لماذا نكره النجاح ونخاف مِنْ النَّاجِحِين؟ (1-2)
في أيام الطفولة كُنتُ كثيرًا ما أتنقل بين القرية والمدينة. كانت الحديدة مدينتنا التي ولدنا فيها وسكناها لا تبعد سوى قرابة عشرين كيلو متر عن قريتنا.
كانَ -ولا زال-الريف يدهشني ويخلب لبي. أذكر مرة أني نزلت أنا وابن عمتي من صنعاء إلى المراوعة ووصلناها مع الفَجْر، غِبَّ المطرَ. كانت أسداف رقيقة من الظلام لاتزال تحيط بالقرية، وَظَلَّ ذلك النسيم البارد، وعبق طين الوادي الممزوج بماء المطر وروائح الأشجار لا ببرحان مخيلتي إلى الآن.
الريف غني وثري وأصيل في كل شيء. وأنا الآن حين أقارن الريف بالمدينة ترجح عندي كفة الريف، وإن كانت المدينة تحتضن البحر بكل ما يعنيه هذا المخلوق الجبار من رهبة ومعان ودلالات عميقة لها وقع غير عادي على النفس.
ومع أنَّ منزلنا بالحديدة كان لا يبعد عن البحر سِوى مِئةَ مِتر تَقريبًا، وباب منزلنا إذا ما فتحناه؛ فإنَّا نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع البحر بزرقته وصفائه وعظمته التي تفوق الوصف.
لكن جدتي -رحمها الله-، وكنت أدعوها أمي، كانت كثيرة المحبة لي، شديدة الشفقة والخوف علي، وكانت تأخذ علي المواثيق والعهود ألا أقترب من البحر. وكنت حين أتأخر على البيت في شراء بعض الحاجيات، تذهب جدتي للبحث عني بالساحل؛ فنشأت وفي قلبي رهبة من البحر، ولم أستطع تعلم السباحة بسبب ذلك فيما يخيل إليّ.
قلت: إنَّ الرِّيف غَنِي وخصب ومدهش: الوادي وأشجاره، والحيوانات والدواب كالأبقار، والجمال، والحمير، والدجاج، والحمام، والحجل. والمساكن وطريقة بنائها: العشش، والسقايف، والعريش. والمأكولات: الحليب، وامثريب، وامريب، والعيش الحامض والحالي، وفتة السمن والعسل، والحنيذ، والسمبوسه، والفَرَّان، والمطبق.
وكُنَّا نلعب في قريتنا لُعَبًا شَتَّى. وحين بدأت أستذكر اللعب التي كنت أحبها وألعبها في الريف والمدينة لم أذكر للمدينة سوى لعبة «سُخَلَيْلَكْ»، وهي شبيهة بلعبة الاستغماية، أمَّا الرِّيف فذكرت مِنهَا «الدأره»، «المُخْصِي»، «دينجو»، «امْحَصَم»، «بَوِّشْ: انكُبْ».
لأذكر منها لعبتين؛ كانت إحداها محببة إلي، وكنت - فيما أزعم - أجيد لعبها:
الأولى: «المُخْصِي». وصورتها أن ينقسم اللاعبون إلى فريقين مُتكَافِئين عَددًا: الفريق (أ)، والفريق (ب).
تبدأ اللعبة بعمل قرعة بالعملة المعدنية: (طُرَّا/ طَيْر: كَتِّبْ/ فِلْسْ)، فإذا حَالفَ الحظ الفريق (أ)، مثلاً، وطلعت القرعة لصالحه، يكون هو الفريق المهاجم، وَيَتمّ اختيار شخص مِنْ بَينهم يطلق عليه اسم «المُخْصِي»، يَكونُ وَاقفًا خَلفَ فَريقِهِ؛ وعليهِ أن «يأوي» إلى نقطة معينة في الجهة الأخرى التي يتواجد فيها الفريق الآخر (ب)؛ ويطلق على هذا المكان الذي يلزمه الذهاب إليه «المَأوى».
أمَّا هَيئة اللعب فَتعتمد عَلى أنْ يَقومَ كُلّ فَرد مِن الفريقين بثني رجله اليمنى إلى الخلف، وإدخال أصابع يده اليسرى في فروج رِجلهِ اليُمنَى.
يبدأ الفريقان بالاشتباك والتدافع بالأيدي، ويحاول الفريق المهاجم (أ) التَّقدُم نَحوَ الفريق المدافع (ب)، وتمهيد الطريق للمُخْصِي الذي يَكونُ مُنتظرًا في المُؤَخِّرَة حَتَّى يحين الوقت المناسب وَيكونَ الطريق سَالكًا؛ ليبدأَ باِلجَري والقفز عَلى رِجْلٍ وَاحدةٍ َبِالصفة التي شُرِحَتْ؛ حتى يصل إلى الجهة الثانية ليأوي إليها.
فَإذَا مَا وَصَلَ إلى «المَأوَى»، وَلَمْ يَتَمَكَّن أحَدٌ مِنْ إسقَاطِه مِنْ الفريق المقابل تُحسب نُقطة لفريقه (أ).
وَسَواءٌ تَمَّ إسْقَاطُ المُهَاجِم أو لَمْ يَتمّ، يقوم فَرِيقُهُ بتبديل المُخصِي بِمُخصِي آخر، حتى يَنعمَ كُلُّ فَردٍ مِنْ أفراد الفريق بهذا اللقب الشَّرِيف!
وَبَعدَها يبدأ الفريق الثاني (ب) بتكرار نفس اللعبة على نفس النسق والمِنْوَال، ثُمَّ تحسب النقاط لِكِلا الفريقين، وَيَتمُ تحديدُ الفَائِزَ مِنهُما.
لِنَقِفْ الآنَ قَليلاً بَعْدَ هَذا الشَّرح المُوجَز عِندَ تَسمِيَة هَذِهِ الُّلعبَة الشَّعبيِّة بـ «المُخْصِي».
فالمُخَصِي اسم فَاعِل مُشتَّق مِنْ الفِعْل أخْصَى. واسم الفعل ومصدره «الإخصاء». وهو تعطيل القُدرَة الجِنسِّية لدى الكَائِن الحَيِّ؛ سَواءٌ كَانَ حَيَوانًا أو إنسَانًا. فَكأنَّ أحدَ الفريقين عند انتصاره أو إحرَازهِ نِقَاطًا على خَصْمِهِ؛ فإنَّه بهذا يكون قد قَامَ بإخصاءِ خِصمِهِ، وَقَضَى على مُستَقبَلِهِ المِهْنِي قَضَاءً مُبرَمًا!
وهذا يَصِلنا ويربطنا بمصطلح «عُقْدَة الخُصَاء أو الإخْصَاء» عِند فرويد. وَهَذهِ العُقْدَة تَحتلّ مكانةً مركزية في نظرية التحليل النفسي لديه، بِغَضِّ النظر عَمَّا أثارته -ولا تزال تثيره- من جدل ونقاش وسوء فهم ومعارضة؛ حتى أنَّ الدكتور الفيلسوف الوجودي عبد الرحمن بدوي تهكم بعلم النفس ومصطلحاته في مذكراته.
وعقدة الخصاء عند فرويد عبارة عن شعور غير واعي بالتهديد يختبره الطفل في مرحلة مبكرة من نشأته حين يرى الفرق التشريحي للعضو الجنسي بينه وبين نظيراته مِنْ الجنس الآخر.
تبدأ هذه العقدة عند الطفل باكتشافه أنه ليس كل البشر يمتلكون نفس الأعضاء التناسلية؛ الأمر الذي يُولِّد لديه سلسلة من الفرضيات والتخيلات والأوهام الطفولية.
تتمحور هذه الفكرة المركزية عند فرويد حَول الآتي:
يعتقد الطفل أنَّ كُلَّ شخص لَديهِ قَضِيب، لكنه مع استكشاف محيطه يرى أنَّ الجنس الآخر ليس لديه قضيب؛ فَيُفَسِّر ذَلكَ بـ: إمَّا أنها فَقدتْهُ أو أنه تَمَّ إخصاؤها، وليس على أساس أنه مجرد اختلاف بيولوجي بينهما. وهذا الأمر يُولِّد لَديهِ قَلقًا مُضَاعَفًا بأنه هُوَ أيضًا مهددٌ بفقد قَضِيبهِ (قلق الخُصَاء).
أمَّا بالنسبة للطفلة فإنها تشعر بالحرمان من القضيب؛ الأمر الذي يولد لديها الرغبة في امتلاكه.
عُقْدَة الخصاء الوهمية -بحسب فرويد- تلازم كُلَّ الأطفال، وَمِنْ كِلا الجِنسَين: فالذكر يشعر بالخوف من فقد القضيب الذي يمتلكه، والأنثى تشعر بأنها حرمت من هذا القضيب، وتشعر بالرغبة بامتلاكه.
ويقترح علماء النفس لِحلِّ هذه العقدة التخلي عن هذا الاعتقاد المتوهم بالعمل على ترميزه بالرغبة في تحقيق أهداف عملية والسعي إلى إنجازها مِنْ كِلا الجِنسَين.
إنَّ الفشلَ في معالجة عقدة الإخصاء يُفضِي بكلا الجنسين إلى مضاعفة مخاوفهما مِنْ أشياء متعددة؛ ومنها الخوف من الآخرين كتهديد يمثلونه لهم.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار هذه العقدة وآثارها التي تلازم الأطفال مِنْ كِلا الجنسين في مراحل عمرهم المبكرة، وقد تتحول إلى مرض يخضع صاحبه لجلسات التحليل النفسي، وربما أيضًا تناول العقاقير الطبية في مراحلها المتقدمة، إذا لم يَتمّ احتواؤها والتعامل معها بشكل جيد- فكيف يكون الحال بمجتمعاتنا التي تقوم بتكريس هذه العقدة عن طريق الثقافة والتربية والممارسة، ابتداءً من الطفولة، فالأسرة، فالمدرسة، فالوظيفة؛ فالحياة التربوية والاجتماعية والسياسية كلها تدور حول لعبة الإخصاء؟!
كُلَّمَا أنبتَ الزمانُ قَناةً
رَكَّبَ المرءُ في القَناةِ سِنَانَا
ولا يزال يذكر الكثير مِنَّا الأزمة السياسية التي ابتدأت مع العام 1994 بين شريكي الوحدة: علي عبد الله صالح، وعلي سالم البيض. وكيف استدرج الرئيس السابق علي صالح البيض للوحدة، وظل يفتل له في الذروة والغارب بعد توحد الشطرين؛ باغتيال رموز الحزب الاشتراكي في العاصمة صنعاء، وقصف بيوت بعض قياداتهم، والقضاء على معسكراتهم؛ ليتخلص منه ويقوم بإخصائه وإقصائه من المشهد السياسي، ويستولي على الجنوب وموارده وثرواته هو وعصابته. وفي ظلِّ هذه الأزمة قال البردوني:
يا بنتَ أمِّ الضمد قولي لنا:
أيُّ عَليٍّ سوف يخصي علي؟!
وقد حدثني أحد الأصدقاء قبل سنوات عن رؤيا رآها؛ حيث رأى نفسه مع أحد ملوك السعودية. لم أعد أذكره، ولعله الملك فهد أو عبد الله- وهو يتحدث معه، ثُمَّ إنَّ هذا الملك مد يده إلى خصية صاحبنا.
قال: فأمسكت بيده، ولم أمكنه من إتمام ما انتوى فعله. ولا شك أنَّ الملك السعودي في الرؤيا نوى أن يخصي صاحب الرؤيا. وهذا يدل أنَّ الإقليم مَارسَ سياسة الإخصاء علينا.
وإذا مَا أخذنا نظرية عالم النفس الفرنسي لاكان الذي سَارَ بنظرية فرويد إلى مستوى أكثر تَجريدًا وَتَرميزًا؛ فهو يرى أننا -ككائنات بيولوجية- ليست دوافعنا وحدها مَنْ تُحركنا، بل إنَّ النظام اللغوي الذي وجدنا أنفسنا فيه وعبارات اللغة تعمل عملها أيضًا في توجيهنا.
أمَّا «المَأوى»؛ وهو الهدف الذي يتعين على المخصي بلوغه والوصول إليه، وإنْ كان ذا مدلول لُغَوي مُعَيَّن، لكن المدلول الديني المتصل بهذا اللفظ؛ وهو «جَنَّة المَأوى» التي يأوي إليها المؤمنون في آخر الأمر بعد رحلة كفاحهم وجهادهم الطويل؛ يقضي في الجهة المقابلة بحتمية نار الجحيم للطرف الآخر. فإنَّ من يريد الوصول إلى جنة المأوى (الرفاهية، والتنعم، والتقلب في الملاذ من مطعوم ومشروب ومنصب كبير ونساء)، عَليهِ أن يُصلِي الآخر نَارًا حاطمة لا تُبقي ولا تُذر.
و في الحضارة الإسلامية مَثَّلتْ ظاهرة الرقيق والمماليك والجواري والخصيان أحد المعالم المميزة لهذه الحضارة، ودعت كثيرًا من الكتاب والأدباء على تناولها والحديث عنها.
وقد كان في عصور الخلافة العباسية والأموية في الأندلس يتم إخصاء العبيد حتى يؤمن جانبهم، ليسهل دخولهم على الحريم ونساء القصر للقيام بأعمال الخدمة المناطة بهم.
ويرجع الجاحظ في كتابه الحيوان» هذه العادة إلى الروم، فيقول: " كُلّ خُصَاء في الدنيا فإنَّمَا أصلُهُ من قِبَل الرُّوم. وَمِنْ العَجَب أنَّهُم نَصَارى، وَهُم يَدَّعون مِنْ الرأفة والرحمة، ورقَّة القلب والكَبِد، ما لا يدَّعيهِ أحد مِنْ جَميع الأصناف. وحسبك بالِخصاء مُثْلةً، وحسبك بصنيع الخاصي قَسوة".
وأهاجي المتنبي لكافور الإخشيدي وتعييره له بالخصاء شهيرة، وهو يستكثر من كافور العبد المخصي ولاية مصر والشام؛ وهو الشاعر الفحل لم يحكم حتى ضيعة صغيرة؛ وذلك في قوله:
مَنْ عَلَّمَ الأسودَ المَخْصِّيِ مَكرمةً
أقومهُ البيضُ أم آباؤه الصِّيدُ
وقوله يعرض به وبسيف الدولة الحمداني:
وذاك أنَّ الفحولَ البيض عَاجزةٌ
عَن الجَميل فَكيفَ الخِصْيَةُ السُّودُ؟
فهو يعني بالفحول البيض سيف الدولة.
ولمَّا كانت الشاعرة الخنساء ذات موهبة كبيرة في قرض الشعر أثارت كثيرًا من الأسئلة حول موهبتها هذه، مع كونها أنثى ولا تتمتع بالفحولة التي يمتاز بها الرجل، ولمَّا سئل عنها بشار بن برد، قال: إن لديها خصيتين!
فارجع موهبتها إلى كونها تمتلك العضو الذي يمتلكه الذكر، هذا العضو الخارق الذي من امتلكه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها!
وفي أحد الأمثال اليمنية يضرب للأمر الذي يمتنع ويصعب على الرجل القيام به، ومن باب أولى على المرأة: ما قدرش عليه الرجل بـ «حقه» (الكناية إشارة إلى عضوه الجنسي)، فكيف تقدر عليه المرأة بـ«حقها».
(وللحديث بقية).