صنعاء 19C امطار خفيفة

من شائعة الاغتيال إلى بكاء الدبلوماسيات فرحاً بالوحدة…

عزيزة عبدالله توثق انقسامات الجمهوريين ومسارات المصالحة (الحلقة4)

عزيزة عبدالله توثق انقسامات الجمهوريين ومسارات المصالحة (الحلقة4)

في الحلقة الرابعة من مذكراتها، تعود بنا الأديبة عزيزة عبدالله إلى واحدة من أكثر المراحل اضطرابًا في تاريخ اليمن الجمهوري.

من الثلوج الروسية إلى رياح الانقسام في صنعاء، تروي عزيزة وقائع احتجاز زوجها، رئيس الوزراء الأسبق محسن العيني، ورفاقه، أثناء الانشقاق الحاد بين قادة الثورة في صنعاء، وتحكي كيف تلقّت نبأ استشهاده عبر إذاعة لندن، قبل أن يتبدد ذلك الخبر ببرقية مفاجئة من تعز.

في هذه الحلقة، نرافقها في محطات التفاوض بين الجمهوريين والملكيين، ومشاهد عودة "الخصوم" إلى مجالس "القات" وأحاديث التصالح، وكأن حربًا لم تقع، ثم نتابع معها كواليس اتفاق القاهرة مع الرئيس علي ناصر محمد، وحديث علي عبدالله صالح مع العيني، وصولًا إلى إعلان الوحدة اليمنية، وبكاء الدبلوماسيات فرحاً في حديقة السفارة اليمنية في واشطن.

كما نسلّط الضوء على واحدة من أجرأ الدعوات في تاريخ اليمن الاجتماعي، حين طالب محسن العيني باجتثاث شجرة القات، وما أثارته تلك الدعوة من جدل في أوساط المشايخ والمجتمع، وحتى داخل منزله.

حلقةٌ نابضة بالتاريخ والحنين، ترويها لنا شاهدته من قلب الحدث. فإلى التفاصيل:

"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.

رحمة: مرحباً مشاهدينا إلى الحلقة الرابعة من مذكرات عزيزة عبدالله.
أستاذة عزيزة، كنا قد أنهينا الحلقة الثالثة عند انضمامك إلى الدفاع المدني أثناء حرب حزيران1967م، لكن متى عدتِ إلى اليمن؟
عزيزة: عدت بعد سنتين، فقد تم تعيين محسن سفيرًا في موسكو، فسافرنا أنا وأولادي إليه. كانت الثلوج كثيفة جدًا، لدرجة أن الطائرة لم تتمكن من الهبوط في موسكو، فاضطُررنا للهبوط في كييف، وبقينا هناك ليوم أو يومين حتى تحسّن الطقس. كان هيثم يبلغ من العمر عامين، وهدى ثلاث سنوات ونصف. كانوا صغارًا، وكنت أسمع هيثم يردد أغنية فهد بلان: "واشرح لها عن حالتي".
وصلنا بعدها إلى برد موسكو القارس، وكنت وقتها، بعد حرب 67، أعتبر أي أمريكي عدوًا، لم تكن إسرائيل وحدها العدو، بل الإدارة الأمريكية أيضًا.
رحمة: تقصدين الإدارة الأمريكية؟
عزيزة: نعم، بالضبط. المهم أنه بعد تلك الفترة، جرى استدعاء محسن والدكتور حسن مكي من إيطاليا، وكذلك العطار - لا أذكر تحديدًا أين كان، ربما في فرنسا - وذلك لتشكيل حكومة في صنعاء. لكنهم ما لبثوا أن اختلفوا.
العيني ومكي والعطار
رحمة: كان الخلاف بين الفريق حسن العمري وعبد الرقيب عبد الوهاب؟
عزيزة: نعم. كنا حينها في القاهرة - وكما جرت العادة، يتركنا محسن إما في بيروت أو القاهرة - ويعود بمفرده إلى اليمن لمتابعة الأمور. وقد طُلب منه أن يكون وسيطًا بين الفريقين، فذهب مع علي عبده سيف، والدكتور حسن مكي، والدكتور العطار.
رحمة: وكان الخلاف حول شحنة السلاح الروسية؟
عزيزة: نعم، كان الفريق العمري يرى أن الشحنة يجب أن تذهب لقيادة الجيش، وكان محقًا في رأيي، أما عبدالرقيب عبدالوهاب فقال إن كل فريق يجب أن يحصل على حصته.
رحمة: بينما الملكيون يتربصون بهم من خارج صنعاء!
عزيزة: الملكيون كانوا متمركزين في جبل "الشدفة" والجبل المجاور لنقم، باتجاه الحمامي وبلاد بني بهلول. وعندما كانت تقع خلافات بين الجمهوريين، كان الملكيون يسمعون بها ويبدأون في الضرب، فيتوجه الجميع لإطلاق النار نحو مواقعهم في جبل الشدفة وبرش.
الوسطاء، زاروا الفريق العمري ثم توجهوا إلى عبد الرقيب، الذي احتجزهم في القيادة، ورفض السماح لهم بالخروج إلا بعد تسليم السلاح.
رحمة: يعني أنهم أُخذوا رهائن؟ من بينهم الأستاذ محسن؟
عزيزة: نعم، محسن، والدكتور حسن مكي، والدكتور العطار. وكان محسن يراهم من داخل الغرفة وهم يرتدون الزي العسكري ويستعدون للقتال. كان حينها يدخن السيجار، فثقب الستارة بالسيجار كي يتمكن من مراقبة ما يحدث خارجًا.
رحمة: كيف تم إخراجهم؟
عزيزة: محمد، أخي، كان في المدرعات. وعندما علم بالأمر، قال إنه لا بد من التدخل لإنقاذهم، لأنه سيتم قتلهم. بدأت المصفحات والدبابات بالتحرك، ومحسن يقول إنه كان يراها من خلال الثقب في الستارة. أحد الحراس قال له: "أستاذ محسن، أنا تلميذك... كنت تدرّسني في عدن في مدارس البيحاني"، فرد عليه محسن: "أنا معي قلم، وأنت في يدك رشاش... فماذا نفعل؟"
المقدم محمد ابو لحوم
في النهاية، أخرجوهم تحت إطلاق النار. خرج حسن مكي والعطار ومحسن، ومحمد عبده سيف، واختبأوا خلف جدار، بينما الرصاص لا يزال ينهمر. مرت رصاصة بجانب رأس الدكتور حسن مكي وخدشته دون أن تصيبه.

شائعة الاستشهاد وبرقية الحياة

رحمة: وأنتِ في القاهرة، كيف وصلكِ الخبر؟
عزيزة: إذاعة لندن بثّت خبر استشهاد محسن العيني، والدكتور حسن مكي، والعطار. لم أسمعه مباشرة، لكن سمعت الناس يتحدثون به، وكنت أعلم أن هناك مشاكل.
رحمة: هل صدّقتِ؟
عزيزة: كنت أعرف أن كل شيء ممكن، وكان محسن يقول لي دائمًا "أين أذهب بك وبابنتك؟" من شدة خوفه علينا. وعندما سأله أخوه: "لماذا تتزوج من أسرة كذا وكذا؟" أجاب: "حتى إذا حدث لي شيء، يكون هناك من يعتني بزوجتي وأولادي". في ذلك اليوم كانت عمتي عزيزة في اليمن بعد مقتل الزبيري، وكانت عمتي رقية أيضًا هناك، وفي القاهرة كانت توجد بعض اليمنيات اللواتي نعرفهن.
محسن العيني
رحمة: وجاءتك النساء لتعزيتك؟
عزيزة: نعم، جاءت زوجة سعيد مرشد وأخريات، كلهن مرتديات السواد. شقتي صغيرة جدًا، لكن جلسن فيها وبدأ بعضهن يواسينني، وواحدة كانت تطبطب على كتفي. قلت لهن: "إن شاء الله خير... فداء للوطن".
ثم جاء مصطفى يعقوب، سفيرنا في القاهرة، وسلمني برقية من محسن في تعز.
السفير مصطفى يعقوب
رحمة: برقية أنه لا يزال حيًا؟
عزيزة: نعم. أمسكت البرقية، وقلت للنساء: "الحمد لله... كثر الله خيركن... إن شاء الله خير للبلاد". بعد ذلك، جاء محسن، وبقينا في القاهرة فترة، ثم أخبرني بأننا سنعود إلى اليمن.

جهود المصالحة ومقترحات تسمية الدولة

رحمة: هل كان ذلك في سياق جهود المصالحة بين الجمهوريين والملكيين؟
عزيزة: نعم، وعدنا إلى اليمن وأقمنا في تعز، في بيت ابن عمي درهم بن ناجي، الذي كان قد سُجن في القاهرة مع أخي محمد والدكتور طارق، الذي كان لا يزال طفلًا حين أخذوه معهم. لم تكن هناك تلفونات، كنا نتلقى البرقيات فقط، وهذا استمر حتى عام 1968م تقريبًا.
القاضي عبدالله الحجري
رحمة: ربما كان ذلك أفضل، وإلا لأرعبوك بخبر استشهاد محسن.
عزيزة: فعلًا. وصلت برقية إلى محسن من صنعاء تطلب منه أن يأتي فورًا إذا كان لديه وطنية واهتمام باليمن، وقالوا له إن البلاد في حالة حرجة. فذهب، وتعيّن رئيسًا للوزراء، بينما سافرت أنا وأطفالي من تعز إلى صنعاء، برفقة إحدى صديقاتي، وسكنا في منزلهم بصنعاء، إلى أن استأجرنا بيت عبد الله الحجري.
رحمة: وبدأ الحديث بعدها عن المصالحة؟
عزيزة: نعم، بعد مؤتمر حرض، الذي حاولوا فيه التوفيق بين الجمهوريين والملكيين. السعودية وقتها قالت: "لا جمهورية ولا ملكية، سمّوها دولة اليمن فقط". فاحتج البعض، وقالوا: "هذه ثورة، ولا يمكن التنكّر لها"، وأفشلوا المؤتمر. راجح بن عمي، وكان حاضرًا، قال إنه أطلق النار فوق رأس الأستاذ النعمان وقال: "هذه جمهورية، وعليهم أن يقبلوا بها".
مؤتمر حرض (منصات التواصل)
رحمة (مقاطعة): قال الأستاذ محسن: "يرجعوا أهلًا وسهلًا، إخوة لنا لا سادة علينا"...
عزيزة: نعم. لكن بيت حميد الدين اشترطوا ألا يعودوا ولا يشاركوا. ومع ذلك، عاد الجميع: أحمد الشامي، والوزير، والمضواحي، وغيرهم. أحمد الشامي كان حينها وزيرًا للخارجية. عادوا جميعهم إلى صنعاء بعد الاتفاقية، وسترون التفاصيل في كتاب أبو هيثم "خمسون عامًا في الرمال المتحركة". يروي فيه كيف وصل الملكيون إلى صنعاء، وكم كانت المخاوف عليهم ، حتى أنهم وضعوهم في بيت وحدهم. ولكن بعد الظهر، بدأوا يختلطون مع الآخرين وفي مجالس القات، منهم من ذهب لأصهاره، ومنهم من احتضن خصومه، وكأن حربًا لم تقع.
احمد الشامي ومحسن العيني
رحمة: اليمنيون دائمًا هكذا؟
عزيزة: يا ليت!
رحمة: في رأيك، لو وُجد اليوم شخص مثل الأستاذ محسن العيني، بحنكته وحكمته، هل يمكنه أن يضبط هذه الفوضى؟
عزيزة: اليمن مليئة بالخيرين والوطنيين. محسن قال في بداية الحرب والعدوان: "يا علي عبد الله صالح، يا إصلاح، يا حوثي... اجتمعوا، لن تُحل مشاكلكم إلا بالحوار. لن ينفعكم أحد". والآن، بدأ الناس يستعيدون هذا الخطاب، ويقولون: لا حل إلا بحوار يمني-يمني. وأنا متفائلة.
رحمة: وأنا أيضًا متفائلة. وبما أن التاريخ في اليمن يعيد نفسه، فدعينا نكمل في نفس السياق. في عام 1972، شارك الأستاذ محسن في اتفاق القاهرة، وكان الرئيس علي ناصر محمد حاضرًا. هل قابلتِ الرئيس علي ناصر؟ وما هو الدور الذي لعبه الأستاذ محسن في الاتفاق؟
عزيزة: في اتفاق جدة، الذي تم بين الملكيين والجمهوريين، كان هناك مؤتمر لوزراء الخارجية العرب، وكان محسن رئيسًا للوزراء ووزيرًا للخارجية في نفس الوقت. كثيرون قالوا له: "لماذا تذهب؟ عيّن وزير خارجية يذهب نيابة عنك". لكنه كان يطمح للسلام بأي طريقة، وحضر. بالنسبة لي، كنت معارضة. قلت له: "هؤلاء حاربونا سبع سنوات!" لكني لم أفرض رأيي، كنت أقوله، وهو كان يفعل ما يراه صوابًا.

اتفاق اليمنيين واختلاف جامعة الدول العربية

رحمة: وماذا عن اتفاقية الوحدة في القاهرة؟
عزيزة: كان هناك تواصل بين محسن والرئيس علي ناصر محمد، وحددوا أن يلتقوا في القاهرة، داخل مقر الجامعة العربية. المصريون وضعوا كل وفد في جانب، ومع ذلك اختلطوا، وأخذ بعضهم بعضًا بالأعناق.
الرئيس علي ناصر محمد ومحسن العيني
رحمة: حتى الرئيس علي ناصر قال إن الصحف المصرية كتبت: "اتفق اليمنيون واختلفت جامعة الدول العربية".
عزيزة: بالضبط! كانت الجامعة العربية تسعى لمفاوضات غير مباشرة بسبب وجود الحرب. وكان راجح أبو لحوم، وإبراهيم الحمدي (رحمه الله)، كل منهما في جبهة - قعطبة والبيضاء.
رحمة: لكن رغم الحرب، عندما يلتقي اليمنيون وجهًا لوجه، تذوب الخلافات؟
عزيزة: نعم، دائمًا يقولون "الوجه للوجه يستحي". ويتقابلون بعد الاقتتال ويأخذون بعضهم بالأحضان!
رحمة: يا ليتهم وفروا هذا الاقتتال لبناء اليمن، لكان ذلك أفضل.

جمعية نهضة المرأة اليمنية

رحمة: أسستِ جمعية المرأة اليمنية عام 1969، وكانت نواة لاتحاد نساء اليمن. كيف بدأت الفكرة؟
عزيزة:في سنة 1969م أسسنا جمعيتنا "نهضة المرأة اليمنية"، ولم يكن حينها اتحاد نساء اليمن موجودًا، وكانت هذه الجمعية نواةً لاتحاد نساء اليمن. كنتُ أجتمع مع النساء، وكنا نفكر فيما يجب علينا فعله. كانت معنا الوادعي، لكن لا يحضرني اسمها الأول، وزوجة الأستاذ هاشم طالب، والأستاذة عاتقة الشامي، وأنا، وكان معنا أيضًا زوجة سفير العراق، وزوجة سفيرَي سوريا ومصر. قمنا بجمع الدبلوماسيين لإبلاغهم بعزمنا على تأسيس جمعية نسائية في اليمن وإشهارها، وقد أعلَنّا عنها في عيد الأم في شهر مارس.
رحمة: ما الأنشطة التي بدأتم بها؟
عزيزة: فصول محو الأمية، إدخال مكائن خياطة في المدارس. العراقيون والكويتيون دعمونا ماديًا، ولم يشترطوا كتابة أسمائهم على أي لافتة.
رحمة: ومتى توسعتم؟
عزيزة: فتحنا فروعًا في تعز وإب، وكنا نخطط لفرع في أرحب. النساء كن يأتين ومعهن الشاي والأكواب والكراسي. أحيانًا كنا نجلس على الأرض. كنا نشعر بالحماس، وبعد تأسيس اتحاد نساء اليمن، حصلنا على الجائزة الأولى.

دعوة لاجتثاث "القات".. والبيت المنقسم

رحمة: في منتصف السبعينيات، دعا الأستاذ محسن إلى اجتثاث القات. كيف كان رد فعل الشارع؟
في عام 1974م تقريبًا، دعا الأستاذ محسن العيني إلى اجتثاث شجرة القات. ما كان موقفك؟ وما موقف بيت أبو لحوم عمومًا، خصوصًا وأن القات يُعَدّ عنصرًا رئيسيًا وأساسيًا في حياة المشايخ؟
عزيزة: التزم كثيرون، منهم أخي محمد الذي كان يخزّن القات يوميًا، لكنه التزم. أما علي فلم يكن يمضغ القات، وكذلك سنان ووالدي. وكان من الصعب إقناع أخي محمد وابن عمي درهم، اللذين كانا لا يفترقان، لكنهما التزما في ما بعد. كذلك التزمت كثير من النساء. وأنا كتبت قصيدة:
لعنة اللاعنين عليك
والذي أوقعنا بين يديك
أنت دائي وبلائي
كل سمّ الأرض متجمعٌ لديك
رحمة: والشارع بدأ يتفاعل مع هذا، ألم يقل الناس إن هذا العيني سيغيّر طقوسنا الاجتماعية؟
عزيزة: كان بعض المستفيدين من القات، ومن بينهم مشايخ، قد وقفوا ضد محسن، وقالوا: هذه هي اليمن، وهذا (القات) ليس حراماً، ونحن - والحمد لله - لا نشرب الخمر، بل إن اليمن نظيفة ولا يوجد فيها إلا القات. وقد بدأوا يجذبون الناس بهذا الخطاب، لكن كثيرين التزموا. بل إن بعض الحرس الذين كانوا عندنا قالوا: "هذه هي المرة الأولى التي نرسل فيها رواتبنا كاملة إلى أسرنا، لأننا توقفنا عن مضغ القات". حتى صحتهم تحسنت؛ فقد كنت أجد عندهم الكثير من أرغفة "الكدم" المتروكة دون أكل بسبب مضغ القات، ولكن بعد التزامهم، أصبحوا يتناولون طعامهم.

السفر إلى نيويورك

رحمة: واستمر هذا حتى عام 1979، عندما سافرتِ أنتِ ومحسن العيني إلى نيويورك، أليس كذلك؟
عزيزة: نعم، لكننا سافرنا أولًا إلى لندن، وكانوا يقولون حينها: "الشجرة التي قلعت العيني من اليمن".
رحمة: متى انضممتِ إلى المجلس العربي النسوي في نيويورك؟
عزيزة: كان ذلك في واشنطن، في سنة 1985، وكان ذلك بعد سفرنا من لندن، ولندن حكايتها حكاية.
رحمة: تفضلي.
عزيزة: في لندن، كان طارق معنا، وهو الثالث من بين إخوته، والفرق بينه وبين هيثم ست سنوات وستة أشهر وستة أيام بالضبط.
رحمة: فارق منظم جداً!
عزيزة: وقتها، كان محسن في رئاسة الوزراء. وأنا طبعاً، هيثم وهدى أنجبتهما في أمريكا، لا أتذكر متى تحديداً، لكني أتذكر جيداً عندما رأيت هدى بين ذراعي محسن عندما جاء بها إليّ. أما هيثم، فقد أنجبته ووالده مسافر.
رحمة: بينما طارق وُلد ووالده رئيساً للحكومة؟
عزيزة: نعم، وطوال الوقت، طارق يقول لإخوته: "أنتم وُلدتم في أمريكا، أما أنا ففي اليمن".
رحمة: وكأنه يقول: أنا المعجون بتراب هذه الأرض.
عزيزة: وهو الوحيد من أولادي الذي يمضغ القات. نقول له: والدك كان أول من دعا لاجتثاث القات، وأنت تمضغه؟! فيرد: "تلك كانت أيام وانتهت!".
رحمة: في مجلس النساء العربيات، كيف نشأت الفكرة؟ وما الذي قدمتِه لليمن من خلاله؟
عزيزة: أولاً، عندما كنا في نيويورك، كان هناك مجلس للنساء العربيات، وكانت فيه زوجة الدكتور كوفيس مقصود، وهو صديقنا، وزوجة الوزير السعودي الحجيلان، وكانت من السيدات الطيبات. كما كانت هناك مجموعة من النساء التونسيات والجزائريات.
وعندما انضممت إلى المجلس، وبعد فترة أصبحت نائبة الرئيسة، نظمنا عرض أزياء عن اليمن، وآخر للأزياء العربية بشكل عام، بالإضافة إلى أمسيات ثقافية، خصوصًا بعد إعلان الوحدة، حيث انطلقت الأنشطة بشكل كبير.

لحظات إعلان الوحدة.. ودموع الجاليات

رحمة: نتوقف عند سؤالك عن الوحدة، ثم نعود لمواصلة الحديث عن مجلس النساء العربيات.. كيف تلقيتِ خبر قيام الوحدة اليمنية؟ وهل كانت لديك معلومات مسبقة عن التحضيرات لها؟
عزيزة: عندما كان علي عبد الله صالح رئيساً، جاء جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، في زيارة إلى اليمن. وكان قبل تلك الزيارة نائباً للرئيس ريجن. في تلك الفترة، كانت التحضيرات للوحدة قد بدأت، وكان صالح يقول لمحسن: "يا أستاذ محسن، هذه المرة صدقني، لن نجامل، هذه وحدة حقيقية".
أذكر أن محسن كان يجلس في الصالون ومعه بعض الضيوف، وأنا أُحضّر الطعام، وكان الجميع فرحانين ومبتهجين.
رحمة: كنتِ حينها في قمة سعادتك!
عزيزة: كنت أكاد أطير من الفرح، لأنهم كانوا يتحدثون عن الوحدة.
أتذكر أن محسن قال لفخامة الرئيس: "لا بد أن تضعوا أسسًا واضحة حتى لا تحدث مشاكل فيما بعد، يجب أن تكون هناك قوانين ودستور، حتى وإن كان دستورًا مؤقتًا، ليترسخ مفهوم الوحدة، ولا تكون مجرد اتفاق بين شخصين".
فرد عليه الرئيس صالح قائلاً: "وأنتم فعلتم ذلك! ظللتم خمس سنوات تتخبطون في مجلس الوحدة..." وأتذكر تمامًا عندما كنت أسمع صوت علي عبد الله صالح (رحمة الله عليه).
رحمة: ماذا كان يقصد؟
عزيزة: كان يقصد الوحدة التي كان يُجهِّز لها محسن والرئيس علي ناصر محمد. وقال صالح: " لن تكون هناك أي لجان، هذه وحدة وحدة". وبعد ذلك، بأربعة أو خمسة أشهر، قامت الوحدة فعلاً.
رحمة: كيف تلقيتِ الخبر وأين كنتِ؟
عزيزة: كنت في المنزل، وكنا ننتظر سماع الإعلان. كانت هناك محطة عربية "MBC"، ومحطة تلفزيون الجالية العربية. كثير من الناس كانوا يتابعون MBC، لكنها لم تذيع خبر الوحدة، بينما تلفزيون الجالية العربية كان يبث الأخبار أولًا بأول. وكان رئيسها صديقًا مصريًا طيبًا من عائلة حافظ الميرازي والبدراوي. كانوا يتلقون الأخبار مباشرة من محسن أو من السفارة. أتذكر أنني رأيت صورة أخي سنان لأنه ترأس الجلسة الخاصة بالوحدة.
رحمة: هل بكيتِ؟ طبعًا أنتِ لا تبكين عادةً؟
عزيزة: أنا أبكي عندما أفرح! وبكيت في ذلك اليوم. بعدها أقيمت حفلة في السفارة بمناسبة تبديل العلم، وحضر أكثر من 200 سفير. كانت الحديقة كبيرة. طبعًا، يحيى المتوكل هو من اشترى الأرض، ومحسن بنى فيها صالونات. كان البيت صغيرًا، على الطراز الأمريكي، لكن الحديقة كانت واسعة، فيها مدرجات ونهر صغير يمر خلالها. المدخل كان من الحديد، واجتمع فيه كل اليمنيين.
كانت النساء اليمنيات يبكين، دعونا الجميع. كانت هناك من ترتعش، وأخريات يزغردن. حتى النساء القادمات من نيويورك، ممثلات الجنوب، جئن. من بينهن زوجة عبد الله الأشطل، وغيرهن كثير.
رحمة: كان الجميع سعداء... لكن ما هي الأنشطة التي قمتِ بها بعد الوحدة؟ لأنك قلتِ إنكِ انطلقتِ في المجلس النسائي؟
عزيزة: نعم. كنت عضوة في جمعية المرأة المسلمة في أمريكا، ثم أصبحت رئيسة لها. وعلى فكرة، كان هناك كثير من المسلمات، أذكر أنه بعد دخول محمد علي كلاي إلى الإسلام، دخل كثير من الأمريكيين السود إلى الإسلام.
كنا ندعوهم في رمضان على الإفطار، وكنا نعزم زوجات السفراء من مصر والجزائر وتونس وكل البلاد العربية، وحتى تركيا.
كانت زوجة السفير التركي ممتازة جدًا، وكانت تحضر معنا. أما المسلمات حديثات الإسلام، فكن يأتين بملابس غريبة، إحداهن تمضغ العلكة وهي صائمة! كان فهمهن للإسلام لا يزال في بداياته، لكنه كان جميلًا بطريقته.
رحمة: كانت هناك توعية، وليس فقط دعوة إلى الإسلام؟
عزيزة: نعم، كنا نحضر من المركز الإسلامي، وكنا لا نجتمع في البيت فقط، بل في كل السفارات الإسلامية. كانت سفارة إندونيسيا في غاية الروعة، وزوجة السفير كانت سيدة فاضلة.
رحمة: وفي المناسبات التي كنتِ تنظمينها، لم تعودي تلك التي أتت من "نهم"، بل أصبح هناك فعاليات وجمعيات؟
عزيزة: نعم، انتهى ذلك. وكنت فخورة جدًا ببلدي، وبأننا فعلنا شيئًا يُذكر.
رحمة: من هم أبرز الرؤساء أو الشخصيات الذين حضروا الفعاليات التي كنتِ تقيمينها أنتِ والأستاذ محسن؟ هل تعرفتِ عليهم واستضفتِهم؟
عزيزة: كثير من الأمريكيين، وكان يحضر وزير الخارجية، ووزير الدفاع. أيام جورج شولتز، كان جارنا، وكانت زوجته تحب الأكل اليمني بشدة.
أتذكر عندما بدأت الحرب في العراق، كانت تحكي لي عن اليهود، وتقول إنهم دمروا البلاد. كنا نذهب معًا إلى كوافيرة إيرانية، وكانت تحكي لي بكل وضوح أنها غير سعيدة باليهود.
لكن عندما تظهر على التلفزيون، تقول كلامًا مختلفًا تمامًا!
فقلت بعدها: لن أرسل لها الأكل اليمني مرة أخرى.
جورج شولتز
رحمة" ننتقل إلى الأستاذة عزيزة أبو لحوم ومؤلفاتها. لقد تأخرتِ في إصدار أول كتاب لكِ، أعتقد أنه صدر عام 1997 بعنوان أحلام نبيلة؟
عزيزة: نعم، أول كتاب نُشر هو أحلام نبيلة، ولكن كتاب طيف ولاية كنت قد جهزته قبله.
رحمة: أين كتبته وما هي خلاصته؟
عزيزة: كتبته في أمريكا ويتناول طيف قصة رجل من الحيمة، كان يعمل في زبيد عند أحد العمّال، فاتهمه العامل بسرقة سلاحه وأصر على إحضاره. هذا الرجل تزوّج بعد رحيل الأتراك. وكان هناك تركي تزوّج امرأة يمنية، ثم سافر وهي حامل.
وعندما وصلت إلى الباخرة شعرت بالخوف وعادت، رغم أن الجنود كانوا ينادون: "الأتراك التوجه إلى الباخرة"، لكنها قررت العودة، وأنجبت طفلة. تاريخ الرواية يعود إلى عشرينات القرن الماضي، وهي مستوحاة من قصة سيدة واقعية حدث لها شيء مشابه.
المرأة خافت من البحر، فلم تسافر مع زوجها، وعادت، وعندما عادت أنجبت طفلة. وكانوا يطلقون على البنت "ابنة التركي"، لأن أباها سافر ولا يعلمون إن كان على قيد الحياة.
العسكري، الذي كان من الحيمة، تزوج بابنة التركي، واسم أمها آمنة. وبعد زواجه بها، اتُّهم بسرقة سلاح العامل، فبدأ العامل ينكّل به، صادر منزله، وتعرض للفتن، ثم مات.
بعد ذلك، بقيت المرأة وابنها ناجي، وذهبت إلى تعز لتشتكي. وكان الإمام أحمد حينها ولي العهد في تعز.
حاولت أن تشتكي من أن العامل صادر بيتها، وأنها أرملة يتيمة ومعها طفل يتيم.
رحمتها بائعة القهوة، ولم تأخذ منها مالًا، وأخبرتها أن تذهب إلى صنعاء، إلى الإمام يحيى، لأنه وحده من يستطيع إعادة البيت إليها.
أما ابنها، الذي كان عمره خمس أو ست سنوات، فبقي عند بائعة القهوة في تعز. وكانت تعز قد بدأت تشتهر حينها، وولي العهد الإمام أحمد أصبح إمامًا بعد ذلك. بدأت المرأة حياتها من جديد بمساعدة الخبّازة، حيث كانتا تصنعان الخبز وتبيعانه في السوق.
وكبر ابنها حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره، وأخبرها أنه سيذهب إلى خاله - أو بالأصح خال والدته - الذي يعمل في المخا.
قال: "سأذهب للبحث عنه"، لأن الناس في تلك الأيام كانوا يسافرون من مدينة إلى أخرى لسنوات ولا يعودون.
رحمة: ما هي الرسالة التي أردتِ إيصالها من هذه الرواية؟
عزيزة: الرسالة هي الحب. الولد تعلّق بابنة بائعة القهوة، وكانت تسميه "نُويجي"، وهو يرى نفسه كبيرًا، خصوصًا وقد بلغ الخامسة عشرة من عمره. كان يحبها، ولا يعرف كيف يعترف لها، لأنها كانت أكبر منه سنًا. وأخبرها أنه سيذهب للبحث عن خاله.
رحمة: بمعنى أنه لا يتأثر بسيدة ولا مشيخة ولا فرق طبقي، لأنها "مقهوية"، أليس كذلك؟
عزيزة: نعم. فسافر إلى المخا ولم يجد خال والدته، وأخبرها أنه سيسافر إلى مدينة عدن للبحث عن جده التركي. في الحقيقة، كان يريد أن يهرب من حالته. ابنة بائعة القهوة كانت تُدعى "ولاية" - كما تعلمين، كان هذا الاسم شائعًا - وقصته طويلة.
سافر ووصل إلى مدينة عدن، وعمل مع البحّارة الإنجليز، جاب الدنيا، ولا يزال يحتفظ في ذاكرته بـ "طرحة ولاية". تزوّج أكثر من امرأة في أمريكا، لكن طيف "ولاية" ظل عالقًا في ذهنه. كان اسم الرواية في البداية "البحث عن ولاية"، لكن محسن اقترح أن أغيّره إلى "طيف ولاية" لأنها أقرب إلى الخيال.
رحمة: هل كان محسن يقرأ كتاباتك قبل طبعها ويبدي ملاحظاته؟
عزيزة: نعم، كان يقرأها وهي لا تزال مكتوبة بخط اليد، ويدقق في اللغة العربية عندما أخطئ.
رحمة: يدفعني الحديث عن مؤلفاتكِ إلى سؤال ربما يقفز بالزمن سنوات إلى الأمام، لكنه استثناء أود التوقف عنده… ما هي الكتب التي أهديتِها مؤخرًا للمكتبات اليمنية؟ وهلّا حدثتِنا عن هذه الرحلة؟
عزيزة: نعم، كانت الرحلة قبل ثلاث سنوات، في الذكرى السنوية الأولى لوفاة محسن وتحديداً في أغسطس2022م، أهدينا قرابة 300 كتاب إلى مكتبات جامعات صنعاء وعدن وذمار. معظم هذه الكتب كانت مهداة إلى محسن من قادة عالميين مثل تيتو ومهاتير محمد، ومن رؤساء أمريكيين، وكلها باللغة الإنجليزية.
رحمة: كيف تم تسهيل إجراءات نقل الكتب؟
عزيزة: الشركة اليمنية للطيران خفّضت لنا التكلفة، فدفعنا فقط ربع السعر. ساعدتنا أيضًا الدكتورة أمة الله حمد، وكان هناك أستاذ في جامعة صنعاء مسؤول عن المكتبة ساعد كثيرًا في إجراءات التراخيص.
رحمة: كم كانت كمية الكتب تقريبًا؟
عزيزة: ثلاث كراتين كبيرة، وثلاث متوسطة، واثنتان صغيرتان. نُقلت عبر سيارتين هايلوكس. أنا ركبت في سيارة، وزوجة الدكتور أسامة العيني في السيارة الأخرى. في النقاط الأمنية، كنا نُريهم الكتب، خاصة كتاب "الناقة المعقورة" لمحمد الخامري، الذي كتب محسن مقدمته، فكانوا يتركوننا نمر فورًا. وعندما وصلنا إلى الراهدة، وكان معنا شخص من بني بهلول، قال لهم: "هل تعلمون من هذه؟ هذه زوجة محسن العيني!" فقالوا: "اذهبوا فورًا".
رحمة: مشاهدينا، نلقاكم في الحلقة القادمة من مذكرات عزيزة عبدالله.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)

الكلمات الدلالية