عن الأديان الوراثية ومأزق الإلف والعادة( 2-2)
هنا تتضح الحاجة إلى منهج رسالي جديد، يفرّق بين الموروث الذي يرسّخ التقليد، والمنهج الذي يدعو إلى التحرر العقلي. هذا المنهج لا يُلغي الدين، بل يعيده إلى أصله، إلى كونه وحيًا يدعو الإنسان إلى إعمال عقله، ويحرره من عبودية العادة.
مع هذا المنهج، تتضح أربع طرق كبرى لفهم الدين في التاريخ:
الطريقة التقليدية الوراثية، التي ترى أن الإيمان هو ما آمنت به الأجيال، دون نقد أو مساءلة. هذه الطريقة تُنتج إيمانًا هشًا، وتحوّل الدين إلى طقس اجتماعي مكرر لا أثر له في الوعي والسلوك.
الطريقة الإصلاحية، وهي محاولة واعية لإعادة الدين إلى جوهره، تنقيه من شوائب التقليد، لكنها غالبًا ما تواجه بالتكفير والعداء من حراس التقليد.
الطريقة الثورية الجذرية، وهي التي هدمت كل ما هو ديني، كما فعلت الشيوعية، لكنها سرعان ما أدركت أن الإنسان لا يعيش بدون معنى، وأن الحاجة إلى المقدس فطرية، لا تموت بالقمع.
الطريقة الرسالية، وهي الخيار الأعمق والأصوب، التي ترى أن الدين رسالة عقل وهداية، لا ميراثًا موروثًا. وهي الطريقة التي سار عليها الأنبياء، حين دعوا أقوامهم إلى التحرر من موروثاتهم الباطلة، والعودة إلى فطرة الله.
وهنا لا بد أن نؤكد على أن الدين الحق، حين يُفهم بمنهج الله، يصبح أكثر يقينًا من نظريات العلوم، لأن العلم يتغير ويتطور، أما الحقيقة الإلهية فهي مطلقة في مقصدها، وإن كانت لا تُدرك في كمالها. وقد عبّر القرآن عن ذلك في قوله:
"قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي".
ومع الأسف، فإن كثيرًا من دعاة "الإعجاز العلمي" في القرآن، وقعوا في خطأ منهجي حين جعلوا الدين تابعًا لا سابقًا، يلهث خلف كشوفات الغرب، ثم يسارعون إلى ليّ أعناق النصوص لتأكيد سبق القرآن. وكان الأولى بهم أن يبدؤوا من حيث انتهى العلم، لا أن ينتظروا معجزاته، ثم يسقطوها على النص.
إن الله لم يبعث دينًا ليحل محل الفيزياء أو الكيمياء، بل بعثه ليوقظ العقل ويدفع الإنسان لاستخلاف الأرض. وهذا هو ما تفعله الأمم المتقدمة اليوم، وهو ما تركه المسلمون للأسف.
وهكذا، فإن الأديان حين تُفهم كرسالات للعقل والفطرة، لا تعود أدوات تعصّب، بل جسورًا للفهم، ولا تعود وسيلة قمع، بل طريقًا للتحرر.
إن المطلوب ليس نسف الأديان، بل التحرر من التقليد الأعمى داخلها. المطلوب أن نصلي أنفسنا حربًا كل يوم -كما قال نيتشه- في سبيل الحقيقة، لا أن نقف حائلين بين أفكارنا وما يناقضها.
فالذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، أولئك هم الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
والله من وراء القصد.