صنعاء 19C امطار خفيفة

التراجيديا اليمنية

أزمة بلادنا السياسة والاقتصادية أعمق من أزمة ذي القرنين، إذ بها تعقيدات ما أنزل بها من سلطان، حيث تتداخل جملة مدخلات داخلية ذات إرث تاريخي ومدخلات خارجية متباينة الرؤى والأهداف، وبين هذه وتلك تبدو بلادنا كوجود سياسي معلق برقبة عرقوب متعدد الرؤوس والاتجاهات المتنافرة حد التصادم، وأحيانًا حد التشرذم، وضمن هذا المنولوج المضحك الملكي تطفو على السطح مشكلات البلاد كرؤوس هيدرا كلما قطعنا رأسًا تولد بديلًا أسوأ من ذاك الذي تم استئصاله، لكن يبدو أن عملية الاستئصال أريد معها إبقاء الداء، وإن تم حجز بعض مظاهره.

مشكلة بلادنا السياسية الاقتصادية الأمنية الجيوسياسية باتت رهنًا بظاهرة مد البحر وجزره، تحركها عوامل ذات أبعاد خارجية ذات تأثير أقوى وعوامل داخلية مشبعة بالتبعية لأطراف حاكمة، كل طرف يقود سفينة البلد الهشة صوب المرافئ التي يجد مصالحه فيها، وإن تعارضت مع مصلحة البلاد الباحثة عن تحقيق عناوين أساسية تتمثل في:
- استعادة الدولة المصادرة التي تم الانقلاب عليها بدءًا بانقلاب الحوثي أنصار الله وما تبعه أولًا من انقلابات عززت هذا الانقلاب وأضعفت عناصر قوة وتماسك الشرعية سياسيًا، وثانيًا أثر ذلك على تغول عناصر عدم الاستقرار الاقتصادي، وثالثًا خطر تزايد مظاهر عدم الأمن والأمان، وأثرهما السلبي على مظاهر الحياة الاقتصادية.
- بيئات اقتصادية منتجة، واستقرار مناخات لبيئة مالية لها شروط التواجد المستمر ضمن بيئة حاضنة ينظمها القانون والعمل المؤسسي... ما عشناه خلال المرحلة المنصرمة المضطربة حربًا سادها على الأرض والقرار مظاهر صراعات الجبابرة، عنوانها صراع غيلان الزمان وجغرافيا متباعدة الأضلاع والأهداف، سهولها صخورها جبالها أساطير تجاوزت مفهوم الإلياذة اليونانية، وما لم ينشر من فقه فراعنة أبو سنبل، وغموض ابتسامة أبي الهول، وحكايات عاد وثمود وجماعات ذي الأوتاد.
بقيت البلاد مربوطة من خياشيم تنفسها بيوم السيل سيل العرم وغرام سليمان ببلقيس ساحرة الأنبياء. وتلك رواية أخرى تحاكي عبقرية زوربا وتعقيدات فرانز كافكا وهو يحاكم العالم من خلال روايته المحاكمة التي أبى أن ينشرها حيًا، لكن نشرها بالنسبة لنا ضرورة كي نحاكم من جعل بلادنا مسرحًا لصراعات هامان وفرعون وغيلان ما بين النهدين وما جاورها من أقاليم سبأ وحمير ويمن ويمنات وحضرموت ذات النهدين... بلدنا الذي لا يشبه البلدان يحتار في وصفه علماء الآثار وجغرافية الظل والغمام، تتقاتل أطيافه تحت جنح الظلام على ما تبقى من عصف مأكول، صراع علني خفي معًا، يسوقه أباطرة الحرب مسوقو بقايا البرتجان بمخافر سيف الإسلام تارة، وتارة تحت راية ملاعب الثعابين حيًا وميتًا، وتارة أخرى بمنقار طهران وتدخل تحالف شمس الأصيل تروي الأرض من ماء زمزم ماءً زلالًا لا يثمر إنتاجًا، لكنه يضخم غدتنا الدرقية، عنوان مأساة بلادنا السياسية والاقتصادية... مأساتنا ليست كمأساة ذي القرنين، مأساة بلادنا تكمن بتعدد رؤوس هيدرا، بتعدد سادة الثعابين، ممن ربوا وخلفوا زواحف تحكم وتأمر وتنهى تحت الأمر الواقع المبين، المعزز بجوار له قراءته ومصالحه، وأطراف دولية لها ترجمات أخرى يترجمها مترجمو المصلحة أولًا لهذا الطرف أو ذاك، وعلى مصالح بلدنا السلام، إذ هو مسلوب الإرادة والسيادة، وهنا يكمن الداء والمرض العضال، هنا نبدأ رحلة الألف ميل للدخول في معالجة حقيقية لكافة الملفات، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا... من هنا تبدأ رحلتنا، ولا تكمن عبرة فهلوة أن نشير إلى أن البلد لا تصب في خزائنه الشرعية إيرادات 142 مؤسسة مالية، الأمر وجوهر المشكلة أبعد من ذلك، إذ إن الـ142 مؤسسة هي جزء من داء ومرض عضال مزمن متمثل في:
- غياب إرادة وطنية موحدة.
- ضعف مزمن متزايد لأداء مؤسسات دولة قوية.
- تزايد قوة وتأثير قوى تحت مفهوم الدولة والوطن الواحد.
- استشراء ظاهرة الفساد بشكل متزايد دونما محاسبة.
- اضطراب أسواق المال والتجارة يزيدها اضطرابًا وهن وإضعاف قطاع الإنتاج المادي، لتصبح السوق الوطنية عارية أمام الخارج استيرادًا دونما أي مظهر من مظاهر حماية ورعاية مقومات الإنتاج التصديري.
نقول أخيرًا إن ما تعانيه السوق وما يعانيه الاقتصاد من تضخم معبر عنه بالهلاك المتزايد لقيمة الريال، ومعالجة ذلك كضرورة ترتبط بتبني مشروع حل سياسي أساسه توافق وطني أولًا، ثانيًا تفعيل وتطوير مخرجات الحوار الوطني، وأولًا وأخيرًا إنهاء الانقلاب على مفهوم الدولة الوطنية، المتضمن حلًا وطنيًا للقضية الجنوبية، إذ بدون حلها لا حل لمشكلة البلاد، على أن يكون مفهومًا أن يكون الحل وطنيًا يعكس توافقًا شاملًا لا يستثني أحدًا خارج ثوابتنا الوطنية.

الكلمات الدلالية