لماذا نكره النجاح ونخاف مِنْ النَّاجِحِين؟(٢-٢)
أمَّا اللعبة الثانية فهي «بَوِّشْ.. انْكُبْ».
وتتكون أيضًا من فريقين: (أ)، و (ب). يقوم فيها أحد أفراد الفريقين المتنافسين، وَلِيكُنْ (أ) بإخفاء حَصوةً في يده، ثُمَّ يقبض هو وفريقه أيديَهُم كُلَّها، ليقوم أحد أفراد الفريق الثاني (ب) بالحدس والتخمين مَنْ عَسَاه يُخفِي الحَصْوَة، ويقوم بالفرز، وإخراج الأفراد الذين لا يشكَّ أن يكون بأيديهم هذه الحصوة، ويستبقي مَنْ يظنّ أنها بيده، ويقول لَهُ مُشيرًا إلى إحدى اليدين: بَوِّشْ (بصيغة الأمر)؛ بمعنى أنَّ هذه اليد ليس فيها شيء، وعن الأخرى يقول له (انْكُب)؛ بمعنى ارم الحصوة التي تخفيها في يدك هذه. والنكب في المحكية التهامية بمعنى الرمي والإلقاء.
فإنْ صَدقَ ظَنُّهُ، تَوجَّهَ عَلى الخَاسِر مِن الفريق الآخر أنْ يَستدير جَاعلاً يَديهِ وَرَاء ظهره مُطبقًا إحداهما على الأخرى، ويقوم شخص من الفريق المنتصر بِضربهِ بشدة إمَّا بِشَال تَمَّ فَتلهُ وَحَبكهُ جَيِّدًا، وإمَّا بإحدى يديه، ثُمَّ يستدير بعدها الشخص المضروب لِيُخمِّن مَنْ قَامَ بِضَربهِ مِنْ الفريق المنافس، فإذا نَجحَ في حَدسِهِ، صَارَ الضارب في موقع مَنْ يَتلقَّى الضَرب، وعليه مِنْ ثَمَّ البدء بالتخمين والحدس حتى يُنقذَ نَفْسهُ من الضرب.
تذكرت هذه اللعبة، وأنا فوق الباص في طريقي لقضاء عمل معين؛ إذ رأيت شخصين يلعبان في الجولة بقنينة المياه المعدنية، وكانت مُمتلِئةً بمقدار ضئيل من الماء. كَانَ أحدُهُم يقوم بإمساك القنينة مِنْ رأسها ويقلبها، فإذا نجح وعادت القنينة على هيئتها ولم تسقط، ناول منافسه القنينة ليقوم بنفس التجربة، فإن أخفق، مَكَّنَهُ مُنافسهُ من ظاهر كفيه ليضربها بشدة.
إنَّ هذا النوع القاسي من اللعب، يُولَّد مًزيجًا من الشعور من الخوف والكراهية بين المتنافسين، ولو بشكل غير واعي. فنجاح الآخر كمنافس أو خصم لك يعني صلاحيته المطلقة في إيلامك وإلحاق الأذى بك.
ولمَّا كَانَ مِنْ المفترض بالمدرسة، وهي المؤسسة الثانية بعد الأسرة المَسئولةً عن ترقية النشء وصبغهم بقيم مشتركة وسامية دون فرق أو تمييز بين أبنائها ذُكُورًا كانوا أو إناثًا، وبغض النظر عن طبقاتهم أو فئاتهم الاجتماعية التي ينحدرون منها- إلا أنها -مع الأسف- أسهمت في تكريس نظرة التمييز بين الطلاب بشكل عام، وبين الجنسين بشكل خاص؛ الأمر الذي أفضى إلى قلة التجانس وغياب قيم الاحترام والتقدير والتعاطف والفهم بين الطلاب.
ولا زلت أذكر أنه في الصف الخامس الابتدائي أجرت المدرسة بيننا وبين فصل آخر للبنات (لاحظوا كيف يبدأ تلقين الطالب، ولو بشكل غير واعي، هذا التصنيف والتمييز بين الجنسين منذ وقت مبكر: البنات بإزاء البنين).
ولمَّا كانت النتيجة لصالحنا نحن البنين، لا تتصور مدى الفرحة الغامرة الممزوجة بمظاهر الشماتة بِهِنَّ.
وبدل أن يشتمل الفصلان المتنافسان على كلا الجنسين، فيقال: الفصل (أ) نجح مقابل الفصل (ب)، صارت المسألة: انتصر أو تفوق البنين على البنات، أو تفوقت البنات على البنين. ولا شك أنَّ ترسيخ أسس هذه المعادلة والبناء عليها سيستمر طيلة مراحل عمرنا.
من المؤسف أنَّ مجتمعاتنا تعلي وتعزز نزعات التفوق والغلبة والمفاضلة بين أفرادها على حساب الكفاءة الحقيقية والمثل والأخلاق، فأصبحت قيم التهكم والسخرية هما العنوان الأبرز الذي طبع مجمل وتفاصيل حياتنا الاجتماعية والسياسية.
يذكر أنَّ حافظين للقرآن في إحدى القرى، كانا يتناوبان على إمامة الناس بأحد المساجد، وكانت المنافسة بينهما على أشُدِّهَا، وَكانَ كُلُّ واحد منهما يتربص بالآخر وينتظر الزَلَّة منه حتى يُشَهِّر بِهِ ويَسخر مِنه أمام أصدقائه؛ ليثبت عدم جدارته لتولي هذا المنصب الديني العظيم.
وفي أحد الأيام، وفيما كان أحدهما يَؤمُّ المصلين، وهو يقرأ آيات القرآن الكريم بخشوع، والمصلون وراءه يصغون لتلاوته وقد بَدتْ عليهم سِيمَا الـتأثر، وَصَاحِبهُ يقف وراءه مستمعًا إليه على غاية من الانتباه والتركيز؛ ينتظر متى يلحن أو يتلجلج في قراءته؛ حتى إذا مَا أتَمَّ الإمام قراءته على أحسن وجه، هَوى بيديه للركوع؛ وأشارَ بيمناه للخلف، مُحَرِّكًا إصبعه الوسطى باتجاه مُنافِسهِ كَونهُ عَجِزَ عن النيل منه!
وإذا ما وقفنا قَليلاً أمام هذه الإشارة التي قَامَ بها هذا الإمام الصالح، وهو يصلي بالناس، لَمَا انقضت حيرتنا من القيام بسلوك كهذا داخل المسجد، وليس في الشارع أو السوق، ولا يخفى أيضًا دلالته الجنسية.
والغربيون غير المهذبين يفعلون مثل هذه الحركة مع من يتشاجرون معه، وإن بصورة مختلفة؛ حيث أنهم يثنون أصابعهم على راحة يدهم، ويبقون الوسطى ليشيروا بها للأعلى، وَمعَ ذلك فهم لا يفعلونها في كنائسهم.
برأيي إنَّ الدراسات المعمقة لمجتمعاتنا في نواحيها الكثيرة والمتشعبة: أديانًا، ومذاهب، وَبُنَى قَبلِّية، وأساليب تربوية، وتنشئة اجتماعية، وألعاب، وأمثال، وأشعار، وزوامل، وأهازيج شعبية، وعادات وتقاليد- قد يسهم بشكل كبير في تحسس جذور المشاكل التي نرزح تحت ثقلها، ومن ثَمَّ البدء في علاجها وإزالة العوائق والآفات التي تحول بيننا وبين النهوض واللحاق بالأمم المتمدنة.
كُل مَن قد يقف في طريقك أو يعارض نجاحك ليس بالضرورة أن يكون شخصًا شريرًا أو حاقدًا، فقد يكون إنسانًا مملوءًا بالمخاوف. الخوف من أنك جئت لتحلَّ محله، أو لتقضي على مستقبله المهني، أو لتشي به وتتخلص منه.
وهذا هُوَ حالنا الذي عبر عنه أستاذنا الشاعر الكبير عبد الكريم الرازحي حين قال حين يُسأل عن نفسه أو عن حاله، يجيب: إنه خائف كبير!
أذكر في اليوم الأول الذي ذهبت فيه للقاء شخص مسئول عن توظيفي، وكان هذا بحضور مسئولي الإداري الذي من المفترض أن أعمل معه، وفيما كان المسئول الأول يتحدث عن العمل وطبيعته، وما هو المطلوب، وماهي المهام التي يتطلب القيام بها، حانت مني التفاته عابرة غير مقصودة نحو المسئول المباشر الذي لم يسبق لي التعرف عليه، فرأيت في وجهه علامات الخوف!
لم أفهم حينها سبب ذلك، ثُمَّ اتضح لي لاحقًا سبب هذا الخوف. فالخوف لقاح نُحقَن به منذ طفولتنا، وهو دينننا، وتربيتنا وتعليمنا، وسياستنا، وزراعتنا، وصناعتنا، وتقنيتنا التي أحسنت هذه المؤسسات ممارستها وتطبيقها ونشرها على نطاق واسع في المجتمع.
وإذا كان الاتصال والاجتماع الإنساني هو أساس منشأ اللغة، فكيف يكون حاله إذا فسدت لغته واختل منطق التفكير فيها.
في كتابه «جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون بشكل مختلف، ولماذا؟»، يذهب ريتشارد إي نيسبت، إلى أنَّ مَا كُنَّا نظنه قواعد وقوانين للفكر ليس إلا عادات وأنساق ومنظومات تَرَسَّخَت لدينا على مدى قرون، وليست قوانين كلية فطرية، وأنَّ تغيير عادات الفكر- اللغة- يُفضِي إلى تغيير رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين وللعالم برمته؛ وبمعنى آخر تغيير صورة العالم والعمليات المعرفية التي نجريها في أذهاننا عنه.