صنعاء 19C امطار خفيفة

تقديم بطعم الرحيل

دون سابق إنذار، بعث لي الراحل سالم الفراص، بمجموعته القصصية "حلم الهزيع الأخير"، بعد سفره في رحلة علاجية إلى عمان. هُيئ لي أن الرجل أراد لفت نظري إلى أنه قاص وروائي، وليس كما كنت أعتقد أنه يمتهن الصحافة فقط. ولكنه أتبع ذلك باتصال هاتفي.

سالم الفراصمنصات التواصل)
تحدثنا خلال الاتصال عن فنون الأدب وعلاقتها بالصحافة والشعر والأقاصيص. ذكرنا أسماء كثيرة، وفجأة إذا به يطلب مني كتابة تقديم لمجموعته، لا أخفيكم أني اندهشت لهذا الطلب غير المتوقع، ليس لشيء إلا لأني لست بذلك الكاتب المرموق الذي يمكن أن يرفع من قدره أو يزيد في شهرته، بل أنا شخص مغمور وأكاد لا يعرفني أحد. وهذا بالضبط ما حاولت أن أوصله له، لكن صديقي الذي لم ألتقه قط في حياتي، ومعرفتنا لم تتوطد إلا بعد بدء مساهمتي في الكتابة للصفحة التي يديرها في صحيفة "14 أكتوبر"، أصر على طلبه قائلًا إن ذلك شرف له، بينما أن الشرف الحقيقي كان لي أنا بالذات. كنت متهيبًا، وزادني رحيل الكاتب تهيبًا، ولكن ولأن تلك رغبته فلا مناص من المحاولة.

إعادة اكتشاف

كنت أعرف الفراص سالم منذ الأزل، أو هكذا خيل إليَّ، ولكن سالمًا لم يكن يعرفني. ولكني لم أره حتى كتابة هذه السطور. منذ مطلع ثمانينبات القرن الماضي لاحقت سالمًا عبر صحيفة "14 أكتوبر". لم تكن الصحف بعيدة المنال كما حالها اليوم. الحصول على الصحيفة كان سهلًا يسيرًا، يكفي أن تمر أمام زكو أو بورسعيد، وتأخذ نسختك كل صباح، ثم تختار مقهى وتطالع العدد على (كوب الشاهي الملبن)، وتحتفظ بباقي الشلن، ثم تلف الصحيفة بحرص الحريص، وكل منا له طريقته بذلك لا تشبه طريقة غيره.
جذبتني الكتابات الرشيقة والخفيفة على القلب لسالم وزملائه. ولا أدعي أني لم أقرأ لسواه. فقد قرأت للكاف وديان عبدالصفي وهاشم عبدالعزيز وآخرين. ومع أني حاولت المزاحمة في الكتابة من خلال خربشات بأسماء مستعارة عديدة لم أعد أتذكرها، في صحيفة "14 أكتوبر" وغيرها محلية وعربية، بخاصة مجلة "الحرية" اللبنانية، ولا أزعم أن كل ما كتبته قد ضل طريقه للنشر، كما أني لم أحب أغلب ما كتبته كما أحببت ما كتبه سالم، ولكن للمفارقة أن الأستاذة إقبال عبدالله قالت لي ذات يوم قائظ من منتصف تسعينيات القرن الماضي، إن الأستاذ الكاف معجب بقلمي، فاندهشت ولم أعقب.
المهم أن علاقتي بالأستاذ سالم لم تتجاوز كتاباته في الصحيفة هذه حصرًا. ومع مرور هذا الردح الطويل من الزمن، لم أتشرف باللقاء بالأستاذ سالم أو البعض ممن تابعت كتاباتهم. ومؤخرًا محضني الأستاذ الفراص الفرصة للتعرف عليه مجددًا، من باب آخر لم أعلم عنه شيئًا، ولنقل من الوجه الآخر الذي لم أكتشفه بعد. إنه باب القصة أو الكتابة القصصية الثرية.
وأثناء إعداد نفسي لتقديم هذا العمل القصصي الممتع الممتنع "حلم الهزيع الأخير"، وصلت لكشف آخر، وهو أن لكلينا جذورًا في "الخضيرة"، أرادت المصادفة أن تلتقي على تربة ثرية خصبة.

حلم الهزيع الأخير

قلة هي المؤلفات التي ترغمني على مواصلة القراءة بنهم حتى أتمها، وهذه المجموعة هي من بينها. أحب الكتابات الأدبية والقصة على وجه الخصوص. ولهذا لم يكن صعبًا على هذه المجموعة الاستيلاء على اهتمامي.
لن أجنح للكتابة النقدية حتى لا أفسد على القارئ متعة الاكتشاف والإبحار في خيالاته الخاصة وتفسيراته للأحداث والحوارات وتفكيك الرمزيات المشبعة بشحنات العاطفة والقلق والترقب والنقد. سيكتشف القارئ في هذه المجموعة عالم الفراص القصصي الخصيب، وثراءه وارتباطه الزمني والإنساني وانتشاره الجغرافي المترامي بين جبال وسهول وصحارى لا تستكين للظلم ولا ترتوي من عطش للحرية والحياة الكريمة.
لعل ما شدني في هذه المجموعة هو ذلك العالم الداخلي للأبطال، وتوقهم للتمرد على السائد السياسي والاجتماعي، حيث يتفرد العنف والفساد والمحسوبية والتبعية النفاق لتحقيق مصلحة آنية تندرس مع أو هبة نسيم للرفض.
تنتمي هذه المجموعة زمنيا للفتر بين 1981 و1995، وهي فترة فارقة بين عالمين عشناهما. عالم لم يكن مثاليًا، ولكنه كان أكثر بهجة وكفاية وكرامة، وآخر فقدنا فيه حتى الكفاية. لا أحسب هذه المجموعة إلا اتصالًا وتأثرًا طبيعيًا بعالم رواد جيل القصة مثل عبدالمجيد القاضي ومحمد عبدالولي وأحمد محفوظ عمر وعبدالله باوزير وميفع عبدالرحمن وآخرين كثر. ولذلك سيجد القارئ نفسه مندفعًا في ذلك العالم أو قصص المجموعة حيث "سالمة" الرمز المتمرد يقترب أو يلامس "كانت جميلة"، وأما قصة "الجثة" فتحلق لتلحق "بالعم صالح العمراني". أما قصتا "الغربة والرحيل" فتذكران بمصائر أبطال "يموتون غرباء"، مع الفارق المكاني والزماني للإنسان في هذه القصص.
تشكلت قصة "النطاط" من عجينة خاصة تقربها من اليوم كنبوءة سبقت ما نعيشه اليوم من النط متعدد الدرجات والدركات. كانت رصاصة تحذيرية مبكرة من واقع آتٍ تتحول فيه فردانية الحالة إلى ظاهرة وظواهر منسقة مدعومة بعوامل المال والسلاح وأشياء أخرى.
لا شيء أكثر إيلامًا للنفس من ألم الذاكرة التي تتحفز في كل حين بين الرفض والتمرد واستجرار الإخفاق الملتبس بجلد الذات ولومها لما صنعته الأخرى البعيدة التي لا تنتمي "للأنا" الخاصة، بل لتلك "الأنا" التي تسوق لمبادئ وقيم لا تعنيها، بينما أنا "بطلنا" أخذتها عن طيب خاطر لتحيلها إلى مسلك حياتي يومي، وفجأة وجدت نفسها ومبادئها المختارة منبوذة عن ذاتها وعن احتياجاتها، تدور في عالمها الخاص الذي لا ينتمي لهذا العالم.
تظل عدن في عالم الفراص القصصي هي المبتدأ وفيها المنتهى. إلى وقت قريب كان يأتيها الجائع والخائف واللاهف والمفجوع والجاهل والمريض، فيجد كل مبتغاه، لا أحد يعلم ما الذي حل. تصير عدن عالمًا خاصًا لمن يعشقها ويعصره هواها وتهضمه فيصبح جزءًا من الكل، والكل في الجزء يتبدى لا تخطئه العين.
خمس عشرة قصة قصيرة تأسرك فلا تستطيع أن تتركها أو تتركك لشؤونك دون أن تنطق شفتاك بحروف آخر كلمات اليد التي "مازالت تنتظر" آخر أوامر البطش الذي تأجل، ثم حان على غفلة.

الكلمات الدلالية