صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن، الدولة الغائبة: عن مستقبل النظام السياسي في اليمن

مداخلة ضمن ندوة ويبنار نظمتها منظمة الأكاديميين والمهنيين اليمنيين، بعنوان مستقبل اليمن وتحولات الشرق الأوسط، 2 أغسطس 2025

يصعب الحديث عن مستقبل النظام السياسي في اليمن في ظل حالة “اللاحرب واللاسلام” التي نعيشها اليوم. ليس فقط لأن المعركة لم تُحسم ميدانيًا، ولا لأن جهود التسوية تسير ببطء، بل لأن الصورة العامة تُختزل بشكل مُضلل في ثنائية “الشرعية مقابل الحوثي”، وهي ثنائية لا تعكس حقيقة التشظي العميق للمشهد اليمني، بل تساهم في طمسه.


هذه الثنائية تَخدمُ السرديات الدولية والإقليمية الراغبة في تبسيط تعقيد الصراع، لكنها تتجاهل عن عمد التصدعات داخل بنية “الشرعية” نفسها، وواقع الأطراف المحلية المستقلة التي باتت تظهر بقوة: من المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى قوات المقاومة الوطنية، إلى حزب الإصلاح، إلى المكونات القبلية والمجتمعية والعسكرية في حضرموت، المهرة، شبوة، مأرب، وتعز.
واقعٌ متحرك، تتداخل فيه الجغرافيا بالهوية، والقوة العسكرية بالمشروع السياسي، دون أن يوجد عقد جامع.


ولفهم هذا التشظي، ومعه سؤال مستقبل النظام السياسي، لا يكفي أن نُحلل الحاضر. لا بد من العودة إلى التاريخ، لا بوصفه سردية مغلقة، بل كمرآة تُظهر أن اليمن لم يكن يومًا كيانًا سياسيًا موحدًا ومستقرًا، بل فسيفساء من المحاولات المتقطعة لبناء الدولة، تصطدم دائمًا بمعادلة مركز قاهر، وهوامش ناقمة.


تاريخيًا، اليمن كحيز جغرافي لم يكن مطابقًا لليمن ككيانات سياسية. فمنذ القدم، تجاوزت “اليمنات” المتعددة في الوعي والواقع كل محاولات التوحيد القسري. وأشدد على كلمة القسري. فالوحدة، سواء في القرن السابع عشر أو في العام 1990، كانت استثناءً لا قاعدة، وانهارت في كل مرة بسبب فشل النخب الحاكمة في صياغة عقد شراكة حقيقية. الدولة لم تُبْنَ بوصفها بيتًا للجميع، بل كمجال نفوذ لفئة تستولي، تُقصي، وتحتكر.


أضف إلى ذلك أن السردية الرسمية عن “جنوب موحّد” لا تصمد أمام التاريخ. الجنوب، قبل وأثناء الاستعمار البريطاني والحماية البريطانية، بأقاليمه الشرقية والجنوبية، كان مسرحًا لكيانات سياسية متعددة، بهويات وحاضنات اجتماعية متميزة، تم دمجها بالقوة بعد الاستقلال، وفتحت المجال لصراعات داخلية، توالت قبل وبعد الوحدة، ثم بعد حرب 1994 الأهلية. واليوم، تعود هذه الهويات إلى الواجهة بقوة، ككيانات سياسية-اجتماعية تحمل مشاريع فعلية، وتسعى لإعادة تعريف الذات والمكان، بحثًا عن موقع فاعل داخل واقع سياسي متصدّع، وعن اعتراف إقليمي بدورٍ لها.
في كل هذا، شمالًا وجنوبًا، لم تكن الدولة إطارًا جامعًا يحتضن الهويات والحاضنات الاجتماعية والثقافية المتعددة، بل كانت أداة هيمنة وقمع، تُكرّس الغلبة بدل التمثيل، وتُدير التنوع بوصفه تهديدًا لا مصدر قوة.


هنا، يصبح سؤال المستقبل السياسي مشروعًا لكنه محفوفاً بتعقيدات ملموسة.
ولعل مقاربة باربرا والتر، أستاذة العلوم السياسية، التي درست كيف تنتهي الحروب الأهلية، تبرز هذا التعقيد.


قدّمت والتر ثلاث خلاصات أساسية، يمكن من خلالها قراءة الحالة اليمنية.


اولاً، ترى والتر أنه كلما تعددت الفصائل، طال أمد الحرب. وما من مثال أكثر وضوحًا من اليمن. لسنا أمام طرفين، بل أمام طيف واسع من القوى المسلحة، التي لا يجمعها سوى الصراع نفسه. تتنازع الهويات، وتتنافس على الموارد، وتُعيد إنتاج التحالفات وفق اللحظة لا المشروع.
ثانيا، معظم الحروب الأهلية لا تنتهي بتسوية، بل بانتصار عسكري. وهذا ما يجب أن نتوقف عنده مطولًا، لأن نتيجته تختلف جذريًا بحسب هوية الطرف المنتصر. فإذا كان الانتصار لصالح حركة أنصار الله (المليشيات الحوثية)، فنحن أمام مشروع أيديولوجي مغلق، يُنتج ما يمكن تسميته بالدولة الرسالية الطائفية”: دولة تُعرّف نفسها من خلال مذهبها ورؤيتها “المُقدسة” للسلطة، تُقصي الآخرين وتُعيد هندسة المجتمع على أسس ولاء مذهبي، لا مواطنة. ستكون دولة مركزية صارمة، لكن من الداخل، هشة، وستُنتج موجات تمرد جديدة، ومعها دوامة العنف التاريخية.


أما إذا تحقق النصر من جانب مكونات “الشرعية” المعترف بها دوليًا، فقد تكون هناك فرصة، لا ضمانة، لبناء مرحلة انتقالية فعلية. بشرط ألا تُختطف هذه اللحظة من قبل القوى العسكرية أو النخب المناطقية، وأن يتم فتح مسار دستوري واضح، يشمل إعادة بناء المؤسسات الأمنية، وينتهي باستفتاء شعبي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم.

 النصر هنا لا يكون بالنار، بل باحتواء القوة داخل مشروع سياسي مؤسسي.
أو قد ندخل في سيناريو ثالث، هو الأخطر: نظام هجين، محاصصة شكلية، يُوزّع فيه النفوذ على مراكز القوى، وتُترك الدولة كقشرة جوفاء. وهذا ما نخشاه: أن يتم الاكتفاء “بتهدئة” الصراع، بتجميده، دون تفكيك أسبابه البنيوية.
من هنا، لا يمكن اختزال سؤال المستقبل في شكل الدولة فقط، اتحادية، مركزية، لا مركزية، أو انفصال، بل في منطق الدولة ذاته. هل هي أداة للهيمنة، أم إطار للتعايش؟ هل نحن مستعدون للخروج من منطق “الغلبة”، إلى منطق “العقد”؟ من دولة الغنيمة، إلى دولة المواطنة؟
لنضع هذا السؤال على جانب، ونتحول إلى البعد الإقليمي.


البُعد الإقليمي: بين تشظي الرؤى ومحدودية المشروع الوطني


فمن الصعب التفكير في شكل الدولة اليمنية القادمة دون التوقف عند تناقضات الرؤية الإقليمية تجاه اليمن. فالدول الأربع الأكثر تأثيرًا، السعودية، الإمارات، عُمان وإيران، كل تُقارب الأزمة من زوايا استراتيجية متباينة، ما يُنتج هندسات مختلفة للسلام ومشاريع متعارضة لمفهوم الدولة.
السعودية، لا تزال المعادلة الأمنية هي المحرّك الرئيسي للسياسة السعودية تجاه اليمن. ومع أن الرياض شكّلت لسنوات اللاعب المركزي في هندسة التوازنات اليمنية، إلا أن تحوّلها الأخير نحو خيار تقليص الانخراط العسكري والانفتاح على ترتيبات سياسية مع سلطات الأمر الواقع في صنعاء، الحركة الحوثية، خصوصًا بعد اتفاقها مع طهران في مارس 2023، هذا التحول يعكس رغبة في تحييد التهديد الأمني القادم من الحدود، أكثر من كونه مسارًا لبناء سلام شامل. ويبدو أنها بدأت تتعامل مع الحكومة اليمنية بمنطق شبيه بطريقة واشنطن مع حكومة كابول: دعم طويل ثم خذلان تدريجي، ما يُفضي إلى تمكين من يَفرض سيطرته ميدانيًا، لا دعم مشروع وطني شامل.
الإمارات، على الضفة الأخرى، تنشط دولة الإمارات ضمن مقاربة تدخلية واضحة، ترتكز على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للسواحل اليمنية من خلال دعم فاعلين محليين موالين لها (كمجلس الانتقالي الجنوبي، وألوية العمالقة). يتجسد هذا التوجه في السيطرة على موانئ وممرات استراتيجية، من عدن إلى المخا وسقطرى، وفق منطق “أمن الممرات”، الذي يُعيد إنتاج الجغرافيا السياسية وفق استراتيجية بحرية تجارية-أمنية كما يُعرف في الأدبيات الجيوسياسية بنظرية الـ Rimland. لكن هذا الانخراط، رغم فعاليته الميدانية، لا ينطلق من رؤية شاملة للدولة اليمنية ككيان جامع، بل يعيد إنتاج لامركزية مضبوطة تخدم المصالح الإماراتية، وتُراكم من التجزئة الداخلية، بما يُعقّد فرص بناء عقد وطني مستقر.


عُمان تُمثّل الاستثناء. فهي تُراكم على إرث حياد دبلوماسي، وسياسة، وساطة، وقائية. ومع ذلك، فإن التمدد السعودي-الإماراتي في المهرة اختبر هذا الحياد، لتلجأ مسقط إلى ما يمكن وصفه بـ “حياد سيادي مرن"، أو الردع الدبلوماسي، المفهوم الذي طرحه صامويل رماني. فالأخير يرى أن المقاربة العُمانية لا تقتصر على الوساطة فحسب، بل تنطوي أيضًا على مقاومة محسوبة تضمن ألا تقوّض صراعات النفوذ الإقليمية سيادتها. هو حياد مع وقف التنفيذ، يجمع بين تعزيز النفوذ المحلي وضبط الحدود وتوجيه رسائل للحوثيين دون انخراط مباشر.


أما إيران فهي ليست مجرّد داعم خارجي، بل فاعل مركزي يتقدم من الأطراف إلى القلب. فمشروعها في اليمن لا يقتصر على تمكين الحركة الحوثية، بل على إدماجها ضمن معادلة “الردع إلى الأمام” التي بَنَتها طهران إقليميًا منذ الغزو الأمريكي للعراق، ورأتها تنهار أمام اعينها بعد السابع من أكتوبر2023. ومع ضعف حزب الله، وانهيار نظام الأسد في سوريا، ارتفعت أسهم حركة أنصار الله (المليشيات الحوثية). تطورت الأخيرة إلى فاعل هجين: محلي الجذور، لكنه مُنخرط ضمن خطاب  ما يسمى ب“الممانعة”. وبعد السابع من أكتوبر، تصاعدت مكانته كمفاوض باسم محور إقليمي، لا كمكوّن داخلي، مما يُعقّد من أي تسوية وطنية.


في المحصلة: الداخل هو البوصلة، لكن الإقليم هو المسرح


إذن، لا يمكن فهم مآلات اليمن من منظور داخلي صرف، ولا من منطلق إقليمي أحادي. بل يتشكل المشهد عند منطقة تماس معقّدة، حيث يُعاد إنتاج التوازنات من خلال تقاطع الداخل مع شبكات التأثير الخارجي. مع إدراك ان الداخل هو الذي يوجّه سلوك الخارج، لا العكس. فمع غياب مشروع وطني جامع، تصبح اليمن أداة في خدمة الحسابات الإقليمية، لا كيانًا ذا سيادة.


أعود إلى الخلاصة الثالثة من مقاربة باربرا والتر


تذّكر والتر من أن الحروب الأهلية التي تنتهي بتسوية مستدامة، غالبًا ما تكون تلك التي يُعاد فيها تشكيل العقد الاجتماعي بشكل جذري، وليس عبر “تهدئة مؤقتة”. أي أن التسوية التي لا تُعالج جذور الصراع (سواء تلك المرتبطة بالهوية، أو تقاسم السلطة، أو المركزية القهرية) لا تصمد، بل تؤول إلى تجدد النزاع. وهذا ما يجعل مستقبل “التسوية السياسية” في اليمن مفتوحًا على كافة الاحتمالات: من فيدرالية اتحادية، إلى لامركزية مشروطة، أو حتى الانفصال الكامل، ولا أعني هنا الانفصال إلى دولتين فقط. فلا أحد يملك خريطة جاهزة، ولا مسارًا مضمونًا، بل هو فضاء تنازعي، تُشكّله موازين القوى، لا حُسن النوايا.

*كاتبة وأستاذة السياسة في جامعة … سويسرا

الكلمات الدلالية