرة، والماء بارد، لكن قلبي دافئ، دافئ بحقيقة إنّي هنا معها، أساعدها، وفي انتظار وعدها.
كنت أفكر: "لو أمي اشترت لي البوتي، با أكون أسعد واحد في الدنيا، وبا أثبت لها إنّي أستحق هذا الوعد."

وفي لحظة، رفعت رأسي، ونظرت لأمي. كانت منشغلة،
وحبّات الأرز تنساب بين أصابعي،
ملامحها كانت هادئة ومطمئنة.
ذلك الهدوء كان بالنسبة لي ملاذ،
وكنت مشغول بحلمي الكبير اللي كان يلمع في عينيّ كلما تذكّرت شكل البوتي.

بعد أيّام من الوعد، وفي ليلة لا تُنسى، دخلت أمي البيت. سمعتها تناديني، فأسرعت نحوها بلهفة، وإذا بها تخرج من الكيس اللي كانت تحمله "البوتي" اللي كنت موعود به.
رفعت رأسها وقالت لي بابتسامة المنجِز:
— "اشتريت لك بوتي جلد، مش كل شهر تقطع بوتي!"،
احتضنتها، وكادت دموع الفرح تخرج، قلت لها:
— "ولا يهمّك، ما هذا البوتي با يجلس معي سنة!"

أخرجت البوتي من كرتونه، ونظرت له كنظرة المحبّ لحبيبته؛ أسود لامع، بخطين أبيضين، كان كما رسمته في خيالي... وأجمل.
كم فرحت به تلك الليلة! من شدّة فرحي، نمت وأنا لابسه، وحاضن كرتونه بصدري، أحسّ بلمعانه تحت الغطاء، ودفء جلده على قدمي.

في صباح اليوم التالي، لبسته أول مرة في الحارة. شعرت بالانطلاق، وتذكّرت كل الأحلام اللي نسجتها:
"سأطير مثل الكابتن ماجد، وأشوت الكرة فتشق الشباك!"
لكن، في أول مباراة، خذلتني الأقدام.
ما قدرت أسجّل هدف واحد.
ما طرت في الهواء، ولا أطلقت الكرة صوت مدوّي مثل ما تخيّلت، بل تعثّرت مرتين، وشعرت بثقل الجلد الجديد على قدمي.

خابت كل تلك التخيلات اللي نسجتها وأنا أتأمل الخطين الأبيضين على الحذاء اللامع.
أدركت وقتها إن الحذاء مجرّد أداة، وإن السر مش في لمعان الشكل، ولا في صوت الشوته، بل في الجهد والموهبة اللي تطلع من الداخل.

كان هذا درس تعلّمته من بدري:
إن الأصل في الجوهر، مش في الزيف ولا في المظاهر.

واليوم أتذكّر أمي، وصوتها الدافئ من المطبخ،
وأقول في نفسي:
"الله يرحم تلك الأيام، رغم بساطتها كانت جميلة،
ويخلي صوت أمي دايمًا عامر في البيت..."

الكلمات الدلالية