من دروس الصومال إلى فرص اليمن: خارطة طريق نحو سلام يُصنع محلياً..
تكشف مسيرة كلٍّ من اليمن والصومال عن دولتين أنهكتهما النزاعات الطويلة، والانقسام السياسي، والأزمات الإنسانية. ومع ذلك، بينما تمكّن الصومال تدريجيًا من تحقيق قدر من الاستقرار وبناء إطار سياسي وظيفي—وإن كان هشًّا—بعد عقود من الحرب الأهلية، لا يزال اليمن يواجه صراعًا متجذرًا وعملية سلام راكدة ومعطّلة. أعتقد أنّ تحليل التجربة الصومالية في بناء السلام يقدّم رؤى قيّمة لمسار اليمن نحو تسوية النزاع واستعادة الدولة، رغم الاختلافات الجيوسياسية.
وما يمكن استنتاجه واستنباطه قد يساعد على الاستفادة من فرص التشابه، وإلقاء الضوء على المختلف، وبحث إمكانية الوصول إلى حلول محلية يمنية مناسبة.
تبنّي المصالحة الشاملة من القاعدة إلى القمة:
جاء التقدّم الصومالي في مسار بناء السلام من أسفل إلى أعلى، وليس من خلال نموذج تقوده النخب والمكوّنات السياسية فقط. فبعد انهيار الدولة الصومالية عام 1991، فشلت المؤتمرات والمفاوضات الفوقية المتكررة في معالجة الانقسامات العشائرية العميقة. كما فشلت محاولات أخرى اعتمدت على جمع النخب والمكوّنات السياسية وأمراء الحرب للتفاوض المباشر أو غير المباشر. حدث التحوّل عندما مُنحت الهياكل المحلية والعشائرية—المستندة إلى الآليات التقليدية والأعراف الاجتماعية لحل النزاعات مثل النظام العرفي المعروف بـ”الحير“—القدرة على التوسّط في النزاعات، واستعادة النظام الاجتماعي، وتشكيل أساس للاتفاقات السياسية.
فرص اليمن:
هيمنت المفاوضات الرسمية بين القوى المسلحة و النخب السياسية الكبرى على جهود السلام في اليمن، مع استبعاد و إبقاء مشاركات المجتمعات المحلية وشيوخ القبائل والنساء ومنظمات المجتمع المدني في إطار صوري فقط. إن اعتماد استراتيجية تقوم على أولوية المحلي قد يعزّز الشرعية والثقة، خصوصًا في المناطق التي لا تزال الهياكل المحلية فيها فاعلة. ولتحقيق مصالحة مستدامة، قد يحتاج اليمن إلى حوارات محلية موازية تغذّي اجندة و خطط الاتفاقات الوطنية وتدعم تطوير بنية المصالح المشتركة، وتذيب الفوارق و التباينات السياسية، وتخفف من انعدام الثقة.
معالجة المصالحة الاجتماعية وفجوات الثقة:
لم يكن السلام الصومالي مشروعًا سياسيًا فقط؛ بل اعتمد بشكل كبير على التعافي الاجتماعي داخل القبائل و الأقاليم وفيما بينها. فقد ساعدت المصالحات المجتمعية، المدعومة غالبًا من الشيوخ وشبكات النساء والزعماء الدينيين، و المجتمع المدني على تقليص دوامة الانتقام و ضعف الثقة وأتاحت الفرصة لترسيخ الاتفاقات السياسية الوطنية و دعم الدولة الوليدة بما تحتاجه من طاقات و كوادر بشريه حيوية و موهوبة.
فرص اليمن:
يواجه اليمن انقسامات اجتماعية عميقة على أسس طائفية وقبلية ومناطقية. التسويات السياسية بين النخب لا يمكن أن تحلّ محل المصالحة القاعدية. و بنظرة واقعية نجد أن المجتمعات فقدت الثقة بالقوى السياسية بينما ما زالت القوى التقليدية تتمتع بالثقة الشعبية و الاستجابة لها. إن الاستثمار في العدالة الانتقالية، ولجان السلام المحلية، وبرامج ردم الهوة—على سبيل المثال لا الحصر؛ بين النازحين والمجتمعات المضيفة—يمكن أن يرسّخ الأسس الاجتماعية لفرص سلام حقيقية.
قبول اللامركزية كأداة للاستقرار:
إن النموذج الفيدرالي للصومال، الذي أُقر في دستورها المؤقت عام 2012، لم ينشأ من رغبة في سلطة مركزية قوية، بل من واقعية وضرورة التوصل إلى تسوية مع أقاليم تتمتع باستقلالية ذاتية مثل بونتلاند وأرض الصومال بحكم الأمر الواقع. هذا النهج المرن اعترف بواقع تفتت السلطة - لا إنكارها- ومنح الفاعلين المحليين نصيبًا في مشروع سياسي مشترك، مطمئنًا الجميع بأن طموحاتهم و حقوقهم ومصالحهم هي أساس العدالة والسلام المنشود.
فرص اليمن:
لليمن تاريخ من التوتر بين السلطة المركزية والمناطق الطرفية، حيث يعكس المجلس الانتقالي الجنوبي والمعاقل القبلية والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين سيادة متشظية. الإصرار على إعادة دولة مركزية قوية قد يكون غير واقعي على المدى القصير. يمكن لليمن أن يستكشف ترتيبات لا مركزية مؤقتة تمنح الأقاليم قدرًا من الحكم اللامركزي ضمن إطار يسمح بالاندماج الوطني مستقبلًا في دولة اتحادية أو فيدرالية بحسب ما سيُجمع عليه اليمنيين انفسهم و يرتضونه.
إعطاء الأولوية لبناء المؤسسات تدريجيًا بدلًا من سلطة مركزية فورية:
تمت محاولة إعادة بناء الحكومة المركزية في الصومال تدريجيًا، بدءا من إدارات مركزية انتقالية وسيطرة محدودة على الأراضي. تحقق التقدّم لأن الإدارات المحلية ونظام الحكم الهجين—الذي يجمع بين الهياكل الرسمية والقبلية—وفّرا الأمن والخدمات الأساسية بينما نمت المؤسسات الوطنية ببطء تصاعدي و مستمر.
فرص اليمن:
قد تكون الجهود الرامية إلى إعادة دولة يمنية موحدة وقوية بين عشية وضحاها غير واقعية. يمكن أن يحاكي اليمن النهج التدريجي من خلال تعزيز الإدارة المحلية، وضمان تقديم الخدمات الأساسية، ودمج الفاعلين الأمنيين و العسكريين المتنوعين، بما يقلّص الفراغ المؤسسي الذي يغذّي اقتصاديات الحرب.
توظيف الوساطة الإقليمية والدولية بحكمة:
تأثّر مسار السلام الصومالي بشكل كبير بالدول المجاورة والجهات الدولية، حيث لعبت إثيوبيا وكينيا والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) أدوارًا رئيسية في الوساطة. لكن التدخل الأجنبي المفرط كثيرًا ما أجّج تنافسات جديدة، إذ دعمت قوى خارجية فصائل متعارضة. وجاء التقدّم النسبي عندما قرّر الصوماليون أخذ زمام المبادرة، وقبل الإقليم أن يركّز الوسطاء على تسهيل حلول يقودها الصوماليون أنفسهم بدل فرض مخططات خارجية.
فرص اليمن:
نزاع اليمن شديد التدويل، مع تأثير مباشر لقوى إقليمية على ساحة المعركة وطاولة المفاوضات. تشير التجربة الصومالية إلى أنه رغم حتمية وجود أطراف خارجية، يجب أن يصرّ اليمن على عملية حوار وسلام يملكها اليمنيون، يكون فيها الدعم الدولي مسهّلًا لا بديلًا عن التوافق المحلي. التراتبية الصحيحة للعملية السياسية لضمان اتفاق قابل للتحقق تبدأ بتواصل الأطراف اليمنية—بطريقة مباشرة أو غير مباشرة—في حوارات سياسية واقتصادية واجتماعية مع دعم وتسهيل إقليمي ودولي، وليس العكس. فلا يمكن للطرف الإقليمي أو الدولي أن يكون طرفًا تفاوضيًا نهائيًا.
هل يمكن وضع خارطة طريق لسلام يمني مستلهم من التجربة الصومالية؟
إن مسيرة الصومال من انهيار الدولة الكامل إلى استقرار حذر ونسبي تُظهر أن السلام نادرًا ما يكون حصيلة مؤتمرات تنتج مجرد بنود مكتوبة، ولا يمكن فرضه من القمة النخبوية وحدها.
و رغم خصوصية السياق اليمني و اختلافه —باعتباره أكثر تعقيدًا جيوسياسيًا و انقساماته السياسية الحادة وبعدد سكان أكبر— تذكّر التجربة الصومالية أن بناء السلام عملية طويلة ومتعددة المستويات. ومن خلال تبنّي استراتيجيات شاملة، محلية الجذور، ومتدرجة، يمكن لليمن أن يبدأ مسارًا من التشظّي نحو الاستقرار، محوّلًا صراعه المستعصي إلى فرصة لتجديد عقد اجتماعي وسياسي واقتصادي جديد يضمن تحقيق الاستقرار والأمن والتنمية للجميع.
* عمل الكاتب في الصومال للفترة 2004- 2011