ازدواجية المعايير لدى الأحزاب والمكونات السياسية في اليمن: أزمة أخلاقية وبنيوية
في المشهد اليمني المعقد أصلًا، تبرز ظاهرة ازدواجية المعايير كواحد من أخطر المظاهر التي تعكس عمق الأزمة السياسية والأخلاقية التي تمر بها البلاد في منظومة "الشرعية". هذه الظاهرة لا تتجلى فقط في الخطاب السياسي المتناقض، بل تتجسد في سلوك معظم الأحزاب والمكونات السياسية التي تشارك فعليًا في السلطة، ممثلةً في المجلس الرئاسي والحكومة والهيئات الرسمية، بينما تواصل في الوقت ذاته ممارسة دور "المعارضة" من الخارج، موجهةً الاتهامات نفسها التي يُفترض أن توجه إليها.
المأزق السياسي في اليمن لا يكمن فقط في ضعف الدولة أو تدخلات الخارج، بل في تناقض الخطاب والسلوك لدى القوى التي تدّعي تمثيل المشروع الوطني. ازدواجية المعايير هذه تفرغ العمل السياسي من مضمونه، وتحول الأحزاب من أدوات للتغيير إلى أدوات لإعادة إنتاج الفشل.
وحين تعجز النخب عن تصحيح مسارها من الداخل، فإنها تفتح الباب أمام سيناريوهات الانهيار أو التغيير القسري المفروض خارجيًا، وهو ما لا يصب في مصلحة أحد واليمن المتضرر الأكبر.
عرقلة المهام الرقابية للبرلمان: ازدواجية أخرى في الممارسة: في تطور لافت يبدو ان مظاهر الازدواجية لا تتوقف عند الخطاب الإعلامي أو غياب المحاسبة الذاتية، بل تمتد لتطال محاولات مؤسسات الدولة التشريعية القيام بواجباتها، وعلى رأسها البرلمان اليمني. فقد واجهت لجانه الميدانية، التي شُكّلت لرصد الفساد ومراقبة الأداء الحكومي، عراقيل مباشرة وغير مباشرة من قبل الأطراف السياسية نفسها التي تشتكي من سوء الإدارة.
ففي حين ترفع هذه الأحزاب والمكونات شعارات الإصلاح والشفافية، نجدها -سواء عبر ممثليها في السلطة أو عبر شبكات النفوذ المتحالفة معها- تمارس ضغوطًا لتعطيل عمل اللجان، تارةً برفض التعاون أو تقديم المعلومات، وتارةً أخرى بتقويض مصداقية تلك الجهود في الإعلام او ممارسة البلطجة. وهذا السلوك يعكس عدم استعداد حقيقي للمساءلة، ويجعل من البرلمان مجرد واجهة شكلية، في وقت يفترض أن يكون فيه حجر الزاوية في الرقابة الدستورية. إن هذه الممانعة لا تفضح فقط هشاشة الخطاب السياسي، بل تؤكد أن ازدواجية المعايير لم تعد مجرد سلوك عابر، بل تحوّلت إلى بنية متجذرة في الممارسة السياسية.
علينا إدراك أن اللحظة الراهنة لا تحتمل المزيد من الخداع الذاتي؛ وعلى القوى السياسية أن تختار بين البقاء في مستنقع الازدواجية أو السير في طريق المراجعة والشفافية والإصلاح السياسي الداخلي الحقيقي.
مفارقة الشكوى من الذات
تكاد لا تخلو بيانات الأحزاب والمكونات السياسية في اليمن من انتقادات لاذعة لسوء إدارة الدولة، وتنديد بفساد الحكومة، وتذمر من تغول النفوذ الشخصي داخل مؤسسات الدولة. هذا السلوك يوحي للمتابع بأن هذه الأطراف معزولة تمامًا عن مراكز القرار، بينما الحقيقة أن معظمها ممثل بوضوح في مفاصل السلطة التنفيذية والسياسية:
• الأحزاب الرئيسية (كالمؤتمر الشعبي، الإصلاح، الاشتراكي، الناصري وغيرها) تمتلك تمثيلًا مباشرًا أو غير مباشر في المجلس الرئاسي والحكومة.
• المكونات المحلية (الانتقالي الجنوبي، جامع حضرموت، المكتب السياسي، السلفيين، وغيرها) هي جزء من المنظومة نفسها، وتمارس سلطات موازية في مناطق نفوذها.
فإذا كانت هذه الأطراف جميعًا تشتكي من الأداء الحكومي، فمن المسؤول إذن؟ ومن المخوّل بالإصلاح؟
في عجالة هذه بعض النقاط التي قد يكون الارتكاز عليها والتوسع فيها مدخل أساسي لتحقيق المعالجات المطلوبة في الأداء السياسي.
أسباب غياب النقد الذاتي والمحاسبة الداخلية
1. ضعف البناء المؤسسي للأحزاب
كثير من الأحزاب اليمنية تعاني من هشاشة تنظيمية وبنية مركزية مفرغة من أدوات المراجعة والمحاسبة. فهي تعتمد على الشخصنة والولاءات المناطقية أو الشخصية، أكثر من اعتمادها على قواعد واضحة للمساءلة. لذا يغيب التقييم الداخلي للأداء، ويُترك المجال مفتوحًا للتهرّب من المسؤولية.
2. ثقافة اللوم الخارجي
بدلًا من الاعتراف بالأخطاء ومراجعة الذات، تفضل الأحزاب والمكونات السياسية تحميل "الآخر" مسؤولية الفشل، سواء كان هذا الآخر هو التحالف الإقليمي أو قوى داخلية منافسة، دون مساءلة كوادرها ووزرائها ووكلائها الذين يتولون مناصب رسمية.
3. الازدواج في الولاءات
كثير من ممثلي الأحزاب في الحكومة والمجلس الرئاسي لا يتلقون توجيهاتهم من مؤسساتهم السياسية، بل من شبكات نفوذ محلية أو إقليمية. هذا يخلق تناقضًا بين ما تعلنه قيادات الأحزاب وبين ما تمارسه قياداتها التنفيذية، مما يعمّق الانفصال بين القاعدة والواجهة.
4. الخشية من التفكك الداخلي
أية محاولة جدية للمحاسبة أو النقد الذاتي قد تؤدي إلى انقسامات داخلية تهدد بقاء الكيان السياسي نفسه، لذا يتم تجنبها حفاظًا على وحدة الحزب، ولو كان الثمن هو التواطؤ مع الفساد أو الفشل التام للدولة في مواجهة التحديات السياسية والأمنية واستعادة الدولة.
الكلفة السياسية والأخلاقية لهذه الازدواجية
1. تآكل المصداقية الجماعية
مع استمرار هذه الحالة، يفقد الشارع اليمني ثقته بالأحزاب والمكونات السياسية، التي لا تقدم نموذجًا مسؤولًا في الحكم أو في المعارضة، مما يفتح الباب لمزيد من العزوف السياسي أو تصاعد تيارات خارجة عن الإطار الحزبي التقليدي.
2. ترسيخ الفوضى المؤسسية
غياب المحاسبة الداخلية وعدم الفصل بين الممارسة الحكومية والموقف السياسي، يؤدي إلى تعميق الفوضى في منظومة الحكم، ويجعل من الصعب بناء دولة مؤسسات تحكمها الكفاءة والنزاهة.
3. تعطيل فرص التسوية الوطنية
لا يمكن الوصول إلى تسوية سياسية حقيقية في ظل بيئة تفتقر إلى الحد الأدنى من الوضوح والشفافية داخل الكيانات السياسية نفسها. إذ كيف يُطلب من المواطن أو الشريك الإقليمي أو الداعم الدولي أن يثق في أطراف تعجز عن ترتيب بيتها الداخلي؟
الطريق نحو إصلاح الذات السياسية
إذا أرادت الأحزاب والمكونات السياسية أن تلعب دورًا حقيقيًا في إنقاذ البلاد، فإن عليها أن تبدأ بإصلاح نفسها عبر خطوات واضحة:
• تبني آليات داخلية للرقابة والمحاسبة لممثليها في السلطة وإقالة أو استبدال ممثليها ممن يتعاملون مع مواقعهم كمنصب للفيد.
• فصل المواقف السياسية عن المصالح الشخصية أو المناطقية.
• إعادة هيكلة القيادات بناءً على الكفاءة والجدارة، وليس الولاء.
• تشجيع النقد الذاتي العلني والشفاف، وعدم التعامل معه كتهديد.
• إشراك القواعد الشعبية بفعالية في صنع القرار والمساءلة.
في المحصلة، فإن استمرار ظاهرة ازدواجية المعايير لدى الأحزاب والمكونات السياسية في اليمن لا يمثل مجرد خللًا في الأداء السياسي، بل أصبح أحد أبرز تجليات الأزمة البنيوية والأخلاقية التي تعوق أي مشروع جاد للإصلاح أو الخروج من دوامة الفشل. فالمفارقة بين الخطاب والممارسة، وبين الدعوات للإصلاح وعرقلة أدواته، تعكس عجزًا داخليًا يتطلب مواجهة صريحة لا مزيدًا من الإنكار. وإذا لم تبادر هذه القوى إلى مراجعة جذرية لذاتها، ومصارحة جمهورها، وتصحيح مساراتها من الداخل، فإنها ستظل سببًا رئيسًا في تكريس الانقسام، وتعطيل مؤسسات الدولة، وإضاعة فرص الاستقرار. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل، ولا يمكن أن يُفرض من الخارج أو يُختزل في الشعارات. واليمن -بكل ما يحمله من معاناة وآمال- لم يعد يحتمل المزيد من العبث السياسي.