أن تكون "يمنيًا فقط"... سؤال المواطنة المؤجَّل
متى نجرؤ جميعًا على أن نكون يمنيين فقط؟
بهذا السؤال الذي يهزّ الضمير، اختتم الصحفي فتحي أبو النصر مقالته في ذكرى ميلاد الزعيم اليمني الراحل عبدالفتاح إسماعيل. سؤالٌ لا يطرق باب التاريخ بقدر ما يقتحم الواقع: لماذا ظلّ حلم المواطنة المتساوية، الذي ناضل من أجله جيل كامل، مشروعًا مؤجلًا في ذاكرة اليمن السياسية؟
كان عبدالفتاح إسماعيل وجيله يحملون رؤية جريئة لإعادة تعريف الهوية اليمنية على أسس المساواة، لا النسب أو الجغرافيا أو المذهب.
لم يكن ذلك تنظيرًا أكاديميًا، بل كان تصورًا عمليًا لدولة تُبنى على قاعدة بسيطة وعميقة:
"وليس هناك من طبقي إلا الذي يقول: أنا يمني متساوٍ مع كل من يعيش على أرض اليمن".
أن تكون "يمنيًا فقط" لا يعني نفي الهويات الجزئية، بل التحرر من الارتهان لها. ألا نلجأ إلى القبيلة حين تُسقطنا السلطة، ولا نختبئ خلف المذهب حين تغيب العدالة، ولا نتماهى مع الجغرافيا حين ينهار المشترك الوطني.
ذلك الجيل لم يُحارب الاستعمار البريطاني فحسب؛ بل صوّب سهامه أيضًا نحو أخطر الأعداء: الامتيازات المتوارثة باسم “النقاء السلالي”، والأحقاد المزروعة باسم "الأصل والمذهب". كانوا يدركون أن الطغيان لا يأتي دائمًا بالدبابات، بل أحيانًا عبر البُنى الاجتماعية التي تنهش فكرة الدولة من الداخل.
لكنّ الوحش الذي حاربه أولئك الرواد لم يمت، بل عاد في ثوب جديد:
الطائفية اليوم لا تُرفع باسم "الإمامة"، بل تُباع كـ"حق إلهي" معاصر.
المناطقية لم تعد صراع قرى، بل تحوّلت إلى مشاريع انفصالية أو هيمنة مسلحة.
والطبقية لم تعد اقتصادية فحسب، بل باتت ثقافة سياسية تُصنّف اليمنيين إلى: "نخبويين"، "نازحين"، "شرعيين"، "انفصاليين"، و"توابع".
في هذا المشهد المتشظي، يبدو سؤال أبو النصر أشبه بصرخة من مستقبل مفقود.
لماذا نرتد إلى الهويات الضيقة كلما فشلنا في بناء الدولة؟
ولماذا نلوذ براياتنا الصغيرة كلما شعرنا أن كرامتنا الوطنية قد خُذلت؟
نعم، عبدالفتاح إسماعيل لم يكن نبيًّا، وأخطاؤه جزء من سجل معقّد. لكنه، ككثير من رموز تلك الحقبة، حاول أن يضع حجر الأساس لحلم اليمني الذي لا يُعلي من نفسه إلا بما يقدّمه، لا بمن أين أتى.
اليوم، ونحن نواجه امتحان البقاء ذاته، لا نحتاج إلى "مخلّص" جديد، بل إلى تلك الشجاعة القديمة.
أن نقول، كأفراد وجماعات:
"لا فضل لي على أحد في هذا الوطن إلا بما أُقدّمه له".
هل نجرؤ حقًا على استئناف المشروع المؤجل؟
هل نملك الشجاعة لنزرع فكرة "اليمني فقط" في مناهجنا، في أحيائنا، في خطابنا اليومي؟
ربما لا نملك ترف التأجيل أكثر. فإما أن نكون يمنيين فقط... أو لا نكون على الإطلاق.