صنعاء 19C امطار خفيفة

من "القلاب" إلى قبة البرلمان..

جباري يروي تحولات حياته والخيارات الصعبة على طريق اليمن

جباري يروي تحولات حياته والخيارات الصعبة على طريق اليمن
عبدالعزيز جباري- منصات

في بلدٍ تتقاطع فيه المسارات بين الانتماء السياسي وتقلّبات الجغرافيا، تظهر سيرة النائب عبدالعزيز جباري كمرآة حقيقية لتحوّلات اليمن المعاصر. فالرجل الذي وُلد مع فجر العيد الأول للجمهورية في 26 سبتمبر 1963 بمدينة ذمار، بات أحد الفاعلين المؤثرين فيها، الذين طووا مسارات شخصية متقلبة، من شاحنة "القلاب" إلى كرسي البرلمان ثم دهاليز السياسة اليمنية المرتبكة، وأروقة التحالفات الإقليمية المتغيرة.

تقدّم الحلقة الأولى من سلسلة "حكايتي" مع عبدالعزيز جباري، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الوزراء الأسبق، قراءة معمقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية لليمن ما بعد الثورة، من خلال سرد شخصي يبدأ من طفولةٍ عاديةٍ في ذمار، حيث البساطة والسخرية السياسية المتوارثة، ويصل إلى تفاصيل دقيقة عن مظاهر الحياة، وتحوّلات السياسة، ومواقف مفصلية مثل اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، وصعود علي عبدالله صالح، وتجربة الوحدة اليمنية.

بعين قارئ نهم قبل أن يكون سياسيًا، يفتح جباري دفاتر الذاكرة لتوثيق المشهد اليمني من الداخل: يروي كيف شكّلت الثقافة السياسية المبكرة وولعه بالصحف والمجلات والمذكرات السياسية الأجنبية وكتابات هيكل والمقالح والبردوني، شخصيته الفكرية، قبل أن تتلقفه السياسة لاحقًا، لا كمهنة بل كمصير فرضته الصدفة في أولى تجاربه الانتخابية عام 1997، حين خسر أولى جولاته مرشحًا مستقلًا، لكنّه أدرك من تلك الخسارة أن الهزيمة ليست نهاية، بل بداية فَهمٍ أعمق لما تعنيه "السياسة في بلاد القات".

وفي حديثه للزميلة رحمة حجيرة، يستعرض جباري، بتفصيل إنساني لافت، علاقته المعقدة بالزمن والمكان: من مقاعد التعليم التي غادرها مبكرًا إلى شاحنات النقل الثقيل، ثم العودة المتأخرة إلى القراءة والتكوين الذاتي، قبل أن يتحوّل مع الزمن إلى لاعب سياسيٍ حاضرٍ في كل المنعطفات، من مؤتمر الرياض إلى استقالته الصاخبة احتجاجًا على سطوة التحالف.

الحلقات التي تنشرها "النداء" تباعاً، لا تكتفي بالنبش في الماضي الشخصي، بل تُمهّد لرؤية وطنية مستقبلية يتبناها جباري، قائمة على إعادة الاعتبار للدولة، ووقف الحرب، وبناء علاقة ندية مع الجوار، ترى في السلام العادل خيارًا وطنيًا لا تنازلًا.

فإلى التفاصيل:

"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.

رحمة: مساء الخير، اليوم لدينا حكاية جديدة وضيف مثير للجدل، سياسي وبرلماني عُرف بأنه مع الجميع وضد الجميع، في المواقف الوطنية الحاسمة. لا أدري لماذا، أهو حماس أم إيمان أم هناك شيء آخر؟ لكن كل ما نعرفه أن خلف كل موقف من هذه المواقف التي لم تترك قلب سالي، هناك حكاية، غير نشأته طبعًا، فهو من ذمار، وأبناء ذمار معروفون بالفكاهة السياسية، أناس يحولون أوجاعهم ومعاناتهم إلى ضحكة ونكتة. ورغم أنه دائمًا جاد، إلا أننا سنرى اليوم: هل هو "ذماري" أم لا؟
مشاهدينا... رحّبوا بالأستاذ عبدالعزيز جباري، نائب رئيس مجلس النواب، فرع عدن أم الفرع الرئيسي؟ الله أعلم، فأنا لا توجد لديَّ فكرة.
رحمة: مرحبًا بك أستاذ في برنامج "حكايتي".. دعنا نبدأ من البداية. أنت من مواليد 1963م، يناير مثل بقية اليمنيين، أم تاريخ آخر؟
جباري: أولًا، شكرًا جزيلًا، وأهلًا وسهلًا بالأخت رحمة. والحقيقة أنا من مواليد 26 سبتمبر 1963م. لماذا؟ لأن هذا يوم مميز، أول يوم عيد الثورة، والوالد أكد لي أنني وُلدت أول يوم عيد الثورة 1963.
جباري في سن الطفولة
رحمة: يوم ثوري وجمهوري متميز، ولكن نريد أن نعرف عن والدك، من هو؟
جباري: والدي مواطن مثل أي مواطن يمني، رجل مكافح، اسمه أحمد علي جباري، يبلغ الآن من العمر 94 عامًا (أطال الله في عمره)، وصحته لا تزال جيدة والحمد لله. وهو مشرد في مأرب هو وإخوتي، أما والدتي فقد توفيت وأنا في عمر الثماني سنوات. لدي خمسة من الأبناء والبنات: ابنان وثلاث بنات، ولدي 13 حفيدًا، وإن شاء الله في المستقبل القريب يزيدون.
جباري ووالده وابناءه
رحمة: الله يزيد ويبارك. ولكن والدتك عندما توفيت، هل كان ذلك وفاة طبيعية أم بمرض؟
جباري: توفيت نتيجة مرض، ولم تكن كبيرة في العمر، لكنها مرضت وتوفيت، رحمها الله.
رحمة: هل تزوج والدك امرأة واحدة أم أكثر؟
جباري: أبي "مزواج"، لقد تزوج أربع نساء.
رحمة (مازحة): أربع قليل! هناك من تزوج أكثر.
جباري: أنا في تقديري أن تعدد الزوجات يترتب عليه الكثير من المشاكل، خاصة عندما يكون الأبناء من أكثر من زوجة. ولذلك أنا أفضل الزوجة الواحدة.
رحمة: والدتك توفيت وأنت في عمر الثماني سنوات، هل عانيت بسبب وجود أكثر من زوجة؟ أم كان ذلك أفضل لك؟
جباري: أبي كان أبًا ممتازًا، ولم تحدث لنا مشاكل في الحياة كما يحصل عند البعض، وأمورنا كانت طيبة.
عبدالعزيز ووالده
رحمة: كم لديك من إخوة؟
جباري: لدي أربعة إخوة.
رحمة: ذكور، وبالنسبة للإناث كم لديك؟
جباري: ثلاث أخوات.
رحمة: أنتم سبعة. ما هو ترتيبك بينهم؟
جباري: أنا أكبر واحد.
رحمة: يقولون "نص عمر أمه وأبوه"، وهناك مثل في تعز يقول "كدافة أهله" بمعنى كل شيء فوقه... يعني تحملت المسؤولية؟
جباري: الكبير بالطبع يتحمل المسؤولية، لكن ليس شرطًا أن يكون الكبير هو من يتحملها، فقد يتحملها الأوسط أو الأصغر. لكن أنا تحملت المسؤولية مبكرًا، حتى إنني تحملت مسؤولية العمل عندما كنا نعمل أنا والوالد، وكنت أنا أقوم بكل شيء.
رحمة: ماذا كان يعمل الوالد؟
جباري: أبي عمل في عدة مجالات. كان مغتربًا في السعودية، وعندما عاد اشترى "قلابات" "شاحنات نقل ثقيل" واشتغل بها، ثم تحول إلى تجارة أخرى وهكذا.
رحمة: هل يمكننا القول إنه كان متوسط الدخل؟
جباري: بالنسبة لحالتنا، تستطيعين القول إنها متوسطة. لسنا من طبقة الأغنياء، ولا من عديمي الدخل. مثلنا مثل غالبية اليمنيين، ومعظمهم يعيشون هكذا.
رحمة: لا، هناك مشايخ، وهناك أشخاص ينتمون لمسؤولين ولديهم إمكانيات عالية، وهناك رجال أعمال. ولكن حدثني أستاذ عبدالعزيز عن طفولتك ومرحلة التعليم الابتدائي... كيف كانت طفولتك في ذمار؟ ما هي الأشياء التي لا تزال عالقة في ذاكرتك؟ المدرسة الابتدائية، المعلّمة...

من مقاعد الدراسة إلى مقود "القلاب"

جباري: طفولتنا في اليمن متقاربة. لكن هناك بعض المواقف التي لا تزال باقية. مثلًا، في مرحلة ما قبل أن أكمل الثانوية، للأسف، خيرني أبي بين إكمال الدراسة أو قيادة "القلاب"، وكطفل لم يكن لدي الحرص على الدراسة بقدر حرصي على أن أصبح رجلًا كبيرًا.
رحمة: اخترت "القلاب"؟
جباري: نعم، اخترته، وللأسف تركت الدراسة في وقت مبكر. وبعد ذلك عدت إلى الدراسة فيما بعد، لكن وأنا في عمر كبير.
رحمة: هل أنهيت دراسة الثانوية؟
جباري: لا، لم أنهِ دراسة الثانوية. توقفت عند الصف الثاني ثانوي، ثم قدت "القلاب" بالطبع، عملت لمدة عام، فلم أُفِد أبي ماديًا، ولا استفدت أنا.
رحمة (مقاطعة): وكسرت القلّاب بكل تأكيد!
جباري: نعم، وكسرت القلّاب. صحيح أن الأب مسؤول عن الأولاد، لكن ترك مسألة خروجي من المدرسة عُقدةً لدي، لدرجة أنني حاولت أن أكرّس التعليم في أولادي وإخواني. وهذا أعطاني دافعًا لأن أقرأ كل شيء.
رحمة: بعد القلّاب، وليس أثناءه؟
جباري: نعم، بعد ذلك. كنت أرى بعض زملائي الذين دخلوا الجامعة، وأشعر بالحسرة وأقول: "وأنا، لما لا؟" لكن كانت لديّ ردّة فعل، فحاولت أن أُثقّف وأُعلّم نفسي، وكان عندي نهم للقراءة بشكل فظيع جدًا.
رحمة: أي نوع الكتب كنت تقرأ؟
جباري: كنت أقرأ لكتّاب كبار عالميًا، وكان يعجبني محمد حسنين هيكل، وقد قرأت له كل مؤلفاته. وقرأت لهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية السابق، ولـ زبيغنيو بريجنسكي، الذي كان مستشار الأمن القومي، وله عدة مؤلفات قيمة حول السياسة الأمريكية. كنت أقرأ الصحف والمجلات بشكل لا يمكن تصوره، أقرأ في الليل حتى تدمع عيناي. أقرأ في الرياضة والفن والثقافة والأدب والسياسة. وأكثر ما كان يعجبني وأتابعه بنهم مذكرات السياسيين الأمريكيين والغربيين، والأمريكيين تحديدًا. كنت دائمًا أعرف أن السياسي الأمريكي أو الغربي، بشكل عام، عندما يخرج من العمل السياسي ويتقاعد، يبدأ بكتابة مذكراته، ويكون أكثر صدقًا في كتابتها. وعندما تقرأين لرؤساء أمريكيين سابقين عن علاقاتهم بالوضع في العالم العربي ومع السياسيين العرب، وكيف كانوا يستقبلونهم، والنقاشات التي كانت تدور بينهم وبين كثير من السياسيين في العالم، وخصوصًا في العالم الثالث الذي يمثله العرب، تجدين الأمر ممتعًا.
رحمة: هل كان ذلك في السبعينيات؟
جباري: طبعًا، في السبعينيات.
رحمة: وهل كانت هذه الكتب متوفّرة حينها؟
جباري: كان الكتّاب الكبار في مرحلة السبعينيات والثمانينيات. على سبيل المثال، في مصر كان هناك يوسف إدريس ونجيب محفوظ. كنت أقرأ للكاتب الكبير الساخر محمود السعدني، وكانت تعجبني كتاباته. وكان هناك كتّاب كثيرون من العرب، وكانت المجلات التي تُقرأ حينها مختلفة تمامًا عما هو موجود حاليًا؛ المجلة كانت غنيّة ودسمة، تقرأ فيها سياسة وثقافة وأدب، وتستفيد بشكل لا يمكن تصوره.
رحمة: كيف كنت تحصل عليها؟ هل كنت تدفع ثمنها؟
جباري: بالطبع. مثلًا، كانت المكتبات في اليمن، وفي المحافظات اليمنية، على سبيل المثال في ذمار، تبيع مجلة "المجلة" من الكويت، و"النهضة"، وكل المجلات والصحف كانت موجودة في ذمار، حتى "الشرق الأوسط" و"الحياة". مجلة "المجلة" التي كانت تصدر من لندن، عندما تفتحينها تجدين خمسة أو ستة كتّاب مصريين من الوزن الثقيل يكتبون في المجال السياسي. هناك فارق بين الأمس واليوم.
رحمة: لكن من دلّك على شراء الكتب والمجلات؟ أم كان ذلك من تلقاء نفسك؟
جباري: من دون أن يدلّنا أحد، كنا نتابع.
رحمة: بمعنى أنهم في ذمار، في ذلك الوقت، كانوا يشترون المجلات والكتب؟
جباري: بالطبع. هل لأن أهل ذمار بسطاء تقولين ذلك؟
رحمة: لا، لا، لم أقصد لأنهم بسطاء، ولكن لأن ذمار ليست العاصمة أو المركز.
جباري: صحيح، هي ليست المركز فعلًا، ولكن على سبيل المثال، أنا كنت أقرأ أسبوعيًا للأستاذ عبدالله البردوني، الذي كان يكتب في صحيفة "26 سبتمبر" سيرته الذاتية على صفحتين كل يوم خميس. كنت أنتظر بفارغ الصبر حتى تصل الجريدة لأقرأ سيرة البردوني. وكان يكتب في صحيفة "الثورة" الدكتور عبدالعزيز المقالح، وكثير من الكتّاب اليمنيين من الوزن الثقيل. والمقارنة بين الماضي واليوم ليست في اليمن فقط، بل على مستوى العالم العربي في المجالات الثقافية والفنية والأدبية والسياسية أيضًا. كان هناك فارق كبير، وكانت هناك نخبة في كل المجالات على مستوى عالٍ.

البردوني والمقالح

رحمة: ولكن من بين هؤلاء الكتّاب الكبار، مَن تمنّى عبدالعزيز جباري أن يكون مثله؟ أو كان يحلم حينها وهو في ذمار؟
جباري: أنا لست كاتبًا، لكنني كنت أقرأ للأستاذ محمد حسنين هيكل. كنت شغوفًا بكل ما يكتب، وأثق في تحليلاته بنسبة كبيرة جدًا. كان رجلًا مطّلعًا، وكانت مقالاته تُطبع - على سبيل المثال - في حوالي عشر صحف عالمية بعشر لغات مختلفة في وقت واحد، وهذا يعني أنه صحفي من الدرجة الأولى ومن الوزن الثقيل. وكان هناك كتّاب مصريون رائعون على مستواه أو أقل منه قليلًا.
رحمة: ولكن هو كان أكثر شخص تأثرت به؟
جباري: نعم.
رحمة: وعلى المستوى المحلي، بالتأكيد الأستاذ عبدالله البردوني؟
جباري: على المستوى المحلي، عبدالله البردوني. وكان يكتب أيضًا الأستاذ عبدالعزيز المقالح بعض المقالات الأسبوعية في صحيفة "الثورة". وكان الأستاذ عبدالوهاب الروحاني يكتب، والزرقة رئيس تحرير صحيفة "الثورة"، وكذلك الأستاذ الأكوع. كان هناك هامش صغير من الحريات في صحيفة "الثورة" في تلك الأيام، يكتبون فيه. أما صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية و"الحياة"، فكان فيها كتّاب لبنانيون ومصريون على مستوى عالٍ. وأكثر ما كان يعجبني هو قراءة المذكرات؛ فقد كانوا ينشرون حلقات متسلسلة في تلك الصحف، وكنت أتابعها.
رحمة: كنت تنتظر شراءها… من أين كنت تأتي بالمال، وأنت قلت إن القلّاب قد تعطل ولا يوجد لديك مال؟
جباري: من والدي.
رحمة: ألم يكن ووالدك يغضب لأنك تنفق المال على شراء الصحف والكتب؟
جباري: وضعنا كان ميسورًا. أنا كل يوم كنت أشتري من أربع إلى خمس مجلات، وثلاث صحف. كان لا بد أن أقرأ يوميًا. في تلك الأيام، عندما نذهب إلى أي مكتبة في ذمار أو صنعاء أو أي محافظة يمنية، كانت الطائرات تهبط باستمرار من الكويت ولبنان ومصر، ومن كل مكان، حاملةً لنا الصحف والمجلات. وكذلك كان هناك إنتاج محلي في اليمن. هذه المجلات والكتب كنا نقرأها.
رحمة: هل كنتم توزعون تكاليف الشراء فيما بينكم؟ مثلًا، أنت تشتري صحيفة "الشرق الأوسط" وجارك يشتري مجلة "المجلة"… وهكذا؟
جباري: لقد كان الأمر ميسّرًا.
رحمة: ولكن كيف ميسّر؟ من المؤكد أن هناك سؤالًا خطر على بال المشاهدين: أنت من مواليد 1963، وكان هناك حصار السبعين، ومرت اليمن بفترات صعبة، فهل كانت هناك مجلات متوفّرة؟
جباري: كان الوضع في اليمن، بشكل عام، قبل عام 90، فيه مشكلة اقتصادية لليمنيين، لكن الطبقة الوسطى كانت هي الكبيرة، ونسبة الفقراء بسيطة جدًا، وطبقة الأغنياء لم تكن كثيرة. وكان الناس على نفس المستوى تقريبًا، والأمور ميسّرة. لم تكن هناك مشكلة في الجانب الغذائي أو مصاريف البيت، ولا حتى في مصاريف الثقافة. لذا، عندما تسأليني: "من أين جبت؟" أقول: هذه أمور عادية. كنت تشتري بثلاثين أو أربعين ريالًا، وكانت الأسعار بين ريالين وخمسة ريالات. الكتب كانت ميسّرة. والذي كان يضايقني في غرفتي هو أن الصحف والمجلات كانت مكدّسة. وتصوري أنه في فترة من الفترات، لو سألتِني عن أي شيء، يمكنني أن أجيبك، سواء في كرة القدم، وعن الممثلين والفنانين والموسيقيين والملحنين، وكيف كانت سير حياتهم… كنت أقرأ سير حياة الجميع.
رحمة: من كثرة قراءتك بنهم، أستاذ، من المؤكد أنك في تلك الفترة كان لديك دفتر مذكرات تخفيه، وبدأت تكتب فيه، لأنه ليس من المعقول أن تقرأ كل هذا ولا يوجد أي إنتاج!
جباري: حاولت في فترة من الفترات، وأعتقد في عام 2000، أن أكتب، لكنني كنت أخجل من نشر ما أكتب في أي مكان. وكنت أعتقد أنه لو نشرتها، لضحك الناس عليّ. إلى أن جاء يوم وبدأت أنشر في صحيفة محلية اسمها "المجتمع" في ذمار، واستحسنها الناس.
رحمة: هل كان ذلك في 2000 أم قبل؟
جباري: في 2000، أو تقريبًا في 98 أو 97.
رحمة: ولكنك كنت كبيرًا إلى حد ما؟
جباري: نعم.
رحمة: ولكن في تلك الفترة لم تكتب أي شيء؟
جباري: على ذكر الكتابة، بدأت أكتب وأراسل صحيفة "الشورى" حينها، وكانوا ينشرون لي في الصفحة الأخيرة: "الكاتب عبدالعزيز جباري"، لاعتقادهم أننا… (قصدهم يعلم الله كيف أنا).
رحمة: بدون تواضع، أنت قرأت الكثير من الكتب، والتهمتها التهامًا.
جباري مازحاً: ولكن كما يقول المثل: "الأعور في بلاد العميان فاكهة" (أي ملك).
رحمة: هذا من تواضعك. لكن لدي سؤال يتعلق بمرحلة الشباب: كنتم بالتأكيد تمضغون القات، ولكن نريد أن نعرف في تلك الفترة، فترة الستينيات والسبعينيات، كيف كان الظرف الاقتصادي والاجتماعي حينها؟ هل كنتم تمضغون القات؟ وهل كان القات منتشرًا بشكل كبير؟
جباري: بالنسبة للظرف الاقتصادي، على سبيل المثال، كنت أسافر أنا ووالدي إلى الحديدة، وكان عمري آنذاك اثني عشر أو ثلاثة عشر عامًا. كنا نسافر إلى الحديدة إذا كان العمل في محافظة ذمار قليلًا نتيجة نقل مواد البناء، فنذهب إلى الحديدة لتحميل البضائع من هناك إلى بعض المحافظات.
إبراهيم الحمدي: حين أحب اليمنيون دولتهم
رحمة: عندما ذهبت إلى الحديدة أول مرة، كيف كان شعورك؟
جباري: انبهرت. كنت أتخيل البحر عبارة عن نهر، لكن عندما رأيته عميقًا وبعيدًا تفاجأت به. كانت مدينة الحديدة كأنها خلية نحل، ليلًا ونهارًا. وأتذكر أني زرتها في عام 76، عندما كان إبراهيم الحمدي (رحمه الله) رئيسًا لليمن. وبما أنك سألتِ عن الحالة الاقتصادية، فقد كان المواطنون هناك مرتاحين، أولًا لأنه حدث استقرار سياسي لليمن بوجود إبراهيم الحمدي، وثانيًا لأنه حصلت الطفرة النفطية في دول الخليج، وخصوصًا في المملكة العربية السعودية، ما رفد الخزينة اليمنية بمبالغ هائلة. وكان المواطن مرتاحًا، والمغترب اليمني عندما يذهب إلى السعودية، كان يستطيع في خمسة أو ستة أشهر العودة إلى اليمن بـ 60 أو 70 ألف ريال سعودي، أي بحدود 20 ألف دولار.
الشهيد ابراهيم الحمدي
رحمة: ماذا كانوا يعملون بها؟
جباري: كانوا يقومون ببناء منازل، ويتزوجون، وينشئون مشاريع صغيرة، وبعضهم كانوا ينفقونها في حفلات وتخزينات، ثم يعودون للغربة. هذه المبالغ الهائلة التي دخلت إلى الخزينة العامة جعلت المواطنين جميعهم يعملون. وأنا أتذكر لحظة قتل الحمدي، كنت في الحديدة، ولا يزال هذا الموقف في مخيلتي. ذهبت أنا ووالدي في الليل إلى ما يسمى الكورنيش على البحر بعد المغرب، لأنه في ذلك الوقت يخرج أصحاب القلابات والشاحنات. كنا نسمع إذاعة لندن، ولم تكن في تلك الفترة وسائل إعلام كثيرة، وكانت الوسيلة الأشهر هي إذاعة الـ "بي بي سي" من لندن. فتحنا الإذاعة وسمعنا أنه تم اغتيال الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي وشقيقه عبدالله، وكنت في تلك الفترة غير مدرك حجم الكارثة التي حدثت في اليمن.
رحمة: كنت في العشرينيات حينها؟
جباري: لا، من 63 إلى 77 كان عمري 14 سنة. تصوري أستاذة رحمة، كانت الحديدة كخلية نحل من الصباح إلى الليل، تجدين المواطنين من كل مكان: هذا تاجر، وذاك مستورد، وهذا صاحب سيارات، وهذا يشتري قطع غيار، وهذا يشتري موتور. لقد كانت كل البواخر هناك، وكان الوضع الاقتصادي منتعشًا.
بعد قتل إبراهيم الحمدي، وفي اليوم الثاني، كانت الحديدة وكأنهم أطلقوا عليها قنبلة نووية؛ انطفأت بشكل لا يمكن تصوره! أين ذهب الناس؟ لا تعلمين. هناك من أغلق على نفسه، وهناك من سافر في الليل.
رحمة: وهل كان الناس متوترين وقلقين؟ لقد كانوا يحبونه.
جباري: نعم، كانوا يحبونه كثيرًا.
رحمة: لماذا وهو لم يحكم اليمن إلا أربع سنوات؟
جباري: أنا أتذكر في تلك الفترة ظهر ما يعرف بـ "المولدين"، ولأن إبراهيم الحمدي فتح المجال لليمنيين الذين كانوا في الصومال وإريتريا وإثيوبيا، وفي أفريقيا بشكل عام، للرجوع إلى اليمن من أجل التنمية، لذلك كانوا يعتبرون الحمدي شيئًا كبيرًا بالنسبة لهم. وعندما سمعوا عن مقتله، خرجت الجماهير في الحديدة بمظاهرات، وأغلبهم كانوا من المولدين.
رحمة: هل تتذكر ماذا كانوا يقولون في المظاهرات؟
جباري: كانوا يتهمون السلطة بأنهم تآمروا على الحمدي.
رحمة: من السلطة؟ كان الغشمي بعده؟
جباري: أتذكر أنه في اليوم الثاني، أرسلني أبي مع شخص يُدعى عبادي ذماري (رحمه الله)، وهو من أبناء مدينة ذمار، بسبب توقف كل شيء؛ الأعمال والتجار وكل شيء توقف بشكل كلي. قال لي: "سافر معه"، وأنا سأتأخر حتى تتحسن الأحوال. فسافرنا من الحديدة على ظهر "بيجو"، كنا نأتي عن طريق مناخة. تصوري عندما وصلنا إلى رأس عصر وشاهدنا العاصمة صنعاء - ولم تكن مثل الآن - نزلنا ووصلنا إلى القبر المصري، وسرنا بالسيارة من القبر المصري إلى فرزة ذمار، ولم نجد أحدًا، وكأنه لا يوجد إنسان في صنعاء، ولم نكن نسمع إلا صوت الإطارات. وعندما وصلنا، وجدنا شخصًا لديه باص من النوع القديم والكبير، ولديه راكب واحد، ونحن اثنان، وظل ينتظر ولكنه لم يجد ركابًا، فصعدنا معه. وفي صنعاء، لم نكن نجد أحدًا، كانوا في حالة ذهول وخائفين مما سيحدث.
رحمة: وقد كانوا متفائلين بالرئيس الحمدي.
جباري: جدًا.
رحمة: كل هذه الشعبية للرئيس إبراهيم الحمدي وهو لم يحكم سوى أربع إلى خمس سنوات ولم يكملها؟
جباري: أنا أعتقد أن سبب الشعبية الجارفة التي كان يتمتع بها إبراهيم الحمدي، أولًا: أنه أتى بعد القاضي عبد الرحمن الإرياني (رحمه الله)، وبعد الثورة. وبعد القاضي عبد الرحمن والثورة، حصل نوع من الوضع المعقد، والانفلات الأمني، والوضع الاقتصادي المتدني. وعندما جاء إبراهيم الحمدي، بدأ بحزم الأمور، وتحسنت علاقته مع السعودية، وعندما جاءت الطفرة النفطية بعد حرب 73 وارتفاع برميل النفط في العالم نتيجة الأزمة، تحسن الوضع الاقتصادي. وإبراهيم الحمدي كان صاحب مشروع.
الإخوة الناصريون يقولون إنه كان منهم، وأنه كان حاملًا للفكرة الناصرية، ولكن - في تقديري - أرى أن إبراهيم الحمدي كان مشروعًا بحد ذاته، لديه مشروع وقائد حقيقي، كان يقيم علاقات طيبة مع الناس، وكان إنسانًا بسيطًا، ومتواضعًا، وحازمًا. كان متواضعًا لأنه كان يسير في الشارع وتجدينه في أي مكان. كثيرًا في مدينة ذمار كانوا يجدونه وهو في سيارته يقودها بنفسه. حتى كان يُقال إنه عندما كان يحارب الفساد، كان أي مسؤول يتهيأ له أن إبراهيم الحمدي سيدخل عليه.
رحمة: بالنسبة للمشايخ، هل فعلًا أنه عزلهم؟ كانت هذه أحد الأسباب في خلق خصوم له؟
جباري: لم يعزل المشايخ، ولكنه أراد ترسيخ مفهوم الدولة، وقوة الدولة، وقوة القانون. وأكيد تحصل بعض التجاوزات والمشاكل، ولكن لا بد من هذا الأمر، لأن مراكز القوى تريد السيطرة. والدولة هي المعنية، والقائد الحقيقي هو الذي يفرض هيبة الدولة. وإبراهيم الحمدي في تقديري كان قائدًا حقيقيًا، والناس جميعهم يحترمونه ويحبونه.
رحمة: هل لا زلت تذكر والدك أو المحيط حينها، ماذا كان موقفهم عندما صعد الرئيس الغشمي إلى السلطة؟
جباري: الرئيس الغشمي كان غالبية الناس يتهمونه بأنه وراء اغتيال الحمدي، وكان أي شخص سيأتي بعد إبراهيم الحمدي غير أمين مهما كان. لدرجة أن علي عبد الله صالح (رحمه الله) كان ينظر إلى ذمار على أنها محافظة تحب الحمدي. ومن بعض القصص أنه أتى ذات يوم إلى ذمار، وكانت هناك مشكلة نتيجة أن أحد أبناء إحدى مديريات المحافظة قام بقتل أحد أبناء ذمار، وعند مرور علي عبدالله صالح، خرج أهل ذمار يقولون: "أين العدالة يا حمدي؟" ولم يقولوا: "يا علي عبدالله صالح"، ولذلك كان علي صالح يعتقد أن أهل ذمار يحبون إبراهيم الحمدي.
رحمة: هذه من طرائف أبناء ذمار، ونريد أن نتحدث عنها كثيرًا. أستاذ عبدالعزيز، لماذا ذمار تحديدًا عُرفت بذلك؟
جباري: هي ليست مجرد طرفة سياسية أو نكتة سياسية، هي أيضًا اجتماعية وساخرة. وذمار - كما ذكرت لكِ - أبناء مدينة لديهم موروث ثقافي غزير، ويعالجون قضاياهم أو خلافاتهم بالسخرية، واشتهروا بها لأنهم يسخرون من أي شيء، حتى السخرية السياسية. وأي مسؤول يدخل ذمار لا بد من إطلاق نكتة عليه، أو أي رئيس لا بد أن يقولوا عنه نكتة. السياسيون أصبحوا يتحاشون الآن ذمار، ويحاولون إقامة علاقة طيبة معهم. فأي سياسي يدخل ذمار للعمل في المجال العام، لا بد أن يجد مثل هذه النكت ويعلقوا عليه، ولكن بحب.
رحمة: نريد أن نعرف، هل إطلاق النكتة السياسية كان موجودًا منذ زمن في ذمار، أم أنها ظهرت فيما بعد؟
جباري: أهل ذمار هم من أكثر الناس قبولًا للآخر. وفي فترة من الفترات، كان جميع المسؤولين في المحافظة من أبناء المحافظات الجنوبية، ولا تجدينهم يتعاملون بتمييز أن هذا من المحافظة الفلانية. وكلاء المحافظة، رئيس النيابة، رئيس المحكمة، مدير الأمن، مدير الأمن السياسي، حتى مدراء عموم المكاتب، جميعهم من غير محافظة ذمار، وأغلبهم كانوا يسكنون في ذمار ويتعاملون مع أهلها. وهذا على عكس ما يُطرح أن أبناء ذمار "لا يعجبهم العجب"، فهم أصحاب نكتة، ولكنهم يقبلون الآخر ويتعاملون معه ويحترمونه، وأحيانًا يحترمون أبناء المحافظات الأخرى أكثر من أبناء المحافظة نفسها.
رحمة: هم يأخذون حقهم بلسانهم. أخبرني، عندما بدأت بالعمل في القلاب، هل دخلت فيما بعد في عمل آخر، أم اشتغلت بنفس العمل؟
جباري: عملت في أشياء عديدة. كان لدينا حفار آبار وعملت فيه، كما عملت في مكتب عقاري، وعملت في صيدلية وفندق، واشتغلت في السيارات. عملت في أكثر من مجال.
رحمة: ماذا عملت بأول راتب وصل إلى يدك؟
جباري: لا يوجد راتب يا أستاذة.
رحمة: أول مبلغ مالي حصلت عليه؟
جباري: أخبرتك سابقًا أن والدي كانت أموره ميسرة، كان لديه من اثنين إلى ثلاثة قلابات، وحالتنا لا بأس بها. وأنا عندما اشتغلت وتوفقت في عملي وبدأت أموري تتحسن أكثر...
رحمة (مقاطعة): أول راتب مفرح يا أستاذ؟
جباري: على سبيل المثال، أنا فتحت مكتبًا عقاريًا وأنا صغير، وعمري لا يتجاوز 30 عامًا، وكان الناس يفكرون: من سيذهب إلى هذا؟ من سيتعامل معه بملايين؟ ولكن مع تعاملي مع الناس بشكل طيب وصادق، بلا لف ولا دوران، استطعت كسب عدد من الناس، وكانوا يضعون أموالهم عندي. تصوري أنه في فترة من الفترات، عندما كنت أستأجر في بيت أحد الأصدقاء، قبل أن أعمر بيتي الذي هدمه الحوثيون، كان لدي في بيتي أموال ربما أكثر من الموجودة في بنك الإنشاء والتعمير! جميعها كانت للناس، وهذا بسبب الثقة. وأموري كانت ميسرة، والمال كان موجودًا، وكنت شغوفًا بالسيارات، وأحدث موديل كنت أقوم بشرائه.
رحمة: كانت السيارات أهم بعد المجلات والكتب.
جباري: من الطرائف أن السيارات هي التي خسرتني في انتخابات 97م.
رحمة: كيف؟
جباري: عندما كانوا يرونني بالسيارة، يقولون بأنني "مهنجم". كنت أبيع السيارة وأشتري الموديل الحديث، وعندما يرون ذلك يقولون: "هذا لديه هدف من مجلس النواب، ولماذا يريد ترشيح نفسه في مجلس النواب؟" كانوا ينظرون إلي بهذه النظرة.
رحمة: كم كان عمرك عندما تزوجت؟
جباري: تزوجت في عام 1981، وأنا بعمر صغير جدًا.
رحمة: من الذي اتخذ قرار زواجك، هل أنت أم عائلتك؟
جباري: الإنسان في سن المراهقة يعتقد أن مشروع حياته سيكون الزواج، وأنا رأيت أنه من الضروري أن أتزوج. ولو كانت هناك نصيحة بتأخير زواجي لكان أفضل. الزواج المبكر له مميزات وعيوب. الزواج المبكر معناه أن يكون أولادك وأحفادك قريبين من سنك، أنا مثلاً بيني وبين ابني الكبير 18 عامًا فقط.
رحمة: عندما تزوجت كان عمرك 18 عامًا.. هل أنت من اختار زوجتك أم أهلك؟
جباري: كان زواجًا تقليديًا، الاختيار يكون مشتركًا، لكن في نهاية المطاف لا يعرف الإنسان زوجته إلا وهي في بيته. أنت تعلمين مجتمعنا اليمني، وكثير من الزيجات فيه تقليدية.
رحمة: لا، في تعز وعدن وبعض المحافظات الوضع يختلف قليلًا.
جباري: في ذمار، وتحديدًا في وقتنا، قد تعرف الفتاة وهي طفلة، لكن عندما تكبر لا تعرفها إلا عند الزواج، وكثير من تلك الزيجات كانت ناجحة.
رحمة: والمستوى التعليمي لزوجتك كيف كان؟
جباري: درست حتى الصف السادس الابتدائي، وهي ربة بيت وصالحة لتربية الأولاد. أحيانًا المستوى التعليمي ليس مهمًا؛ فهناك نساء يحملن شهادات دكتوراه أو ماجستير ويفشلن في الحياة الزوجية.
رحمة (ممازحة): ماذا تقصد يا أستاذ عبدالعزيز؟ حتى المذيعة التي تحاورك لم تسلم منك؟
جباري: لا أقصدك، بل أقصد الحياة الزوجية السعيدة. المرأة التي تساهم في بناء زواج مستقر ودائم ليس شرطًا أن تكون متعلمة. هناك بعض المتعلمات - وليس جميعهن- يتحولن إلى نكبة. صحيح أن المتعلمة جيدة لتعليم الأولاد، وتكون أكثر تفهمًا ومستواها الثقافي أقرب إلى الرجل، وهذا أمر إيجابي، لكن ليس شرطًا أن يكون الزواج سعيدًا إذا كانت الزوجة متعلمة.
رحمة: نعود إلى فترة الغشمي بعد اغتيال الحمدي، حيث كان الناس مصدومين وخائفين. وبعد أن صعد الغشمي إلى كرسي الحكم كانت مهمة صعبة، والناس كانوا متحمسين، لكن عند اغتياله كيف كان موقف الناس؟ ماذا كان يقول والدك ومحيطك؟
جباري: كان الناس يحملون الغشمي مسؤولية اغتيال الحمدي، ولذلك كثير منهم اعتبروا الأمر تطبيقًا للآية الكريمة: "وبشر القاتل بالقتل"، ولم يحزنوا عليه كما حزنوا على الحمدي. اعتبروا ما حدث قصاصًا من الله. الناس كانوا خائفين، والوضع كان معقدًا. أتذكر أنني كنت أنا ووالدي في صنعاء بعد مقتل الغشمي، وكان عبدالكريم العرشي رئيس مجلس الشعب التأسيسي قد تولى الرئاسة لعدة شهور.
الغشمي
كنت أعمل مع والدي في القلاب، ننقل الأحجار، وكنا نقف خلف مقبرة الشهداء قبل أن يكون هناك جامع، وكانت مساحة واسعة جدًا. كانت القلابات تنتظر هناك، وفي الصباح وجدنا صورًا معلقة، ولم تكن وسائل الإعلام منتشرة، كان التلفزيون في صنعاء فقط. قرأنا على الصور "علي عبدالله صالح". قلنا: من هذا؟ أحدهم قال: من تعز، وآخر قال: من عمران. لم يكونوا يعرفون من أين هو رئيس الجمهورية.
رحمة: وأنت كيف تلقيت الخبر حينها؟ صحيح أن عمرك كان 15 عامًا، لكنك كنت تقرأ كثيرًا.
جباري: قرأت لاحقًا، لكن في تلك الأيام كان الناس بعد مقتل الحمدي يعيشون حالة إحباط، ثم جاءت انتكاسة مقتل الغشمي الذي حكم نحو تسعة أشهر، وكان الناس متوترين. وعندما جاء علي عبدالله صالح لم يتوقعوا أن يستمر أكثر من سنة أو سنتين، وتوقعوا أن يكون مصيره كمصير من سبقه، خاصة مع وجود التوترات.
أتذكر أنني كنت أعمل في القلاب في خط رداع، وكنت شابًا، حين هبط علي عبدالله صالح بطائرة هليكوبتر في السوادية. كانت تلك الأيام أيام الحرب بين الشمال والجنوب، والقوات القادمة من أبين دخلت من البيضاء. كانت الأسر تغادر المدينة، وجاء علي عبدالله صالح يتفقد الوضع، وكانت الدولة هشة. أعتقد أنه استطاع حينها إيقاف الحرب، وكانت هذه من الإيجابيات. كان هناك الرئيس علي ناصر محمد في الشطر الجنوبي، وعلي عبدالله صالح في الشطر الشمالي، وكان الرجلان يميلان إلى السلام أكثر من الحرب.
الخسارة التي صنعت برلمانياً
رحمة: ولكني أريد أن أعرف عبد العزيز جباري الشاب، عندما رأى صور علي عبد الله صالح، ثم كان في رداع، وتلك الأحداث… ألا توجد ذكرى عالقة في ذاكرتك حول علي عبدالله صالح؟ ألم تكن تفكر أن تكون سياسيًّا أو رئيس جمهورية أو شيئًا شابه ذلك؟
جباري: لم يكن لدي طموح سياسي، أنا لم أكن أتخيل أن أكون سياسيًّا في يوم من الأيام، ودخلت البرلمان بالصدفة. الإنسان لا يستطيع تحديد مستقبله ولا هندسته مهما كان؛ فالأحداث أحيانًا تأخذك في اتجاه آخر. في ذلك الوقت كنت أعمل في مجال التجارة الحرة، وكان دخلي كبيرًا جدًّا وكنت مرتاحًا وأشتري السيارات. شاءت الأقدار أنه في إحدى المرات، وكانوا حينها يقومون بعملية القيد والتسجيل في الانتخابات قبل عام 97 (نهاية العام 96 تقريبا) - لأنه حسب القانون، قبل الانتخابات بشهرين يجب فتح المجال لتسجيل الناس - ذهبت إلى هناك لتجديد التسجيل، ووجدت بعض الزملاء المنتمين لحزب الإصلاح يعملون على تسجيل الناس، وكانوا نشطاء سياسيين.
دخلت في مشادة معهم وقلت: خلاص، في هذه الدائرة لم يعد هناك إصلاح. وفي تلك الأيام كان الأستاذ حسين العنسي، وهو شخصية محترمة، يمثل الدائرة التي كنت أنا أمثلها لاحقًا. هو كان يمثل حزب الإصلاح، وكان يطرح حينها أن علي عبدالله صالح لم يعد يطيق ذمار؛ لأننا أكثرنا أعضاء مجلس نواب إصلاح. ونحن، في تلك الأيام، كنا متحمسين ونقول: لا يمكن أن يترشح شخص إصلاحي.
دخلت معهم في مشادة، وكانوا يقولون لي: "شوف يا أخ عبدالعزيز، أنت تاجر ومعك سيارة، اذهب واشتغل على نفسك، أنت لا تحتاج السياسة".
رحمة: ألم تفكر في تسجيل نفسك؟
جباري: أبدًا، ولم يكن في بالي الدخول في مجال الانتخابات، لكنني أردت أن أكون مؤثرًا في النتيجة، فبدأنا بتسجيل الناس. وفي اليوم الثاني لم أذهب إلى مكتبي، بل ذهبت لأحضر الناس للتسجيل. بعد ذلك حدث تنسيق بين المؤتمر والإصلاح، وانسحب المؤتمر الشعبي العام وترك دائرة ذمار للإصلاح. وعندما علمنا بذلك قلنا: لا يمكن أن يدخل إصلاحي، وكنت أنا متزعم هذا الموقف.
رحمة: ماذا كان موقفكم من حزب الإصلاح؟
جباري: هكذا.
رحمة: هل بسبب الجانب الديني؟
جباري: لا، المسألة تعبئة. نحن كنا نقول إننا لسنا إصلاحيين، رغم أننا نحترم الإخوة في حزب الإصلاح، وهذه قناعة سياسية. لكن في تلك الأيام صممنا على موقفنا. وعندما فتحوا باب الترشيح ذهبت أنا وأحضرت أربعة من أصدقائي ورشّحنا أنفسنا، ولم يرشّح المؤتمر الشعبي أحدًا بناء على الاتفاق مع الإصلاح. أغلقوا باب الترشيح، وبعد إغلاقه فشل الاتفاق بين الإصلاح والمؤتمر، فأصبح المؤتمر يبحث عن مرشح له، لأنه لم يعد يستطيع الترشيح بشكل رسمي. وكان الخيار الوحيد أمامهم اختيار أحد المرشحين المستقلين.
رحمة: كم كان عددكم؟
جباري: كنا من خمسة إلى ستة أشخاص، أغلبهم أنا أحضرتهم. أنا أحكي لك هذا الموقف لأوضح أن الخسارة ليست نهاية المطاف، وأن على الإنسان أن يتعلم من دروسه الماضية ليستفيد هو ويستفيد الآخرون. كانت لدي قناعة أنه لا أحد يترشح إلا أنا. كانوا يحاولون معي، يقولون: نعمل قرعة بينك وبين الآخرين. فقلت: لا أريد قرعة، أنا المرشح.
أذكر أن بعضهم توفي - رحمهم الله - وبعضهم ما زال على قيد الحياة. اجتمعنا في ذمار، وحضر أعيان المدينة وشخصيات اجتماعية محترمة: مشايخ، أساتذة، ورئيس الجامعة الدكتور عبدالله المجاهد (رحمه الله)، ومفتي المحافظة محمد الأكوع، والقاضي محمد الأكوع، وكثير من الناس. كانوا يحاولون إقناعي بقبول القرعة بيني وبين أحد الزملاء، ورفضت، وقلت: لا يوجد غيري.
رحمة: هذا وأنت في عمر الثلاثين؟
جباري: نعم، وكانوا يحاولون معي بكل الطرق.
جباري في الثلاثينيات من عمره
رحمة (ممازحة): هذا وأنت لا تزال تملك محل عقارات، وليست شركة؟
جباري: نعم. بعد ذلك حاولت التملص من الموقف، لكنهم حاصروني بموضوع القرعة، فقلت لهم: يمكن الاتفاق مع الأخ محمد - وهو شخصية محترمة وكان عضو مجلس نواب قبلي - أن نخرج ونتفق فيما بيننا ونعود، وكان معنا الأستاذ نجيب على أساس أنه يحل المشكلة. قالوا: غدًا ننسحب لك. لكني أصررت أن يكون الانسحاب اليوم. فقالوا: دعونا نعمل قرعة. عملوا القرعة، وطلع اسمه، وأنا رفضت. قالوا: كيف ترفض وهي قرعة؟ قلت: لا يمكن.
ذهبت للنوم، وهم كتبوا ورقة أن القرعة جرت، وأرسلوا الورقة مختومة إلى صنعاء. في اليوم التالي ذهبوا إلى صنعاء واعتمدوه مرشحًا عن المؤتمر الشعبي.
رحمة: عناد.
جباري: ليس عنادًا، لكن القرعة جرت.
رحمة: ولم تكن أنت عضوًا في حزب المؤتمر؟
جباري: كنت عضوًا عاديًّا.
رحمة: لأنك قفزت إلى 97.
جباري: سأشرح لك كل شيء. عندما اعتمدوه ونزلت المخصصات، استيقظت ظهرًا وقالوا إنه قد ذهب إلى صنعاء واعتمدوه. قلت: لن أتراجع. بعد ذلك حاولوا من الإصلاح أن نتنافس ويفوز الإصلاح. وفي تلك الأيام نزل اللواء مطهر المصري يضغط عليّ من أجل الانسحاب، لكني صممت على عدم الانسحاب. قلت له: أنت نائب وزير الداخلية، ويمكنك سجني، لكن ستكون فضيحة أن الدولة الوحيدة التي تسجن مرشحي الانتخابات هي اليمن.
رحمة (ممازحة): ابتزاز ذماري.
جباري: كان يقول لي: يا عبدالعزيز، ستتحمل المسؤولية. قلت: مسؤولية ماذا؟ هذه انتخابات ومن حقي الترشح. جاءت الانتخابات والناس متخذون موقفًا مني، منهم من أغضبتهم، ومنهم من رفضوا بساطتهم. كنت "أتقارح مثل البندق"، وهم اشتغلوا ضدي. الدولة عندما تتحرك تتحرك بكل إمكانياتها، والحزب الحاكم في العالم الثالث، وفي اليمن تحديدًا، يسخّر كل شيء.
رحمة: والإصلاح كانوا صحبة؟
جباري: دعيك من الإصلاح، الإصلاح كان حزبًا منافسًا، لكن حزب الدولة يسخر جميع إمكانيات الدولة، والموظفون يشتغلون مع الحزب الحاكم.
رحمة: أريد أن أعرف كيف شعرت بالخسارة من أول يوم، من الصباح؟
جباري: في تلك الأيام كانوا يقولون - وهي كلمة غير لائقة لكنها كانت تقال - لو نزل مرشح "حمار" للمؤتمر الشعبي العام سننتخبه. وعندما جاء الوقت عرفت بالخسارة، لكن من ضمن المواقف التي لا زلت أتذكرها: عندما بدأ فرز الأصوات في المركز الثقافي - طوله حوالي 50 مترًا أو أكثر، والباب في نهايته - كنت في الخلف، ولكي أخرج كان عليّ اجتياز الجميع.
عندما بدأوا الفرز، كان رمز منافسي الأستاذ محمد السيكل "السيف"، ورمزي "الأسد". كانوا يقولون: السيف، السيف، خمس أو ست أوراق، عشر أوراق، والأسد نائم. شعرت بالإحراج بعد الصندوق الأول والثاني. أردت الخروج، وكان عليّ أن أقطع مسافة الـ50 مترًا، لكنها بدت لي كأنها 100 كيلومتر، وكأنني أمشي في طين مليء بالماء. بالكاد وصلت الباب وعدت إلى المنزل. ثم أعلنوا النتيجة: هو بـ5000 صوت، أنا 700، والإصلاح 1400. ومن المضحك أنه في اليوم الثاني، حسب العادة في ذمار وكثير من المناطق، الموقف موقف رجولي؛ ذهبت وأطلقت النار في الهواء وسلمت عليه وعدت للبيت.
وأثناء خروجي إلى السوق، صادفت مسيرة فوز، وكان الأشخاص الذين كانوا بالأمس معي يهتفون له. الناس دائمًا مع المنتصر، وعندما ترى شخصًا يمسك الحكم يتعاونون معه.
الرحلة الأولى إلى عدن
رحمة: من الجيد أنك انتقلت إلى 97 ولم أقاطعك، لكن هناك شيء أريد الاستفسار عنه. ربما له علاقة بموقفكم من حزب الإصلاح. في عام 1990، عندما تم إعلان الوحدة، أين كنت؟
جباري: كنت في مكتبي في مدينة ذمار. لكن قبلها، في 1989، مع إرهاصات ما قبل الوحدة، كنا سعداء ونتابع القيادة السياسية، وكنا في قمة فرحتنا. الوحدة كانت حلم أي يمني وأي عربي يحب بلده. نحن اليمنيون نعشق اليمن والوحدة، ولولا هذه الخلافات… لكن في نهاية المطاف، اليمني لا يمكن أن يفرط ببلده مهما كان.
في 1989، عندما بدأت الخطوات الحقيقية نحو الوحدة، بدأ الناس يدخلون إلى الشمال والجنوب بالبطاقة الشخصية بدون جواز. خرجت مع عدد من الزملاء إلى عدن. كنا في المناطق الشمالية، نلبس الثوب، أما في الجنوب فالمعوز. قبل النزول إلى عدن، ذهبنا إلى تعز وأخذنا معاوز وبنطلونات لنبدو مثلهم. وصلنا إلى "الشريجة"، ولاحظت مشهد الأسر الخارجة من عدن - وهم في الغالب ليسوا من عدن - وأكثر القادمين إلى عدن كانوا زائرين. نسبة كبيرة من مواطني الجنوب كانوا في الشمال.
جباري وزملاءه
رحمة: الرئيس علي ناصر محمد قال إنه في 1986 خرج 150 ألفًا.
جباري: هذا في 86 فقط، أما قبلها، أيام حكم علي ناصر محمد ومن قبله، خرج مئات الآلاف. هي بلدهم، لكن عند خروجهم كان نصف الأسرة في الشمال. وعندما يأتي أحد من الجنوب، كانوا يلتقون ويأخذون بعضهم بالأحضان ويبكون، وكأنك تشاهدين فيلمًا دراميًّا. أما نحن فكنا سعداء ومتشوقون لدخول عدن. أذكر أننا اشترينا ملابس وكانت بحاجة إلى كَيّ، لكننا لبسناها دون كَيّ.
لفت نظري عند وصولنا كثرة قبور الشهداء وصور الأربعة السياسيين الذين قتلوا في 86: علي عنتر، عبدالفتاح إسماعيل، صالح مصلح، وعلي شايع، وكانت تلك الصور معلقة في كل مكان. كما لفتتني الشعارات: "الحزب في وجه البندقية وليس العسكر"، "لا صوت يعلو على صوت الحزب"، كلها شعارات ثورية مكتوبة حتى على طرقات القبور.
رحمة: كان هناك نوع من تسلط الحزب، يوجه البندقية وليس العكس.
جباري: هذا كان من سمات الحياة السياسية في الجنوب.
رحمة: ووضع النساء، ألم يكن ملفتًا؟ خصوصًا أن النساء في الشمال يرتدين النقاب، بينما في الجنوب لم يكنّ محجبات. أليس ذلك ملفتًا لكم، خصوصًا وأنكم لم تسافروا خارج اليمن؟
جباري: آباؤنا سافروا من قبل إلى عدن وكانوا يتحدثون عنها، كانت عدن درة الجزيرة، وكل ما كان موجودًا في الشمال يأتي من عدن. حتى حليب الأطفال كنا نسميه "حليب عدني"، وأي شيء يأتي من عدن نسميه "عدني". كانت عدن مختلفة عن المنطقة كلها، ولم يكن هناك خليج أو دبي كما هو الآن. كانت الموانئ في الخليج بدائية مقارنة بعدن. عدن بناها البريطانيون، وكنا نتخيلها لا تقل عن باريس أو لندن. لكن بعد دخولنا وجدناها مدينة بائسة.
رحمة: في حينها، عام 1990، أين كانت مصادر البؤس غير المقابر والشعارات التي فيها قليل من الاستبداد؟
جباري: أولًا، كان النظام الاقتصادي لديهم اقتصاد الدولة، ولا يوجد عندهم اقتصاد حر.
رحمة: إذًا، البؤس كان واضحًا كما ذكرت: في الشعارات ذات الطابع الاستبدادي، وفي مقابر الشهداء. وهناك الكثير من المعلومات التي سنتطرق إليها في الحلقة القادمة… مشاهدينا، في الحلقة الثانية نستكمل السيرة الذاتية للأستاذ عبدالعزيز جباري، وما الذي رآه في عدن بعد 1990. نلقاكم في حلقة أخرى.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)

الكلمات الدلالية