كنت في دماج 4
بين هالك وقباض الأرواح: طرشة الموت الإقليمي في اليمن
قالت لي الجزمة:
"أتمنى ألا يحرم الله قدمًا من حريتها، فحرية القدم لا تشبه حرية الصحافة ولا حرية الوجدان" من قصة "الحذاء الضيق"-، عزيز نيسين.
**
لن أتحدث هنا عن جزمة/ حذاء سندريلا أو وريقة الحناء، أو باربي، ولا حذاء منتظر الزيدي وهو يرمي بحذائه الرئيس الأمريكي جورج بوش، أو رشيدة القيلي وزميلاتها المعروفات بتسجيل بطولات خارقة في رمي الجزم في وجوه (الأعداء والخونة حسب قولهن)، ولا حذاء خروتشوف وهو يضرب به على طاولة الوفد السوفيتي في الأمم المتحدة، اعتراضًا على خطاب رئيس الوفد الفلبيني... الخ من الأحذية التي دخلت التاريخ.
سأتحدث عن أحذية الموت والفجيعة والفرار التي مازالت تسكن بألم في مخيلتي المضطرمة بأهوال الانهيار والدمار والتخريب والرصاص المنثور والمدافع والكثير من الأسلحة في دار الحديث بدماج ومعسكر "أم الرياح" الذي لجأ إليه العديد من الرجال الدماجيين.
في قراءة صور الأحذية يتداخل العنف المادي والرمزي بقوة، وتشكيل تفاصيل كل حذاء سردية خاصة بها، أكان بلاستيكيًا أم جلديًا، فرديًا أم زوجيًا، مفصولًا، بربطة أو بدون، وعلى اختلاف الألوان.
كان الحذاء الأسود هو الطاغي من بين جميع الأحذية.
تبادلنا والأحذية -معًا- الحكايات الأليمة، وسيرة كل فرد لبسهن أو رمقهن، تخطاهن، داسهن، رمى بهن، أو مر عابرًا لا يلتفت إلى أي شيء، سوى النجاة.
تذكرت أحذية اليمنيين في مهالك الحروب المتوالية والتصفيات والانقلابات، خصوصًا في احتجاجات 2011، أو ما يسمى الربيع العربي، بمن فيهم الناجون، وصولًا إلى الحرب الأخيرة الممتدة من العام 2014، إلى اليوم، هل ننسى أيضًا أحذية الغرقى في بحور العالم، الفارين من جحيم"بلدة طيبة ورب غفور"!
في دماج ومعسكر "أم الرياح" رأيت بعض الأحذية المتناثرة والعارية، أحذية اللاوجه واللاجسد، الغياب والفقد، القتل أو الترحيل والتشرد، أحذية منسية، فجائع منثورة على كل رمل وغبار، وحجر "بلق" عمر بيتًا وهدم أيضًا، لطفل يبحث عن أبيه وأخيه، وسؤاله: أينهم؟ ولماذا أنا وحيد هنا؟
أرواح فاضت، أو ربما علقت داخل الركام، وكما حدثنا أحدهم أن بعض الجثث مازالت تحت الركام، ويشير بإصبعه لبقايا مبنى كتب عليه: الله أكبر!
وليس بأخير، أحذية عندما تغيب الدولة والقانون، وحق الحياة، يحدث أي شيء من المتخيل واللامتخيل، وأسه قطيع الغاب، كل يأكل الآخر، وأشد فتكًا للإنسان، تبرير القتل والقتل المضاد بداعي السماء/ الله والقبيلة وعيبها الأسود، السم الفاتك باليمن أرضا وإنسانًا.
2
صورة الأحذية المختلفة (بيادة عسكرية، صندل، حذاء رياضي، عادي) كانت منثورة في مواضع متفرقة من مبنى "دار الحديث"، في الدرج، عند الأبواب، ومفترقات المساحات الترابية، وبين أكداس الملابس العسكرية والمدنية، والمخدات الملونة، طاوة الخبز العتيقة، صندل التصقت بأسفل أحد الجدران. حتى وإن بدت تلك الأحذية الوحيدة صامتة جامدة، لكن في صمتها أبلغ الكلام، ألم مضاعف، حزن متكثف في كل تكوينات الحذاء وتلويناته، وتهشمها، بما فيها الأربطة والنعل والغبار المتراكم عليها.

انحنيت أتأملها، أصورها، وأحاكيها، فمن الذي بدأ الحكاية، لست أدري، فيض الحكايات ابتدأ بتأتأة دامعة تقشعر لها الأبدان، لا يتسع المجال للكتابة عنها في هذه المقالة، فمن قال إن الأحذية لا تتكلم؟!
نعم، إنها أحذية ناطقة، خصوصًا أحذية القهر والحرب والنزوح، والفجيعة، وأحذية "نحن هنا للجهاد الأكبر"، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ومحاربة الكفار والملاحدة والشيوعيين والزيود والنساء، واليهود، والموسيقى والفن والحياة، ووو...
همست لي فردة حذاء، كان صندل امرأة ما، قائلة: هُلكنا من استدعاء القتال كل يوم وحتى قيام الساعة على أتفه التوافه، أكان من الماضي، أو حتى الحاضر، قتال لا ينفك إلا بطلب المزيد من أبنائنا وأزواجنا والأقارب، كل ساعة أرواح تهلك بدم بارد، يعودون لنا جثثًا متفحمة وأحيانًا لا يعودون. أُرهقنا والله! كيف لنا أن نستوعب كل هذا الخراب اليومي؟ أما من عقل؟ أما من عاقل، يقول لهم: كفى! هُلك ابني الأول والثاني، والثالث في ساحات الجبهات، وزوجي كان أول الهالكين، وبالمثل جدي الأول والعاشر والألف، كلهم من سيوف ورصاص وداعي القبيلة، ونعيش (حياة) ما قبل البشر. تنظر إلى عدستي قائلة بصوت واهن (مجازًا سميتها حياة) ما هذه الحياة التي لا نملك منها شربة ماء، طعامًا، مدرسة، مشفى، وطريقًا، نعيش الآخرة الأبدية بصهيل الله أكبر يسفح دمه الأحمر القاني على الينابيع والبرك والجدران، يتجلط ويتقشر ويضخ بجديد حامي مرشوش على زوامل وآيات يرددها كل المتقاتلين اليوم وأمس: "والله إن العيش ذا يحرم عليّا. في سبيل الله ذقنا المر حالي. مرحبًا بالموت حيا بالمنية"، لا تقولوا إنه زامل حوثي جديد أبدًا، المعنى راسخ في ذهنية كل المتقاتلين على العدم، أقسم بالله من قلب أم محروق، والله القتال للعدم ولا شيء غيره! وليس بآخر، "هنيئًا لمن باع الحياة الفانية بجنة عالية قطوفها دانية"!
3
حديث الأحذية، نداؤها وسؤالها معًا، وأنا أهبط بجسدي لأحدق في الحذاء وألتقط صورته، أحسست بمناجاة حذاء آخر، كان بوجه منحنٍ، مكررًا السؤال الأبدي: ما الذي أتى بي إلى هذا المكان الموحش، الموت بسحنة الله أكبر؟
حدقت في الحذاء المربوط في أحد الأقبية، ربما كان ساهمًا، ربما فرحًا أنه نال الشهادة، أو ربما كان به شيء من حتى، تمنيات كبيرة وصغيرة ظل يتأخر حتى تتحين الظروف المناسبة، ربما حلم مؤجل بعد أن ينهي التعليم بدار الحديث يذهب إلى قريته أو مدينته، ويعمر مستنسخًا آخر، لـ"دار حديث"، كما فعل الكثير من الطلبة، من الشيخ الحجوري، والجامي، والحمادي، والمحرمي، والبريك الحضرمي، والفيوشي... الخ من الطلاب -الأساتذة -الدعاة -المجاهدين بمزيد من الأطفال والشباب، وحتى اليوم، والشقيقة السعودية وغيرها تعمر الكثير من دور الدم والحرب والموت المستديم في مناطق مختلفة، وليس بآخرها محافظة المهرة وغيرها، ختم الكعبة (الشريفة) في يمن القبور الإيمانية.

رباط الجزمة "البوتي"، بانكسار يتمتم: أتوق لأسرتي واللمّة واللقمة على مائدة واحدة، تدمع، كنت أريد أن أقول شيئًا، هربت في حمأة قتال المشركين الأعداء، ولم أستطع أن أطبع قبلة على جبين أمي وولدي الرضيع وزوجتي! ها أنا اليوم شهيد، هههه، ولقبي الجديد "أبو الشهداء"، أأضحك، أم أبكي؟!
نعل في الدرج صحن دار الحديث، يعلوه كتب الرحمن، يقول: أمام رصاص وتفجيرات أنصار الله الرافضة وصرختهم الإلهية المنتصرة، وربما صرخة الضحية: الله أكبر والحوثي عدو الله، اعتليت الكلاشنكوف، وبدأت أطلق بعشوائية، فالله يناديني ولبيت النداء! أصارحك، كان حلمي أن أتزوج في قريتي، وآتي بها لتصبح دماجية التكوين، منتقبة فضيلة وطاهرة، ووو...
4
تلك الأحذية الفردية والزوجية ليست خالية من ناسها، بل ومن ونسها، إنها أحذية موحشة، حزينة ووحيدة، هل كانت تنتظر أن يعود أصحابها، حتى وهم في عداد القتلى؟ وهل هذا الحذاء ملك لدماجي يمني، أو دماجي أمريكي، ألماني، شيشاني، باكستاني، بريطاني، سعودي، وو؟ كل شيء وارد!
وليس بأخير:
ماذا، تقول الأحذية لسيل الملاعق والصواعق والمنجنيقيات المبشرين بالسلفية والسلفية الجهادية، والسلفيات الأخرى التي ولدت واستولدت لما يقوله المغذي والمسمن من الداخل والشقائق الخليجية وغيرها من الخارج؟ تقول بعض الأحذية في لحظات طلوع الروح، تعظيم سلام، أم لعنة بختم "زادوا علينا"، ماذا عن الوادعي، والألباني، والزنداني، والحجوري، والعدني، والمفلحي، وأساطين السلفية الراحلين والذين مازالوا يقودون المسيرة، وقيادة الجيوش الظاهرة والمستترة، وحتى وهم موتى مازال فكرهم ينادي بالمزيد من تناسل الوحش وتقويته بالدم والخراب، وبسيف الله أكبر، وقل جاء الحق وزهق الباطل؟!

في صورة الأحذية لدور حديث بلا حديث سوى ما تقوله الملاعق والصواعق وجهاد الوهم وصورة اليمن الأتعس والأكثر يتمًا، المخذول من أبنائه وحكوماته وأشقاء الجوار، وو، شقائق الفناء وهي تريق المزيد من الرعب والخراب والدمار المستدام.
مرة أخرى، قبل أن تغلقي غالق كاميرتك، خرجت فردة حذاء من بين الركام، متعكزة، تمسح التراب، قائلة: هل أفرح بلقب شهيد؟ طيب ما الحوثي هو أيضًا شهيد، وجندي الحكومة شهيد، وو.. كلهم شهداء، ماذا سأفعل باللقب أمام هذا الخراب الدامي؟ وأي بول بعير يضمد جرحي ويهدئ فجيعتي؟!
إنه الأنين الطالع من قلب الأحذية!