قصة وجه أبي (٤)
9
ذات ليلة مقمرة كنت أجلس وحيدًا على سطح البيت، وأنا أردد قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان". رفعت كفي أدعوه بيقين الاستجابة "اللهم ما كان حزني تمرداً مني على قضائك ،وما كان جزعي يأس من رحمتك ولكن قلبي أهون من ان يتحمل الكثير، فلقي عليه عفوك ورضاك وجبرك ، اللهم بعظمتك خفف عني هذا الفقد وهذا الحزن، واجعل لي من امري مخرجاً جميلا ".
اتكأت على الجدار وأنا أتأمل في ضوء القمر، شردت وأنا أستعيد كل ذكرياتنا، لم نعد إلى المدينة كما وعدتنا أمي، لم يكن أسبوعًا أو أسبوعين كما كانت تقول لنا، لم يأتِ أبي، وتركني عبدالله توأم روحي، أمي قلبي النابض تركتنا هي أيضًا، أتحسس يدها بيدي الآن، يا الله ما هذا الوجع، رحلوا كلهم، ماذا تبقى؟
ما هذه الحرب اللعينة؟ من السبب في كل ما حصل معنا؟ من المستفيد؟
لماذا يتصارعون على السلطة ونحن من ندفع الثمن؟
الأسر كلها مكلومة، أوضاعنا لا تسر صديقًا ولا عدوًا.
حياتنا تغيرت بالمجمل، واقع فرض علينا وما أمرّه!
آه وألف آه يا لوجع الحياة بعد فقدان الأحبة!
أتذكر كلمات أمي وهي توصيني بعمر وجنى، وأمسح دموعي التي لا أملك سواها.
سألت نفسي من يكون لهم إذا بقيت على هذا الحال؟
فكرت طويلًا بوصية أمي، وبكيت كثيرًا.
شعرت بوجود عمتي قربي، جلست معي ومسحت دموعي، وعدتني أنها وعمي لن يتخليا عنا ما كان بهما روح، وأنها أم لثلاث بنات، وأنا ابنها الكبير الذي حرمت منه، وعمر وجنى ولداها الصغيران، طلبت مني أن أكون قويًا لأجلهم جميعًا، وأن أحاول الخروج، والذهاب إلى المدرسة، وأن أتأقلم مع الحياة.
ارتميت في حضنها وأنا أتذكر كلام أمي أنها في مقامها، بكيت وجع الحياة، بكيت قدري الأليم، بكيت حتى شعرت بالراحة وكأنني بحضن أمي، وعدتها أن أتغير بعون الله، وبمساندتهم لي.
كانت الأيام ثقيلة بكل أوجاعها، لكن حاولت أن أبدأ من جديد مع الحياة.
علم عمي أن مالك البيت في المدينة جمع أثاث شقتنا وكل الأغراض، وعرضها للبيع، وأخذ قيمتها من الإيجارات المتراكمة على أبي، وأخذ شقته.
حزنت كثيرًا لما آل إليه حالنا، لكني فكرت هل ينفع الحزن والحسرة على الجماد، فقد رحل من هم أغلى من ذلك، ومهما كان حزني على أغراضنا التي هي ذكرى من رحلوا، لكنه لن يكون كحزني على الأغلى منها، فكل شيء يعوض إلا أحبتي.
تتساءل جنى وعمر عن ألعابهما، وعن أمي وأبي، وعن عبدالله، ومتى يعودون؟
تناثرت كل الأحلام من حولي، لأبقى جسدًا بلا روح، بلا شغف للحياة، بلا أمل.
كل صباح آخذ عمر وجنى للمدرسة، عمر يشعر بالخوف، دائمًا يعيش حالة من الانطواء، لا يدافع عن نفسه، جنى لا يستطيع أحد أن يقرب منها، صارت أكثر شراسة.
عندما أشاهدهما مع أطفال القرية يلعبون بالتراب والطين والأدوات الخردة، أتذكر أبي وكيف كان يشتري لهما كل الألعاب، وكيف كانا في نعيم، وأتأمل لتصاريف الأقدار كيف تحدد مسار البشر وبغمضة عين.
أشعر بالأسى، لا شيء يعوضنا تلك الحياة التي فقدناها.
آه كم أنا مكسور وضعيف ولا أحتمل المزيد من الوجع.
لولا عمر وجنى لشردت في وجه هذه الأرض، لا شيء يستحق البقاء.
هما ريحة أبي وأمي وأخي، هما الوجه الآخر من حياتي.
لم أستطع العودة للمدرسة، فأنا لا أستطيع ان أستوعب أية معلومات، ولا أريد أن أحمل عمي المزيد من التكاليف.
عملت حمالًا في محل بسوق قريتنا كي أساعد عمي في بعض مصاريف البيت، فهو الآخر يعمل في البناء وبالأجر اليومي، لأنه لم يستطع العودة لعمله، فقد طال أمد الحرب، وفقد الكثيرون أعمالهم مثله.
ذات يوم عدت وثيابي متسخة بالطحين والغبار، ضحكت هالة وهي تعلق: "وأين أناقة علي الذي كان يرى نفسه دنجوان زمانه؟"، صاحت عليها عمتي ونهرتها، وهي تقول: "هذا العبد الذي يحبه الله، الذي يشقى ويأكل من عرق جبينه"، وأخذت ترفع من معنوياتي، وتقول إن المستقبل لي، وسوف أسافر، وأدرس بالخارج، وأرجع طبيبًا من مثلي.
قربت نهى مني وهي تقول: "ولا تهم يا علي، أنا سوف أغسل ثيابك كل يوم، وتبقى علي الأنيق دائمًا".
نهى أقرب بنات عمي لقلبي، رفعت رأسي وأنا أضحك، وفي قلبي وجع لا يوصف ولا يحتمل، شكرتها وقلت لها: "خلاص ودعنا الأناقة والدلع، هذه الحرب دمرت كل شيء، بعد فقدان الأحبة لا شيء يستحق..".
بعد أيام تواصلوا مع عمي من أجل مستحقات أبي، طلبت عمتي من عمي أول شيء يعمله يشتري لي دراجة نارية حتى أشتغل عليها، فهي لا تستطيع أن تتحمل أكثر وهي تراني أتعب وأشتغل حمالًا، كما أنها تريد أن أعود للمدرسة وأكمل دراستي وأحقق حلم أبي.
كان لعمي وعمتي الفضل بعد الله في أن يعوضنا عن ذاك الفقد الموجع، بالرغم من أن فقدان الأحبة يظل ثقبًا في القلب لا يندمل، ولا شيء يعوض مكانهم.
قربت امتحانات الثانوية وها أنا أستعد لها وكلي أمل أن أحصل على المعدل الذي كان يحلم به أبي..
"عهدًا سوف أحقق لك ما تريد يا أبي، سوف تفخر بي، نم قرير العين يا مهجة الفؤاد".
10
الليل كان صديقي الوحيد الذي أستطيع أمامه أن أبكي وأمارس طقوس وجعي دون أن يراني أحد.
فكلما أضع رأسي على الوسادة، أتذكر كل أوجاعي، وأتذكر حياتنا التي كانت حبًا واستقرارًا، وما نحن عليه الآن.
ذات ليلة ثقيلة بحزنها تذكرت أحبتي، لأشرد بعيدًا، وأنا أتذكر بيتنا وحارتنا وأغراضنا، وتألمت لفقدان كل شيء، غلبني النوم وأنا أشعر بالقهر والوجع.
عدنا إلى المدينة، ذهبت لحارتنا، أطلت النظر لشقتنا، لا شيء يعود لنا، لا شيء يعنينا.
كثير وجوه بالحارة لا أعرفها، وكثير من الذين كانوا يسكنون فيها لا وجود لهم.
سألت بقلب محروق وبحسرة عمن اشترى أغراضنا، فلي معها ذكريات كثيرة.
دلوني على الأسرة التي اشترتها. فذهبت إليهم على خجل، قلت: "هل يمكن أن أشتري منكم بعض الأشياء؟".
قابلتني الأم بلطافة وبشاشة لم أتوقعها، قالت: "لك ما تريد يا ولدي، ولكن لي طلب واحد"، قلت: "اطلبي يا خالة".
قالت: "احكِ لي قصتكم يا ابني، أين كنتم كل هذه المدة؟ وكيف تركتم كل ما تملكون، ولم تسألوا عنه حتى الآن؟ أنا عندما شاهدت ترتيب أغراضكم، وصوركم ووثائقكم، وشهادات المدرسة، وشهادات التكريم، ومتعلقات الأب وأوسمة تكريمه ومذكرات حياته، عرفت أنكم أسرة مميزة، لكن كيف تركتم كل ذلك ولا بحثتم عنه؟".
حينها تذكرت كلام عمي إبراهيم عندما قال لأمي إن العم يحيى حكى له أن أبي عندما مر شهرين من سفرنا إلى القرية، وقبل أن ينقل للمهمة الجديدة، حاول ترتيب كل حاجاتنا في الحقائب والكراتين، وحاول أن يحكم ربطها، خوفًا من أن يدخل أحد الشقة ويعبث بالأشياء، حيث كان هو من يقوم بمساعدته عندما كانوا يرجعون للشقة ويأخذون راحتهم فيها.
أخذت أحكي قصتنا وأنا أتخيل كل التفاصيل، وأتخيل أبي وأمي وعبدالله وشقاوة عمر وجنى، بكيت ولم أتمالك نفسي، كل من كان معي بكى وتألم وهو يسمعني، حكيت عن رحيل أحبتي وما صار إليه حالنا.
قالت الخالة: "أنا بمقام أمك وأنت لي مثل ابني سامي، هذه كل حاجاتكم في الحفظ والصون، وعهد الله إنني قلت لن نلمس شيئًا حتى يظهر صاحبها، والآن أي وقت تعال خذ كل شيء وبدون مقابل يا ابني، فالغد لا ندري ماذا يقع بنا، الدنيا هذه غدارة، وبلادنا في صراعات وحروب مستمرة".
استأجرت شقة بجوار شقة عمي، وذهبت، وأخذت كل أغراضنا، كنت أسهر الليالي مع عمر وجنى، ونحن نتأمل في أوراقنا وصورنا وأغراضنا، وأغوص مع ذكرياتنا.
تحلق أرواح أبي وأمي وعبدالله معنا.
التحق عمر وجنى بالمدرسة، مرت الشهور الأولى، وبدأ التواصل من إدارة المدرسة بضرورة حضور ولي أمرهم.
ذهبت أنا، أخذت المشرفة تحكي باستياء عن المستوى الضعيف لعمر في درجاته، ومن انطوائه الشديد، وأنه يرفض الحديث معهم.
وأيضًا تشتكي من جنى أنها لا تتقبل أحدًا من زميلاتها، وشرسة في التعامل، وإذا زميلة أخذت شيئًا من أدواتها لا تشتكي لمعلمتها، بل تقوم بضربها بعنف.
قالت بلهجة حادة: "أين أبوك أو أمك ما يزورونا أو يعلموهم في البيت كيف يتعاملوا مع الطلاب والمعلمات، جنى عكس عمر ما في بينهم توازن أبدًا، وإذا جاء أحد يكلمهم أو ينصحهم على طول يبكوا ولا يرضوا يتكلموا".
أخذت أحكي لهم المأساة التي يعيشان فيها، وفقدان أبي وأمي، ومعاناتنا في القرية.
وطلبت منهم أن يكون هناك تعامل برفق معهما، وأن نساعد بعضًا في أن يستعيدا توازنهما النفسي، وأنا لن أقصر معهما في شيء.
تحول المكتب إلى بكاء، واعتذروا لي لأنهم لا يعرفون قصتهم، ووعدوني أن يكون لعمر وجنى تعامل خاص، وأن إدارة المدرسة سوف تعفيهما من الرسوم، وأن تشملهما برعايتها الخاصة من اللحظة.
جاء الليل، وجلست معهما نحكي عن المدرسة، وهما سعيدان أن مديرة المدرسة استدعتهما للإدارة وكرمتهما وشجعتهما.
كنت سعيدًا بتغير نفسيتهما، ونمت وأنا أحضنهما أمامي، فهما كل دنياي، لأول مرة أشعر أني مرتاح وأنا أضع رأسي على الوسادة، نمت بعمق، كنت أشعر بالبرد يتسرب من بين مفاصلي، لكني لا أستطيع أن أسحب البطانية لأتغطى بها، فالنوم يغلبني، عندها لمحت أبي وهو يغطيني ويقبل رأسي ويقول: "ادفأ كويس يا علي"، وذهب ليغطي عبدالله أيضًا، سمعت أمي تهمس له: "أولادنا مازالوا أطفالًا يا محمد، سنظل كل ليلة نتفقدهم".
شعرت بالدفء، ونمت على همس أبي وأمي..
صحوت على صوتها: علي، علي..
كنت أقول لها: "صحي عبدالله أولًا يا أمي، برد، برد، لا أريد أن أخرج من تحت البطانية".
شعرت بيدها على رأسي وهي تقول: "بسم الله عليك، بإذن الله خير يا علي، اصحى حبيبي، أنا عمتك، في واحد خارج ينادي لك معه مشوار. وبعدين الجو بارد وأنت منزوي على فراشك، والبطانية مرمية بعيدًا عنك، ما تشعر بالبرد وتقوم تدفأ، كل يوم أشوفك على نفس الحالة".
نهضت مفزوعًا أتأمل في وجه أمي، في وجه أبي، أبحث عن عبدالله بجواري، أتأمل في الغرفة، في الصور والمذكرات، في أغراضنا، في جنى وعمر وهما بحضني.
مددت يدي لأسحب البطانية وأنا أتغطى بها كمجنون تكور داخل بطانيته على ناصية الشارع.
كنت أفرك عيني، وأتأمل في كل أرجاء الغرفة، لا شيء هنا، لا شيء، غطيت وجهي بكلتا يديَّ، وبكيت بأعلى صوتي: "لا، لا، لا".
عمتي تحاول أن تهدئني: "خير يا علي، خير يا حبيبي، صلِّ على النبي".
وجدت نفسي لا أملك إلا الدموع، وأتساءل: هل كان حلمًا ذاك؟ وهل كان حلمًا آخر في حلم؟
يا رب لا أقوى على التحمل، تعبت يا الله، تعبت، لماذا رحلوا؟ لماذا أخذتهم يا الله؟
يا الله ما أمر هذه الأيام وما أثقلها؟! يقتلني الحنين لهم، يقتلني وجع الفقد الأبدي، يقتلني الاحتياج لهم.
انكسر قلبي بعدهم يا رب، رحل جزء مني معهم.
آاااه غصة رحيلهم توجعني.
وحدهم كانوا الحب الذي يلازم قلبي، كانوا الأمان لي، وكانوا السلام.
آاااه يا وجه أبي المنير، ماذا تركت وراءك..؟ أنا مجرد حطام. ما ذنبي لأعيش هذا الحزن وهذا الفقد وهذا الوجع؟
نعم أنا مازلت ذاك الطفل يا أمي، ذاك الطفل الذي يحتاج لحنانكم وتفقدكم كل ليلة.
آاااه يا أمي أنا الطفل الذي أتعبه الفقد بعدكم.
17 عامًا يا أمي، صرت بها رجلًا بحكم قانون الحياة، كم عليَّ أن أتحمل من مرارة بعدكم.
صوت عمتي يطمئنني: "صرت الرجل يا علي الذي يقف مع إخوانه، ويتفقدهم، ويعوضهم الحنان. أنت الآن الرجل حقهم يا ولدي. دع وجه أبيك قمرًا وشمسًا ينيران لك الدرب، أنت الآن الأخ الذي يجب أن يقاوم ليكمل المشوار، دع أحبتك ينامون بسلام في الجنة".
عاهدت نفسي أن أكمل المشوار، ولن أدع عمر وجنى يشعران بالفقد ولا باليتم، وسأعمل ما أستطيع لأعيد لهما التوازن النفسي، ولن أدع أحدًا يشتكي منهما، أو أنهما يحتاجان شيئًا..
ولتكن المدينة وجهتي المقبلة، ولا بد للحلم أن يتحقق.