فلسطين وتشوُّشُ الرؤية
البعض منا ينكر وجود المؤامرة، أو على الأقل لا يميل إلى الحديث عنها، ربما اعتقاداً منه بأن الحديث عنها يعني التحلل من مسؤوليتنا عما وصلنا إليه من سوء. ومع ذلك فإن المؤامرة موجودة عبر التاريخ. وهذه حقيقة لا بد من التسليم بها. ولكن التسليم بها لا يعني أن ننظر إلى أحداث التاريخ على أنها مجرد تجليات لسلسلة من المؤامرات، ونغفل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحركة للأحداث، والتي لا يمكن تفسير أي حدث تاريخي، بل ولا يمكن تفسير المؤامرة نفسها إلا بالرجوع إليها، أي إلى هذه العوامل. فالتاريخ، كما يقال، ليس كله مؤامرة، ولكنه ليس خلوَّاً منها. وها هي المؤامرة على الوطن العربي ماثلة أمام أعيننا، نعيشها ونتنفس هواءها السام. وهذا لا يعني أن نعفي أنفسنا من مسؤوليتنا عن استمرارها، أو نبرر عجزنا عن التصدي لها وإسقاطها.
ودون الرجوع إلى الحملات الصليبية، التي غزت وطننا العربي، وتواصلت من أواخر القرن الحادي عشر، حتى نهاية القرن الثالث عشر ميلادي، تحت ذرائع دينية كاذبة. ودون الرجوع إلى الحركة الاستعمارية الأوربية في مطلع العصر الحديث، التي صورت نفسها حركة تحمل رسالة إنسانية إلى البلدان المتخلفة، فتعمرها وتأخذ بيدها إلى التحضُّر والتقدم. فأسفرت رسالتها الإنسانية هذه عن إبادة شعوب عرفت الحضارة قبل أن تعرفها الشعوب الأوربية. ودون الرجوع إلى اتفاقية التقسيم، المعروفة باتفاقية (سايكس _ بيكو) التي وُضعت خلال الحرب العالمية الأولى، وإلى تحديثاتها الجديدة، المتمثلة بمشروع برنارد لويس لإعادة تقسيم الوطن العربي، الذي أقره الكونجرس الأمريكي في عام 1983م، وما تضمنه من عمليات تقسيم ما تزال قيد التنفيذ، في العراق وسوريا والسودان وليبيا واليمن وغيرها، تمثل جوهر هذا المشروع، يراد لها أن تبدأ باستنبات حكومات وبرلمانات متعددة في كل قطر عربي على حدة، ذات طابع عرقي وطائفي، لن تلبث أن تتحول إلى مجموعة من الدويلات الهزيلة، التي لا تملك أي منها مقومات الدولة القادرة على الحياة دون سند خارجي. ودون الرجوع إلى مقدمات وأحداث ومآلات المؤامرة الكبرى في تاريخنا العربي المعاصر، التي ماتزال مستمرة حتى الآن، وهي مؤامرة اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها وإقامة كيان صهيوني دخيل، تسبب هو وصانعوه بما توالت على الوطن العربي من كوارث ونكبات على امتداد قرن من الزمان. دون الرجوع إلى ذلك وغيره، مما يمكن قراءته في كتب التاريخ وما يمكن مشاهدة امتداداته اليوم، فإن الأحداث الماثلة أمامنا تؤكد وجود المؤامرة المنطلقة من مصالح الدول الكبرى وأطماعها في أرضنا وثرواتنا. وهي أحداث تتباين الروايات عنها، شأنها شأن أحداث الماضي البعيد والقريب.
ولا تختلف الروايات الحديثة في تبايناتها عن تباينات الروايات القديمة، إلا في حجم الترويج لها واتساع دائرة انتشارها ودقة صياغتها ووضوح أهدافها في أذهان أصحابها. فالحدث الواحد يرويه كل من له علاقة به بصورة مختلفة، بل ومناقضة للصورة التي يرويها الطرف المعادي له. ونحن كمتلقين، نشعر بأن أدمغتنا أضحت وعاءً تصب فيه كل الأطراف رواياتها المتباينة، المصاغة وفقاً لأغراض أصحابها ومصالحهم. فتختلط وتتداخل، ويصعب علينا في كثير من الأحيان فرزها وتمييز بعضها عن بعض. ومن هنا يحدث التشوش لدينا، وعدم الثبات عند صورة واحدة للحدث. ولنكتف هنا بعناوين محدودة، منتزعة من الواقع الذي نعيشه:
فمنظمات المقاومة في فلسطين، مثلاً، منظمات (إرهابية) في نظر الصهاينة والمتصهينين. وهي منظمات مقاومة مشروعة، في نظر من يعلقون عليها الأمل في التصدي للمعتدين المغتصبين للأرض الفلسطينية وداعميهم.
والسلطة الفلسطينية سلطة شرعية، في نظر الأطراف الدولية والعربية الراضية عنها. وهي في نظر غير الراضين عنها مجرد هيئة لا تملك من أمر نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحمي حتى المدينة التي تقيم فيها.
وطوفان الأقصى عند البعض مغامرة وفرت للصهاينة الذريعة التي كانوا ينتظرونها، لتدمير غزة وإبادة شعبها. وعند البعض الآخر أن الصهاينة لا ينتظرون الذرائع، وما يعملونه في الضفة الغربية بهدف الاستيلاء عليها كاملة يؤكد ذلك، وطوفان الأقصى يأتي كفعل مقاوِم، في سياق نضال وطني طويل، لشعب يسعى إلى استرداد وطنه ويتصدى لعصابات الصهاينة التي اغتصبت أرضه وشردته وتواصل تشريده إلى مختلف بقاع العالم. والنضال الوطني لا يقاس بحجم التضحيات التي يقدمها، بل بمشروعيته وبعدالة القضية التي يضحي من أجلها. ولو كان يصح تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية ما يحدثه الغزاة الصهاينة من قتل وتدمير في غزة والضفة الغربية، لكان صحيحاً تحميل الشعب الروسي مسؤولية قتل ما يقارب ثلاثين مليوناً من أبنائه لمقاومته الغزو النازي، ولكان صحيحاً تحميل جبهة التحرير الجزائرية مسؤولية قتل مليون جزائري على أيدي الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، ولكان صحيحاً تحميل المقاومة الفيتنامية مسؤولية قتل ما يزيد على مليون فيتنامي على أيدي الغزاة الأمريكيين، فالروس والجزائريون والفيتناميون وغيرهم، وفق هذا المنطق، أعطوا المبرر لأعدائهم ليقتلوهم ويدمروا مدنهم وقراهم ومقومات حياتهم. ولو كانوا استسلموا لسلموا.
والأسرى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية، في نظر من يرون في المقاومة حقاً طبيعياً لشعب اغتُصبت أرضه، هم أسرى حرب ممتدة بين صاحب الأرض وبين مغتصبها، أسروا بهدف مبادلتهم بآلاف المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، رجالاً ونساءً. وفي نظر الصهاينة وداعميهم ليسوا أسرى، بل هم مختطَفون، لتكتمل بذلك الصورة التي يروجون لها، وهي صورة (الإرهابي) الذي يختطف الأبرياء.
وحركة المقاومة الفلسطينية حماس في نظر البعض متعنتة في موقفها وترفض تسليم الأسرى وإعادتهم إلى أهاليهم، وهي لو فعلت ذلك لتوقفت الحرب وانتهى كل شيء. فالحرب هدفها استعادة الأسرى وحسب. وفي نظر البعض الآخر أن حماس ليست هي المتعنتة في موضوع الأسرى، بل الحكومة الصهيونية. فقد كررت حماس عرضها منذ بداية الحرب وفي كل المفاوضات التي جرت مع الكيان الصهيوني عبر الوسطاء، بأن تسلم الأسرى جميعهم دفعة واحدة، مقابل عدد متفق عليه من المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، شريطة وقف الحرب وانسحاب الجيش الصهيوني من غزة، مع قبولها التخلي عن حكم غزة لهيئة مختارة تتولى إدارة القطاع. ولكن الحكومة الصهيونية وبدعم من الإدارة الأمريكية، ترفض هذا العرض، وتصر على استمرار الحرب، حتى بعد تسليم الأسرى. فقضية الأسرى، وفقاً لتصريحات نتن ياهو وأعضاء حكومته، ليست الأولوية الأولى لهم، بل القضاء على حركة المقاومة ونزع سلاحها وإجبار سكان غزة على النزوح منها. وهذا ما جعل أهالي الأسرى وقطاع واسع من المجتمع الصهيوني لا يحملون حركة حماس مسؤولية عرقلة المحادثات الهادفة إلى إعادة الأسرى، بل يحملونها نتن ياهو وحكومته المتطرفة. كل هذا يجري بالتوازي مع مواصلة عمليات الاستيطان في الضفة الغربية، والضغط على الفلسطينيين هناك، بالقتل المتواصل منذ سنوات وتدمير المساكن وتجريف المزارع والشوارع، لإجبارهم على النزوح منها. لتكتمل بذلك سيطرة الصهاينة على كل الأرض الفلسطينية، من النهر إلى البحر، ويترسخ وجود دولتهم اليهودية الخالصة عليها. فما يجري في الضفة الغربية وفي غزة ما هو إلا جزء من المخطط الصهيوني، الذي تتوالى فصوله منذ المؤتمر الصهيوني الأول في نهاية القرن التاسع عشر (عقد في مدينة بازل السويسرية في أغسطس 1897م).
وما يقوم به أنصار الله الحوثيون في اليمن من عمليات إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة عمل أحمق في نظر البعض، يجر على اليمن عواقب وخيمة هو في غنى عنها. وفي نظر البعض الآخر هو عمل صائب، يعبر عن إحساس بالواجب، تجاه إخوة تكالبت عليهم الأمم، يقفون وحدهم في وجه الباطل، دون نصير أو معين، سوى مساندة تأتيهم من صوب اليمن، قيمتها الأخلاقية والمعنوية تفوق قيمتها المادية، ويعبر الفلسطينيون علناً عن تقديرهم لها وامتنانهم للشعب اليمني.
وقس على ذلك، روايات وتقييمات لا حصر لها، ينقض بعضهاً بعضاً. فكيف يمكن النظر إلى هذه التناقضات، وسط صراع محتدم يدور في جبهة الوعي، مترافق مع المعارك الدائرة في جبهة الحرب، هدفه التحكم في العقل والعواطف والمواقف وتوجيهها، الوجهة التي تخدم هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتصارعة؟ سؤال ليس من الصعب الإجابة عنه، رغم كل عمليات التشويش الممنهجة التي يخطط لها من يديرون صراعات العالم ويتحكمون بمقدراته، وتنفذها آلاتهم الإعلامية الجبارة، المتعددة الأوجه والتفرعات. فحقائق الواقع تتصف بالبساطة والبداهة والوضوح، ويمكن أن تدركها الفطرة السليمة. فهي عادة ما تكون أمام أنظارنا، ويمكننا أن نراها رغم كل التمويه والتشويش، إذا ما نزعنا عن أعيننا الغشاوة ونظرنا بعين العقل لا بعين الهوى.
فهل هناك وجه للالتباس، مثلاً، في أن لكل شعب الحق في العيش آمناً مطمئناً في وطنه؟ وأن شعب فلسطين أحق بأرضه، من عصابات الصهاينة الذين جُلبوا من أصقاع الأرض، ووُضع لهم تاريخ واحد وأصل واحد ومُهِّد لهم السبيل ليغتصبوا أرض غيرهم ويستوطنوا فيها، ويشردوا شعبها؟ وهل ثمة التباس يمكن أن يؤدي إلى عدم اليقين بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على كامل أرضه؟ أو التباس في أن من يطالب بهذا الحق ليس إرهابياً بل مقاوماً، يقاتل في سبيل حقه في الوجود؟
وهل يجوز أن نعتبر المساندة اليمنية للحق الفلسطيني، بالإمكانيات المتاحة، ضرباً من الحماقة، لمجرد أننا نختلف مع من يقومون بها في قضايا أخرى؟ وهل نعجز عن التمييز بين فعل صحيح يصدر عنهم، كموقفهم مما يجري في غزة، الذي يلقى الترحيب من الشعب الفلسطيني ومن كل المتعاطفين مع قضيته، وبين فعل غير صحيح، كخطابهم الطائفي الذي يلحق الضرر بوحدة المجتمع اليمني وتماسكه وتعايشه؟ ألا يحق لنا أن نرفض هذا ونقبل ذاك؟ وأيُّ منطق يجبرنا على أن نقبلهما معاً أو نرفضهما معاً؟
وبعد هذا كله، من سيكتب تاريخ هذه الأحداث؟ وكيف سيكتبها؟ وإلى أي طرف سينحاز؟ وأي الروايات سيأخذ بها؟ وكيف ستُقرأ في المستقبل؟ وهل يستطيع أحد منا بعد هذا كله أن يزعم بأنه يعرف الحقيقة التاريخية معرفة يقينية، ما دمنا لا نعرف إلا ما كتبه الرواة عنها، وكل له روايته وكل له تصوره؟ وهل يستطيع أحد أن يتحدث عما يسمى حُكم التاريخ ومحكمته العادلة، التي لا وجود لها إلا في خيالاتنا؟
أسئلة كثيرة تتوارد على هذا النحو، ويمنع الاسترسالَ فيها توقعُ إجابات تأتي من هنا وهناك، مطبوعة في الغالب بطابع التعصب الذي اعتدنا عليه، والذي لا يفرق أصحابه بين خطأ وصواب، بين حق وباطل، لا سيما أولئك الذين لا يقبلون إلا أن تكون معهم بالكامل أو ضدهم بالكامل، أخطأوا أو أصابوا. ولا وسط عندهم بين الخيارين، ولا يتسامحون مع اجتهادات من يختلفون معهم. إنه داء التعصب وتشوش الرؤية ومحنة العقل.