قصة وجه أبي(٣)
6
كل ليلة يصحو عمر مذعورًا، يصرخ: "بابا، بابا، بابا ما في معه وجه..".
حالته تتدهور، يشعر بالانطواء والخوف، قالت أمي إنها أحيانًا تجد في مكانه أثر تبول.
عبدالله هو الآخر فقد شهيته للأكل، اصفر وجه، كان أغلب الوقت شارد الذهن.
أمي صارت قلقة عليه، وتحاول أن تتماسك أكثر لأجله.
أيام وهرب عبدالله، ذهب للقتال مع شبان القرية، ولم يخبرنا، وجدت منه رسالة كتب فيها أنه سوف ينتقم لأبي، وطلب من أمي أن تسامحه لأنه لم يصارحها بقراره، فهو يعرف أنها كانت سوف تمنعه من الذهاب للجبهة، وطلب مني أن أنتبه لأمي وعمر وجنى، سيأخذ بثأر أبي ويعود.
بكيت وتألمت على قرار أخي ورفيقي وتوأم روحي، ودعوت الله أن يحميه.
ظلت أمي تدعو الله أن يرجع لها سالمًا معافى، وتنتظر عودته في كل لحظة.
كنت حزينًا للحالة التي نحن فيها، لماذا هذه الحرب اللعينة؟ لماذا فرقتنا ودمرتنا؟ لماذا هذا الوجع؟
في قريتنا كل يوم شهيد، الحزن يكسو بيوت القرية، قصفت المنازل في المدن وتشرد الناس، وصار حال الجميع مأساويًا.
انتظرنا عبدالله وانتظرنا اتصاله.
أخيرًا عاد عبدالله، لكنه عاد إلينا محمولًا على الأكتاف، يُزف شهيدًا جديدًا.
عاد عبدالله توأم الروح، لنودعه الوداع الأخير، ليلحق بأبي، ويتركنا للأبد.
"آااااه يا للوجع الذي لا يوصف ولا يحتمل!".
عمر يحكي لجنى: "عبدالله طلع السماء ومعه وجه، أنا رأيت وجهه كان مبتسمًا، لكنه لن يرجع لأجل يحكي لنا الحكايات التي كان يقرأها من كتبه، قالت أمي إنه ذهب الجنة عند أبي، وأبي الآن سعيد أن عبدالله معه، وكلنا سوف نذهب الجنة، ونشوف أبي وعبدالله".
لم تتحمل أمي الصدمة التي كانت القاضية.. تعرضت للنزيف، وظلت شهرًا على الفراش مع أوجاعها وآلامها ودموعها وآهاتها وحسراتها.
7
جاء المخاض لأمي، تخبرنا الممرضة الوحيدة في القرية أنها في حالة ولادة مبكرة، حاولنا إسعافها لمركز صحي بعيد عن قريتنا، يخبرنا الطبيب أنه لا يستطيع فعل شيء، تحتاج إلى عملية قيصرية، الجنين وضعه خطير، ولازم أخذها إلى المدينة، حيث تتوفر الأجهزة الطبية.
لا مكان آخر لدينا، كيف لنا أن نصل للمدينة، والطريق مقطوعة، والاشتباكات في كل مكان؟
أصرخ بكل صوتي: "تصرفوا اعملوا أي شيء، أنقذوا أمي، أنقذوا أمي".
دلونا على مركز صحي في قرية أخرى، تتوفر فيه أجهزة طبية ويمكن أن يعملوا العملية.
كنت أشاهد أمي مصفرة الوجه تتصبب عرقًا، مسكت بيدي ودموعها تنهمر، وكانت تكلمني بصعوبة وبكلمات متقطعة: "أمانتك عمر وجنى يا علي، ما معهم بعد الله إلا أنت، كن قويًا، لا تكسرك أوجاع الحياة، لا تتركهم وحدهم، وعمتك كن لها الابن البار، فهي بمقامي، وعمك هو بمقام أبيك يا علي".
دنت عمتي من رأسها وقبلتها: "أنت بخير يا هدى، وسوف تقومين بالسلامة، وأولادك هم أولادي، وأنت أختي التي لم تنجبها أمي، روحي فداك".
مسكت أمي بيدها وهي تقول لها: "أمانتك أولادي يا سميرة".
أخذت يد أمي، ووضعت قبلاتي عليها ودموعي تتساقط من عيني: "لا تقولي كذا يا أمي، أنت بخير، بخير".
أمي فقدت القدرة على الكلام، وكانت ممسكة بيدي وهي تتعرق، فجأة شعرت أنها أفلتت ليدي، قالت عمتي: "لا تحركها، اتركها تنام حتى نصل".
في المركز عمي يصيح: "اعملوا المستحيل، المهم تنقذوا حياتها".
كنت أدعو الله أن يلطف بأمي، فأنا لا أستطيع العيش بدونها، ولا أتحمل المزيد من الوجع.
كنا في قلق ننتظر على أحر من الجمر.
خرجت عمتي وإحدى الممرضات تمسك بها، جرينا أنا وعمي ناحيتها: "طمنينا".
سقطت عمتي على الأرض منهارة لا تستطيع أن تتكلم، تمسك على رأسها، وتذرف دموعها، عمي يصرخ: "هدى، كيف حالتها يا سميرة؟".
تقول الممرضة: "المرأة التي دخلت تولد انقطع نفسها وإحنا نجهز لتوليدها قبل أن نعمل لها العملية، للأسف تأخرتم كثير عليها، لو كان تم إسعافها قبل كنا قدرنا نعمل لها شيء وننقذها، عظم الله أجركم".
لم أستوعب ما سمعت، كأنها صاعقة، بل بركان نفض روحي.
صرخت عمتي بكل قوتها وهي تلطم خدودها وتبكي: "هدى ماتت يا إبراهيم، هدى أعطتكم عمرها".
لم أستوعب ما تقوله، جن جنوني، لا، مستحيل، صرخت، وصرخت، كنت أجري نحو الغرفة وأنا أبكي بكل صوتي.
8
ماتت أمي مع جنينها..
انتهت الحياة، رحلت روحي..
من يصدق ما حصل لنا..؟
هذا لا يصدقه عقل، ما هذا القدر؟ لماذا الموت اختارهم؟ ما الذنب الذي اقترفناه؟
ما هذا الوجع!
رحلت أمي، ورحل معها كل شيء.
سؤال عمر وجنى أين أمي يقتلني باليوم ألف مرة، دموعهما تدمرني.
وأسدل الحزن ستائره عليَّ، ليعم ظلام قاتل دمر معه كل خلية في جسدي.
لم أتمكن من تحمل كل هذا الوجع..
انهرت..
انطفئت..
تدمرت..
لزمت الغرفة لأيام لا أريد أن أرى أحدًا.