الممارِع أو الشقّاب.. سلطة العين والكلمة
في كل مجتمع من المجتمعات، قديمِها وحديثِها، تتناقل الألسن قصصًا وحكايات عن أشخاص يُنسب إليهم امتلاك قوى خفيّة أو قدرات غير عادية، تُتيح لهم التأثير في غيرهم بالنظر أو بالكلمة، أو حتى بالحضور الرمزي والمادي. ويُقال إن نظرتَهم الحادّة أو كلماتِهم المشحونة بالعاطفة – سواء أكانت إعجابًا أو حسدًا أو سخريةً أو مزاحًا – قادرةٌ على إحداث أثر ملموس في حياة الآخرين، كمرض أو حادث مفاجئ، أو تعطّل رزق، أو سوءِ حظٍّ عابر.
في الثقافة الشعبية اليمنية، يُطلق على هذه الظاهرة أسماء عدّة، منها "الممارِع" أو "الشقّاب"، وهما تعبيران يعكسان تمثيلًا رمزيًا لسلطة العين والكلمة. فالممارِع في المتخيّل الجمعي ليس مجرد شخص ينظر إلى من حوله بنظرة مختلفة أو يطلق لفظة معينة في وقت محدد، بل علامة على الخوف من الطاقة اللامرئية لهذا الشخص، من قدرته التي تخرق الحواجز بينه والآخر وبين الآخر وحظه وما ينوي عمله. ولعل لفظة الشقّاب أيضًا تُقرّب المعنى أكثر، فهو صورة لغوية تستبطن فعل الشقّ أو الاختراق، أي اختراق جسد الآخر أو حظّه أو توازنه من خلال نظرة أو كلمة.
الممارِع والشقّاب مفرداتان تُشكّلان نظامًا من العلامات الرمزية التي تُعيد إنتاج علاقة الإنسان بالعالم الماورائي وغير المرئي. فالعين ليست فقط عضوًا بصريًا في الجسد، بل رمزًا للقوة والرغبة والهيمنة، ووسيلة للتعبير عن الصراع بين الظاهر والمستور بين طاقتين كامنتين أحدهما قوية ومجربة وأخرى ضعيفة ومتلقية وعادية، بين الرغبة في التملّك والخوف من الفقد. إنّ المجتمع، حين يمنح العين هذه السلطة الخارقة، إنما يعبّر عن قلقه الجمعي من الاختلال والتفوّق المفاجئ، ويحوّل الخوف من الفشل أو الحسد إلى بنية دلاليّة تفسّر ما يعجز العقل عن تفسيره.
ويكشف هذا الإيمان بالممارِع أو الشقّاب عن تداخل الثقافي بالديني والنفسي؛ إذ يستند من جهة إلى الموروث الديني الذي يُقرّ بأن "العين حق.."، ومن جهة أخرى إلى البعد النفسي الذي يرى في الحسد إسقاطًا لمشاعر النقص والغيرة، ومن جهة ثالثة إلى البعد الاجتماعي الذي يُنتج آليات رمزية للحماية، مثل التمائم والرقى وعبارات التحصين.
هكذا تتحوّل ظاهرة الممارِع إلى نصٍّ اجتماعي مفتوح، يمكن قراءتُه بوصفه خطابًا عن السلطة والخوف، وعن الرغبة في السيطرة على المجهول. إنّها محاولة جماعية لإضفاء المعنى على ما هو طارئ أو مؤلم، عبر لغة رمزية تُعبّر عن الانفعال الجمعي والبحث عن التوازن في عالم مليء بالصدف والاحتمالات. ومهما اختلفت التفسيرات، فإنّ الإيمان بالممارِع أو الشقّاب يعكس جانبًا عميقًا من ثقافة المجتمع، حيث يسعى الناس دائمًا إلى إيجاد تفسيرات لما يعجزون عن فهمه من مصائب أو أحداث مفاجئة، فيُرجعونها إلى تأثيرات غير مرئية تخرج من النفس إلى الجسد أو الواقع. وأقصى تصوّر لسطوة عين الممارِع في المخيال اليمني أنّه قادر على إسقاط الطير من السماء. وفي هذا الإطار، يُروى عن جُبَح العزعزي – وهو أحد أشهر الممارعين في اليمن – أنّه كان جالسًا في فناء بيته، ينظر إلى دجاجة تحمي كتاكيتَها. وفجأة جاءت حدأة تحلّق في السماء، تنتظر اللحظة المناسبة لتنقض على الدجاجة وكتاكيتِها. وحين حانت اللحظة المناسبة، انقضّت الحدأة على الدجاجة وتركت الكتاكيت. فما كان من جُبَح إلا أن قال: "وأبي أنا، شلّت الكِتْلي وخلّت القَلاصات!" ويقصد بقوله أنّ الدجاجة هي الكِتْلي، والكتاكيت هي القلاصات. ويُقال إنّ الحدأة سقطت ميتة من السماء فورًا، دلالة على قوّة عينه وسطوتها في المعتقد الشعبي.