صنعاء 19C امطار خفيفة

عن الأديان الوراثية ومأزق الإلف والعادة(١-٢)

منذ أن وُجد الإنسان، وُجد معه الميل إلى الدين والبحث عن إجابة لأسئلة الوجود الكبرى: من أنا؟ من خلقني؟ ولماذا؟ وكانت الأديان، منذ البدء، محاولة للإجابة على هذه الأسئلة، فانبثقت الرسالات، ونزلت الكتب، وتتابع الأنبياء ليهدوا الناس إلى طريق الحق، ويحرروهم من أسر الجهل والعبودية والتقليد الأعمى.

لكن ما الذي جرى؟

لماذا صار الدين، في معظم الحالات، ميراثًا لا إيمانًا؟

ولماذا يُولد الإنسان فيجد نفسه ملتحقًا بدين أو طائفة، لا لأنه اختارها عن قناعة، بل لأنه وجد أهله ومجتمعه عليها، فسار في الطريق نفسه، ظانًّا أن ما ورثه هو الحق المطلق، وأن ما سواه باطل بالضرورة؟

هذه إحدى الآفات الكبرى للإنسان، أن يتلقى دينه تلقّيًا وراثيًا دون بحث، ويظن أن ما عليه قومه هو الصواب المطلق، دون أن يتساءل: أهو إيمان أم إلف وعادة؟

وقد حسم القرآن الكريم هذه المسألة حين قال:

"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءًا يُجز به"، أي أن الحق لا يُعرف بالوراثة ولا بالأسماء، بل بالعمل والنية والسعي.

إن التدين الوراثي لا يميز دينًا عن آخر، فكل الأديان -وإن كان منشؤها وحيًا سماويًا- قد طالها التحريف بفعل الإلف والتقليد، حتى صار كثير منها وضعيًا في جوهره. فالناس، مهما اختلفت معتقداتهم، حين يعبدون ما اعتادوا دون وعي، يتساوون في الجهل لا في الإيمان. ولهذا يقول الإمام أبو حامد الغزالي:

"كل قول أقوله على ثلاثة أوجه: قول للدفاع عن عقائد العوام، وقول على قدر السائل والمسترشد، والحقيقة أحتفظ بها لنفسي، ولا أُفصح بها إلا لمن يشاركني الاعتقاد".

وهذا ما يدعو إليه الشك المنهجي: أن تتهم معتقدك لا كفرًا بل طلبًا لليقين. وهو ما أشار إليه الفيلسوف نيتشه بقوله:

"لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصًا في قصده، بل عليه أن يترصّد إخلاصه، ويقف موقف المشكك فيه...".

هؤلاء المفكرون الكبار -من ديكارت إلى الغزالي، ومن ابن الهيثم إلى ابن رشد- لم يكونوا دعاة هدم، بل دعاة نظر وتأمل وشك بنّاء يهدف إلى التمحيص، لا إلى الهدم. فإن الحق لا يُعرف بالتقليد، بل بالسعي العقلي المستمر.

فالدين -كما هو في جوهره- دعوة للتفكر، لا أداة لوراثة غير واعية. ولو أن كل إنسان نظر إلى ما ورثه بعين التمحيص، لسهل عليه أن يميز بين ما هو وحي وما هو تقليد، بين ما هو من السماء وما هو من العادة الاجتماعية.

وهنا يبرز سؤال ضروري: هل نلغي الدين إذن؟ هل نتخلى عنه لأنه صار عادة موروثة؟

أبدًا، بل نحن بحاجة إلى إحياء الدين لا دفنه، إلى بعثه من جديد بروح الرسالة لا الوراثة، عبر منهج عقلي إيماني يجعل من الدين دعوة حرة واعية، لا طقوسًا جوفاء.

الكلمات الدلالية