تحدثت عن حياة مؤجلة ورحيل الكبار
عزيزة عبدالله: الثورة لا تموت.. وستعود اليمن إلى مبادئها

في الحلقة الخامسة والأخيرة من مذكراتها، تفتح الأديبة عزيزة عبدالله بن صالح أبو لحوم، دفاتر الذاكرة على محطات في تاريخ اليمن الحديث، حيث تتقاطع الأحلام الوطنية بالمآلات القاسية للواقع السياسي المتعثر. من مشروع إحياء قصر غمدان كمركز ثقافي جامع، إلى تحوّله المؤلم إلى مخزن للسلاح، تظهر الهوّة بين تطلعات النخب الثقافية وبين أولويات السلطة.
وفي حديثها للزميلة رحمة حجيرة، توثّق عزيزة محاولات ترميم الذاكرة الجماعية عبر الثقافة، ومشاريع كان يمكن أن تُعيد للمجتمع اليمني توازنه، قبل أن تقطعها النزاعات والصراعات على السلطة. ويتوقف السرد أيضًا عند اللحظات الأخيرة لرحيل اثنين من أقربائها، شقيقها الشيخ سنان أبو لحوم وزوجها الدبلوماسي والسياسي محسن العيني الذي تحدثت عنها كما لم يُروَ من قبل: الزوج، المعلم، والرجل الذي تعب من الحلم.
وبينما تغيب مشاريع التنمية، وتنهار البنية التحتية، تبرز شهادات الأمل من المدن التي تُقصف وتُبنى مجددًا، ومن الأسر اليمنية التي تشبثت بالبقاء لاجئة داخل وطنها، مؤمنة بأن الغد سيكون أفضل، وأن أهداف ثورة 26 سبتمبر ما تزال في الضمير الجمعي، رغم كل الانكسارات.
"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.
رحمة: بشجاعةٍ، ورجاءٍ، وأملٍ خُطّ على جبينها، تمضي الأديبة عزيزة عبدالله في سرد مذكراتها. ثمانون عامًا مرّت، وما زالت تمسك بخيط الأمل وسط العواصف، وتواصل رواية تفاصيل رحلتها الاستثنائية.
واليوم، نطرح عليها سؤالًا أخيرًا:
ما الحلم الذي لم يتحقق؟ وما الدور الذي يمكن أن تؤديه في سبيل المصالحة اليمنية، خصوصًا وقد احتفظت بمكانة لدى معظم الأطراف؟
نبدأ من مؤلفاتها، ومن رواية "طيف ولاية".
ما الرسالة التي أردتِ إيصالها من خلال هذه الرواية؟
عزيزة: أولًا، الرواية تعكس جانبًا من الظلم الذي كان يمارسه بعض المشايخ أو نواب الإمام، حين كانوا يستقدمون العسكر من القرى ويستخدمونهم كأداة للبطش.
بطل الرواية، "أبو ناجي"، واجه ظلمًا كبيرًا. توفي والده، فكبر يتيمًا، وتنقّل مع والدته في رحلة قاسية.

رحمة: وكل ذلك كان نتيجة لنظام الإمام، وطريقة إدارته للدولة حينها؟
عزيزة: بسبب الجميع، لأن الظلم كان ممنهجًا، ولم يقتصر على الإمام وحده.
رحمة: ولكن هل انتصر الحب في نهاية الرواية؟
عزيزة: في النهاية، عاد الابن، وكانت والدته قد أصبحت مسنّة. وعندما عاد إلى صنعاء بعد الثورة والوحدة، كان قد بلغ الخمسين. تعرّف على مضيفة تعمل في أحد الفنادق، وارتبط بها، بعد أن زار ولاية ووجد والدتها قد توفيت.
رحمة: وهل ظل يحب "ولاية" رغم مرور كل تلك السنوات؟
عزيزة: رآها، وأدرك أن ما كان يطارده مجرد طيف.. لم تكن الحقيقة كما تخيّلها.
رحمة: ننتقل إلى "أحلام نبيلة"، ما الرسالة التي سعيتِ لتقديمها فيها؟
عزيزة: الرواية تسلط الضوء على الهجرة، فقد عايشتُ الكثير من اليمنيين المهاجرين، وكنت دائمًا أسألهم: ماذا تعمل؟ كم سنة لك هنا؟ وكيف هي حياتك؟ أحدهم حكى لي أنه حين وصل إلى السعودية، وكان ذلك في زمن كانت فيه أعمال البناء تتم يدويًا، سُئل من قبل صاحب الورشة: هل تستطيع العجن؟ فأجابه اليمني: "وأخبز كمان".

رحمة: ما هي الفكرة التي كانت؟ هل كانت تتحدث عن الحب؟
عزيزة: كانت تحكي عن الغربة، وعن معاناة اليمنيين، والأوضاع في البلد، والمشاكل والحروب. كان البعض يجمع الأموال، وعند عودته إلى اليمن يدخل في مشاكل مع عمه أو خاله على أي موضوع حتى وإن كان بسيطاً، ويصرف ما جمعه. ويعود مثل قصة ناجي في رواية طيف ولاية، حينما وصل، أكرم الناس وأضاع أمواله.
رحمة: لم تكن لديهم قدرة على الترشيد.. وبالنسبة لرواية عرس الوالد في عام 2004م، هل كانت سيرة ذاتية للأستاذة عزيزة عبدالله؟
عزيزة: أنا حينما بدأت بها كانت على أساس سيرة ذاتية.. ولكن الدكتور عبدالعزيز المقالح (رحمه الله) قال لي: "لابد أن توصفي الأماكن، ويجب ألا تكون مجرد مذكرات"، وكانت على هذا الأساس.

بالنسبة للقصة، فقد بدأت بسرد سيرتي منذ كان عمري بين الرابعة والخامسة، عندما تزوج والدي وكانت والدتي حامل وعلى وشك الولادة. كنت في بيتنا المكوّن من خمسة طوابق، والدتي كانت في الدور الخامس، وكانت هناك غرفة تُسمى "عدنية" وأخرى "قِبلية"، إحداهما لواحدة من خالاتي وبينهما صالة. في ذلك اليوم، نهضت من نومي وأنا أرى أشخاصًا يُدخلون صحون الطبخ والذبائح، وشعرت أنها مناسبة كبيرة، ولم أعرف ما الذي حدث! فبحثت عن والدتي وكنت أناديها "أمي، أمي"، ولم أستطع الوصول إلى الباب لأفتحه وأخرج.
رحمة: هل كانت والدتك تبكي حينها؟
عزيزة: لم أرَ والدتي إلا في العصر، وكانت في حالة وضع. أتذكر وقتها أنها قالت لوالدي: "ليتك أجّلت الزواج".

رحمة (مقاطعة): لقد جسدتِ معاناة المرأة مع التعدد، وهذه إحدى المشاكل.
وبالنسبة لكتاب الخواطر المنثورة في 2016؟
عزيزة: في هذا الكتاب جمعت كل المحاولات الشعرية، وكان أولها قصيدة اسمها أنتِ الدنيا، كتبتها في ابنتي هدى. وبعدها جاءت خواطر عقب الوحدة وتنقّلاتنا من مكان إلى آخر. جمعت خواطر كثيرة، ولم تقتصر هذه القصائد على الأسرة فقط، بل كتبت عن الوطن، والعروبة، وحكامنا.
رحمة: يبدو أنكِ كنتِ تتألمين كثيرًا، لأنكِ في منشور على منصة فيسبوك عام 2017 كتبتِ عبارة: "حفظ الله اليمن". فما أبرز تفاعلات المعلقين وتعليقاتهم على هذه العبارة الوحيدة؟
عزيزة: التعليقات كانت كثيرة جدًا. في تلك الفترة، كان أبو هيثم لا يزال على قيد الحياة، وكان يقول: "نحن لم نفعل شيئًا، نحن جيل الخيبة، ثورات ومحاولات، ولم نحقق شيئًا لليمن". فكانوا يردون عليه: "كيف تقول ذلك؟! وأنت من أسّست جامعة صنعاء، وذمار، وتعز، والتلفزيون!". وبالطبع، كان ذلك في الفترة التي تولّى فيها رئاسة الوزراء، ولو لفترة قصيرة، لكن العمل كان يشهد له، حتى الطرقات.
رحمة (مقاطعة): وكان يرى كل شيء يُدمَّر ويتدهور، حتى أنتِ!
عزيزة (متابعة): وفي النهاية نجد أنفسنا نتقاتل من جديد... هذا شيء فظيع! شعرتُ أن كل شيء كان مجرد حلم! لكن، كما قال، وسأظل أقول ذلك: لأن محسن العيني لم يكن فقط زوجي، بل كان مُعلّمي، والمناضل، والمضحي. كنت أحاول، بقدر الإمكان، ألّا أجعله يهمّ بالأولاد، أو بالمدارس، أو بالتنقّل.
لأنه عندما يأتي ويقول: "أنا مسافر"، يأخذ حقيبته، وأنا، فيما بعد، أقوم بجمع أوراقه وأسافر بعده مع أولادي؛ أحدهم في حضني، والآخر يسير أمامي. وأتذكر حينما ذهب لزيارة الطبيب، وكان وقتها في حالة اكتئاب، وكان يدخن وتوقف. قال له الطبيب: "لا تدخن". ثم سأله: "لماذا أنت حزين؟". فردّ عليه محسن: "أحلامنا كلها تبعثرت. إخوتنا يتقاتلون، وجيراننا كذلك.. فماذا فعلنا في حياتنا؟"
وحينها كنت أحاول، رغم قناعتي بما يقوله، أن أقول له: "أنت، والحمد لله، أسّست وفعلت أشياء. وأولادك بعدك، هيثم أسس صُنّاع الحياة، ونرى النساء يحترفن الخياطة والفنون، ومنهن من درست وتعلّمت، وهناك أشياء كثيرة جميلة". وأتذكر عندما بدأوا بإنشاء مطار صنعاء، كان يذهب صباحًا، قبل أن يذهب إلى مكتبه في رئاسة الوزراء، ليتابع أعمال بناء برج المراقبة بنفسه، حتى يتم إنشاؤه بالطريقة اليمنية.
رحمة: من الطبيعي أن يشعر بالخذلان، فبعد كل ذلك تبعثرت الأحلام.لكن هناك سؤال لكِ، أستاذة عزيزة: أنتِ عاصرتِ مراحل كثيرة في اليمن، برأيك، لماذا اليمنيون دائمًا يتقاتلون ثم يتصالحون، ثم يتقاتلون ويتصالحون؟ من وجهة نظرك، متى سيتوقف ذلك؟ ولماذا تحدث هذه المواجهات المسلحة باستمرار؟
عزيزة: بالعلم، والدراية، والثقافة، وفهم الدين فهمًا صحيحًا.. ليس فقط الطائفية. حتى في الدين، نحن لم نكن نعرف إلى أي مذهب ينتمي الآخر. كنا جميعًا مسلمون، نصلي سويًا.
رحمة: بالطبع، لكن من المعروف أن اليمنيين متديّنون، فهل من المعقول أنهم لا يعرفون أن القتل والاقتتال حرام؟ لا تمر خمس عشرة سنة أو عشرين إلا وتندلع أزمة أو حرب!
عزيزة: يا ليت! لو كانت عشرين سنة!. أحيانًا قبيلة وأخرى، في شهور فقط، تندلع بينهم ثارات ومشاكل!. وهذا موجود منذ زمن.صحيح أن هناك فترات هدأت فيها الأوضاع، لكنها عادت الآن بقوة أكبر.
في السابق، كان الناس على نهج واحد: العرف القبلي. أما الآن، فلا احترموا الأعراف القبلية، ولا أوامر الدولة، ولا الدين!. كل شيخ يفتي بشيء، وكل فقيه يناقض الآخر، وحتى لو كانوا في نفس المدينة، تجد كل جامع له طريقته.
رحمة: حتى الأحزاب السياسية تؤيد استخدام العنف.
عزيزة: نعم، الأحزاب السياسية أيضًا! تذكري أن عبدالله السلال (رحمه الله) عندما سأله جمال عبد الناصر:
كم عدد البعثيين في اليمن؟
قال: 8 ملايين.
وكم عدد القوميين؟
قال: 8 ملايين.
والشيوعيين؟
قال: 8 ملايين.
والإسلاميين؟
قال: مليون.
فسأله عبدالناصر: كم عدد سكان اليمن؟
فأجابه السلال: 8 ملايين!

رحمة: يعني يتلونون بسهولة، هنا وهناك.
عزيزة: لكن، في نفس الوقت، النفوس طيبة. لأنه، عندما يلتقون ويتصالحون، تكون هناك فرحة. لكن، لا يمر وقت طويل حتى تحدث أزمة جديدة في مكان آخر.
رحمة: ثم يعودون ويتصالحون من جديد. ربما أردتِ الإشارة إلى هذا الموضوع في "تهمة وفاء" أو "اركنها الفقيه" (1998).
عزيزة: مشكلتي أنني لا أستطيع الإيجاز.
"اركنها الفقيه" كانت بين بنت "القشّام" والفقيه الذي كان يؤم الناس في "المشهد" بصنعاء، وهو المكان الذي تُقام فيه صلاة الجمعة والعيد. كان هناك بستان كبير تابع للعامل، وكنت أشتكي منه كثيرًا لأنه كان أقرب إلى الناس من نائب الإمام.
أنا، في كتاباتي، أتناول غالبًا فترات ما قبل الثورة، فترة الإمامة، وخرجت عن هذا النطاق فقط في "أحلام نبيلة" التي تناولت ما بعد الثورة.
رحمة: ما الذي اختلف في "اركنها الفقيه" عن الروايات السابقة فيما يتعلق بفترة الإمامة؟
عزيزة: اركنها الفقيه بالكامل تتحدث عن ذلك الوقت. كان هناك ما يُعرف بـ"المنزلة" التي يسكن فيها طلاب العلم في الجامع الكبير، وجامع الفليحي، وجامع معمر المجاور لمنزلنا، وفي "المشهد الكبير". وكان بعض الفقهاء يأتون من القرى، أو ما يُسمَّون بـ"سادة الجمعة".
أما القشّام، فكان وضعه المادي صعبًا، وزوجته متوفية، وله ابنة. فنصحه أحدهم بتأجير مكان في بيته لهذا الفقيه "الفاضل"، فسكّنه عنده. كبرت البنت، ووسوس الشيطان للفقيه... أتذكر أن هذه القصة نشرتها صحيفة 26 سبتمبر على ثلاث أو أربع حلقات، ثم تم إيقاف النشر، وقالوا إنني "أخطأت في الدين"، لأن الفقيه الذي كان مأمونًا خان الأمانة، والفتاة هربت، لأنها وجدت نفسها حاملًا!
رحمة: هذه أمور تحدث في مجتمعات كثيرة حول العالم.
عزيزة (متابعة): هربت الفتاة، وكانوا بالقرب من "شعوب"، خلف "دائرة صنعاء"، هاجمتها الضباع، وفقدت الوعي. وعثر عليها أناس كانوا يجلبون الماء من "جبل خزيمة" ومن "بئر الباشا"، وسمعوا صراخًا، فهربت الضباع. كانت يدها مجروحة، فحملوها إلى والدتهم، لكنها لم تعد تتذكر شيئًا: من هي؟ ابنة من؟ ومن أين جاءت؟ حتى أنا سألت طبيبًا نفسيًا عندما كنت أكتب الرواية…
رحمة: وكيف كانت نهاية هذه الرواية؟
عزيزة: استعادت وعيها، وأنجبت طفلًا، وأخذت العائلة التي كانت قد آوتها الطفل. ثم عادت إليها الذاكرة، لكنها هربت مرة أخرى، وظلت تهيم من مكان إلى آخر حتى وصلت إلى أرض الحجاز، وهناك باعوها كخادمة، وكانوا يسمّونها "المشوّهة" بسبب يدها.
رحمة: لن نكشف عن نهاية القصة حتى يتم شراؤها وقراءتها.. دعينا ننتقل إلى رواية تهمة وفاء، الصادرة عام 2002.
عزيزة: "تهمة وفاء" تدور أحداثها في بيئة المكاتب، عندما بدأت الرشوة تتفشّى في الوظائف.
رحمة: هل كانت أحداثها في عهد الإمام أم بعده؟
عزيزة: لا، كان ذلك فيما بعد. قصتها تدور حول مهندس كمبيوتر شاطر، التحق بإحدى الوزارات. هذه الوزارة أرادت التخلّص من مجموعة من الأجهزة بصفقة جديدة، لكنه أخبرهم أنه يستطيع إصلاحها، فتآمروا عليه جميعًا. وأسميتها تهمة وفاء لأنه كان وفيًّا لوطنه، لكنهم تآمروا عليه وأخرجوه من عمله.

رحمة: هل رأيتِ لماذا نقول إنك تنبضين بأوجاع اليمن؟ لكن، لماذا تحبين أن تُعرفي باسم "عزيزة عبد الله"، بينما أسرتك هي بيت أبو لحوم، وهي أسرة عريقة شاركت في ثورة 26 سبتمبر وناضلت؟
عزيزة: سأقول لكِ... في البداية، كان أول جواز حصلت عليه يحمل اسم "عزيزة عبد الله صالح".
وعندما صعد الرئيس علي عبد الله صالح إلى سُدّة الحكم، كانوا في أي مطار، وتحديدًا المطارات العربية، يرون الجواز، لأن محسن كان يسافر كثيرًا، وكنت معه. فكانوا يقولون لي في المطار: "إزي الريّس؟ سلمي عليه!"
رحمة (ممازحة): كانوا يعتقدون أنكِ شقيقة الرئيس علي عبد الله صالح!
عزيزة: نعم، فقررتُ تغييره إلى "عزيزة العيني". وعندما بدأت أكتب في صحيفة اليمن الجديد وصحيفة الوحدوي، كانوا يقولون: "طبعًا زوجها رئيس وزراء، ولهذا تُنشر كتاباتها في كل الصحف!"
فقلنا حينها: لا نكتب "عزيزة العيني"، ولا "عزيزة أبو لحوم"، حتى لا يقولوا: "لأنها ابنة أبو لحوم، أو لأن إخوتها لهم مكانة".فاتفقت مع محسن أن أكتب "عزيزة عبد الله"، واستمررت به. وأحب أن يناديني الناس "عزيزة عبد الله"، وبعدها يأتي: "عزيزة عبد الله بن صالح أبو لحوم"، أو "أم هيثم العيني".. كله مقبول، ولا مانع لدي الآن.
رحمة: رحيل شقيقكِ الشيخ سنان في 2021، وبعده بسبعة أشهر فقط رحل الأستاذ محسن العيني.. كيف كانت تلك الفترة؟
عزيزة: بالنسبة لأخي سنان، فقد اشتد عليه المرض، وكان قد بلغ التسعين من عمره، مع أن ذاكرته كانت قوية، ولم يكن يمضغ القات، ولا يدخن، ولا حتى يشرب المداعَة، وكان لا يأكل اللحوم، ويقول لنا ممازحاً: "أنا لم أعد أبو لحوم.. أنا أبو سمك وأبو دجاج!" كان محافظًا على صحته. وعندما توفّي، وكانت الحرب قد اندلعت في اليمن، كان يُفترض تسفيره بطائرة خاصة، لكن التحالف لم يسمح للطائرة بالوصول من القاهرة إلى صنعاء.

فسافرنا إلى عدن، وعند وصولنا، اجتمعت كل الأحزاب في المطار، لأن الخبر كان قد نُشر. وكنت أتمنى وقتها أن يخرج سنان من التابوت ويقول لهم: "اتحدوا.. وطنكم يضيع، ولن ينفعكم أحد!"
في الطريق من عدن إلى صنعاء، سلكنا طريقًا عبر الجبال. وكانت أكثر حياة سنان في مدينة إب. السيارات كانت مثل السيول، وسلكنا طريقًا يُدعى "السائلة"، وهو طريق متعب جدًا، وعندما وصلنا صنعاء، كان هناك أكثر من ألف سيارة ترافق الجثمان، ودُفن في صنعاء.
رحمة: لقد كان محبوبًا لدى الجميع.. لكن، ألم يحاول بذل وساطات بين الأطراف للمصالحة فيما بينهم؟
عزيزة: منذ عام 2011، لم يعد كما كان. حتى حين توفي ابنه طارق، لم نخبره بذلك، لم نستطع. وكان يسألنا: "هل هناك شيء؟" ثم توفي أخي محمد، وكان يقول عنه: "هذا ابني، وليس أخي!" وعندما خضع لعملية قلب، كان يقول للطبيب: "قل للدكتور هذا ابني، خذ قلبي له!" كان يسأل عنهم، لكن ذهنه لم يعد حاضرًا كالسابق. وبعد سبعة أشهر، توفي محسن. وكان يقول لي دائمًا: "أنا بعد سنان!" وبالفعل، توفي بعده بسبعة أشهر.. ونفس الرحلة إلى عدن.
رحمة: هل نتحدث عن لحظة وفاته؟ أم لا نزيد الوجع عليكِ؟
عزيزة: تفضلي، كلنا مؤمنون بالله، وبالقضاء والقدر.
رحمة: هل كان يشعر بقرب أجله؟
عزيزة: عندما انتشر وباء كورونا، أخذ محسن الجرعة الأولى والثانية من اللقاح، ثم أصيب بجلطة. كانت صحته جيدة. الساعة الثانية عشرة ليلًا، كنا في غرفة بها تلفاز، وكان يدخل إليها الساعة الحادية عشرة كما تعوّد، وسألني: "هل لا زلتِ مستيقظة؟" ولم يكن فيه شيء. ثم دخل إلى غرفته.
بعد قليل، سمعنا طرقًا على الباب، كان محسن سهيل من يطرق، وقال: "الأستاذ لم يستيقظ؟" فقلت له: "لماذا؟" ووجدناه فوق الكنبة بين غرفته والحجرة التي كنت فيها. وقال: "جيد أنكم سمعتموني!" فأخذناه.

كانت ابنتي هدى في عرس، فاتصلت بها ووصلت فورًا. وجاء الشيخ محمد، وكنا نسكن جميعًا في حيّ واحد قريب من بعضنا.
رحمة: الشيخ محمد علي أبو لحوم، هو ابن أخيكِ وزوج ابنتكِ هدى، أليس كذلك؟
عزيزة: نعم. ردفان حفيدي، وجبران محمد علي هو ابن ردفان طارق.
عندما أسعفنا الأستاذ إلى المستشفى، كان من المفترض أن نذهب إلى "دار الفؤاد" لأنه الأقرب إلينا، لكن بسبب مشكلة كورونا، كانت المستشفيات جميعها مغلقة، فذهبنا إلى مستشفى في أكتوبر. هدى كانت قد وصلت، وصعدنا إلى السيارة. كان صاحيًا، ويقول: "لا تخوّفيهم، أنا بخير، حالتي جيدة"، لكن لسانه كان يثقل بالكلام. وعندما وصلنا وأُجريت له أشعة مقطعية، قالوا إن هناك نزيفًا في المخ، ولابد من حضور جراح مخ وأعصاب. وكان هيثم قد وصل الساعة 11 صباحًا.
كل هذا حدث من الساعة 12 ليلًا حتى الـ11 صباحًا. ثم نقلناه إلى مستشفى آخر متخصص في المخ والأعصاب، بناءً على توصية بطبيب جيد. قال الطبيب إنه لا بد من إجراء عملية فورًا. تم إجراء العملية، وبعدها ظل على قيد الحياة 17 يومًا، وكأنه كان يودعنا.
جاء طارق من اليمن، وهيثم، والدكتور عباد صالح (ابن أخي)، وتجمعنا جميعًا. وكان آخر شيء فعله أنه أمسك بيد حفيدتي، ابنة هيثم، ولم يتفوه بكلمة، ثم دخل في غيبوبة.
رحمة: في عام 2020، جمعتِ خواطركِ في كتاب وسميته "أنتِ الدنيا". لماذا اخترتِ هذا الاسم تحديدًا؟
عزيزة: لأن القصيدة التي تحدثتُ عنها سابقًا، كتبتها لهدى. قبل عام 67 كنت أكتب غزلًا، وقصائد، وكنت أشارك في "البالة" والأغاني التي كانت تتبادلها النساء.
رحمة: ماذا تعني "البالة"؟
عزيزة: "البالة" تُعرف في القرية، وفي صنعاء تُسمى "المرازحة". بحيث تقول امرأة كلامًا جميلًا، فترد عليها أخرى بكلام أجمل أو أقوى.
رحمة: أي أنها كانت نوعًا من الهجاء أو المدح المتبادل بين النساء؟
عزيزة: نعم، وهذا كان موجودًا منذ زمن.
رحمة: وكيف كانت النساء يتقنّ الشعر؟ لا إنترنت ولا تعليم في تلك الفترة!
عزيزة: قلت لكِ سابقًا: النساء كنّ يروين سيرة الهلالي، عنترة، وسيرة الحسين.
رحمة: هل كانت تلك ثقافة ذاتية؟ أم تناقل شفهي للأحداث؟
عزيزة: ثقافة شفهية.
رحمة: يبدو أن النساء كنّ بارعات في المدح والهجاء!
عزيزة: نعم، خصوصًا "الحريبيات"، وبيت أخوالي. علي بن علي الشحيفي، جد والدتي، كان له قصيدة، طلب الإمام القبض عليه بسببها، فأخذ جنبيته ولوّح بها على العسكر، وخرج من بينهم وهرب!

رحمة: كان شاعرًا ومقاتلًا أيضًا! المهم، قمتِ بجمع كل كتاباتكِ في هذه الخواطر. وبالنسبة للقصائد، ما هي القصيدة الأقرب إلى قلبكِ، وتحبين دائمًا ترديدها؟
عزيزة: القصيدة التي كتبتها لهدى، عندما كنا في موسكو عام 68، مرضت هدى حينها، وأدخلناها إلى المستشفى. الروس كانوا حريصين جدًا على عدم إخراجها، حفاظًا على صحتها، فكتبت لها هذه القصيدة:
يا أنتِ.. يا من أنتِ
الدنيا، وما الدنيا
وما فيها بدونكِ يا هدى
آه لو تدرين ما أنتِ بالنسبة لي
أنتِ النبض الذي به ابتدأ عمري
كل أيامي قبلكِ لم تُحسب علي
كيف يُحسب عمرٌ لم أعشه قبل أن تأتي؟
أنتِ من قلتُ: جاءت سلوتي في غربتي
أنتِ المُنى، أنتِ مجدافي وبحري… لا،
أنتِ المرسى
أنتِ قنديلي وضوئي… لا،
بل أنتِ الشمس
أنتِ إلهامي… ما كتبتُ إلا لأجلكِ
ما نظمتُ الشعر واستوحيتُه إلا من عيونكِ، يا عيوني
آه لو تدرين ما أنتِ بالنسبة لي
آه لو تدرين ما معنى هدى
رحمة: هنيئًا لها، وأكيد أن إخوتها سيغارون لأنك كتبتِ فيها هذه القصيدة. أنتِ تستقرين حاليًا في القاهرة منذ عام 2015، هل تفكرين في العودة إلى اليمن قريبًا أم تنتظرين توقف الحرب؟
عزيزة: طبعًا، أنا عدت إلى اليمن أكثر من مرة، وحلمي منذ زمن - حتى عندما أشتري فستانًا أو طرحة أو حذاء - أتساءل: هل تصلح لليمن أم لا؟ حياتي الدبلوماسية وغربتي كلها مؤقتة، حتى في البيوت التي استأجرناها أو عندما اشترينا شقة في الثمانينيات، كل شيء كان مؤقتًا. نحن راجعون إلى اليمن.
رحمة: أستاذة عزيزة، ما الذي كنتم تريدون فعله في قصر غمدان؟ هل لوحات أو أنشطة ثقافية أم ماذا بالضبط؟
عزيزة: قصر للثقافة، نستضيف فيه المسرحيات، الندوات، المعارض، الصور، اللوحات... سنحضر فرقًا فنية، وسيكون جزء منه متحفًا لآثارنا وإنجازات أبطال ثورة 26 سبتمبر.
رحمة: يعني ستقام فيه كل الفعاليات الثقافية؟
عزيزة: نعم، كل الفعاليات.
رحمة: وستقومون بتشجيع السفراء وبعض المراكز من أجل تمويلكم؟
عزيزة: كنا قد تلقينا وعدًا من سفير اليابان، وله صلة بوزارة ثقافتهم، وقال إنهم كما أنشأوا دار الأوبرا في القاهرة، مستعدون لتقديم ما قدموه لمصر. وأنا كان يهمني الموافقة، وبالفعل جاءت من الرئيس علي عبدالله صالح، وكتبت له رسالة شكر.

وعندما كنا في صنعاء، كنا على تواصل مع عبدالوهاب الحجري من أمريكا، وأحمد الكبسي من صنعاء، وكانوا يتراسلون ويتابعون أين وصلنا. ثم جاءني اتصال من أحد الأشخاص العاملين مع الرئيس، يقول: "هل لديكِ مليونا دولار حتى ننقل السلاح ونبني معسكرًا آخر؟ هذا قصر السلاح، لا يوجد قصر غمدان!"
رحمة: كان ذلك محبطًا، أليس كذلك؟
عزيزة (متابعة): قلت له: هل هذا كلامك أم كلام الرئيس؟ قال: الرئيس مصرّ على أن لا يُنقل، هذا قصر السلاح.
رحمة: أقنعوه ألا يتم المشروع؟
عزيزة: نعم، لن يتم إلا إذا كنتُ أملك مليونين.
رحمة: أو أنهم عرفوا أنكِ تقومين بجمع تمويل؟
عزيزة: نعم.
رحمة: ألم تحاولي بعد ذلك التواصل مع الرئيس من جديد؟
عزيزة: حاولت وكتبت رسالة، وجاءني الجواب. رد عليّ الشخص نفسه وقال إن الرئيس عندما رأى تكلفة نقل القصر، قال: "ينقلوهم إلى مكان آخر". قلت له: أريد قصر غمدان. قال: هذا ليس قصر غمدان، قصر غمدان كان في "الجبّانة" أو ما كان يُعرف بـ"سوق العرج".
رحمة: بعد رحيل الرئيس علي عبدالله صالح، ألم تحاولي التواصل مع سلطات صنعاء (أنصار الله - الحوثيين)؟
عزيزة: لقد تركنا كل الأفكار والأحلام، فقط كل ما كنا نريده هو إيقاف الحرب بينهم، ووقف التدخلات الخارجية، وأن يتفقوا، كما قال لهم محسن العيني في رسالته عام 2014: "اجتمعوا، حلّوا مشاكلكم".

رحمة: وبعدها، ستحل مشكلة قصر غمدان وحدها إذا توقف اليمنيون عن اكتناز السلاح.
عزيزة: أنا في مقابلة على قناة النيل تحدثت أنه في كل بلد هناك لاجئون، أما نحن ففي اليمن ينزح الناس من مدينة إلى أخرى، ومن يذهبون إلى مصر أو الأردن هم قلة. نحن لسنا شعب لاجئ، نحن متمسكون بالأمل ونقول: "غدًا سيتفقون". ولم يختفِ الأمل، ليس فقط في قصر غمدان الذي أصبح حلمًا منسيًا، بل أملنا في مساعدة الناس والأطفال.
انتشرت الأمراض، لكننا لا نزال محافظين على القيم والتراحم بين الناس، لكن البلد لم يعد فيه بنية تحتية، ولا مدارس، لا في الشمال ولا في الجنوب. لا هذا الطرف عمل شيئًا للوطن ولا ذاك.
رحمة: بعد 61 عامًا من ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، الثورة التي ناضلتم وأسرتكم لأجلها... كيف ترين الأهداف الستة؟ هل تحققت؟ أم تراجعت؟ أم لم تتحقق؟
عزيزة: الأهداف الستة موجودة، وحتى لو تغيّر الحكّام والرؤساء، الثورة راسخة في الوطن ومبادئها. الكل مؤمن بها، هي فترة وستعود اليمن. الأمل في الله كبير، وأملي في أهلي وإخوتي وأولادي أن يصلوا إلى حل، إن شاء الله.

رحمة: وسنعيد إعمار اليمن.
كيف تتمنى عزيزة عبدالله أن ترى اليمن بعد خمس سنوات؟
عزيزة: أنا متفائلة بالخير، ليس بعد خمس سنوات، بل في هذا العام إن شاء الله.
رحمة: هل تتوقعين توقف الحرب وإعادة الإعمار؟
عزيزة: نعم، توقف الحرب وإعادة الإعمار، حتى الآن هناك بعض المدن أو القرى التي يتم قصفها، لكن في اليوم التالي يبدأ الناس في إعادة البناء. إنه شعب مكافح، محب للحياة، للنشاط، للبناء. أنا سمعت عن قرار جديد يحدد أيامًا في الأسبوع للحد من استهلاك القات، وهذا شيء عظيم.
رحمة: خطوة في مواجهة أضرار القات.
عزيزة: والشيء الجيد أيضًا هو البدء في فتح الطرق الرئيسية بين صنعاء وعدن والبيضاء ومأرب ولحج، بدلًا من المشقة.
رحمة: بدأ الأمل.

عزيزة: عندما تجولنا حول اليمن، واصطحبتُ سيدات النادي الدبلوماسي - كنا أكثر من 45 امرأة - من بينهن أمريكيات، ألمانيات، سعوديات، أميرات من الكويت والبحرين، ومن مصر كانت زوجة رئيس مجلس الشورى. زرنا كل المدن، ولم نزر سقطرى لأن الوقت لم يكن كافيًا.
اخترنا توقيت الزيارات في سبتمبر، و14 أكتوبر، و22 مايو، هذه المناسبات الثلاثة المقدسة لدي.
زرنا كل الأماكن، وأتذكر أن إحدى الألمانيات قالت: "لقد زرتُ العالم، ولكن لم أشعر بالراحة إلا في اليمن". في تعز، استضافنا الشيخ أحمد محمد منصور (رحمه الله) في بيته.
رحمة: القادم أجمل.. أستاذة عزيزة، باسمي وباسم فريق "حكايتي" أشكركِ لأننا حظينا بحوار معك حول مذكراتك، وهذا شرف كبير لنا.
عزيزة: الله يحفظكم، وإن شاء الله لن أقول غدًا أو بعد غد، بل في هذا العام، نستضيف هؤلاء الشباب الذين أتعبناهم في اليمن. وأهلًا وسهلًا، وشكرًا جزيلًا لابنتي رحمة، المثقفة والوطنية، والتي جمعت كل الصفات الجميلة.
رحمة: مشاهدينا، ثمانون عامًا اختصرتها الأستاذة عزيزة عبدالله بن صالح أبو لحوم في عدة حلقات، بشجاعة ورجاء وأمل، وشمتها على جبينها وعلى جبين اليمن. نلقاكم مع ضيف جديد وحلقة جديدة.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)