صنعاء 19C امطار خفيفة

سلطة بلا مشروع وقبائل بلا حدود

لم تكن القبيلة اليمنية يومًا فاعلًا وطنيًا مستقلًا بذاته، بقدر ما كانت وحدة اجتماعية تابعة لمركز النفوذ الأقرب إلى القوة والسلاح والمال كانت حاضرة في مسار الدولة اليمنية الحديثة لا كجزء من منظومة دولة مدنية، بل كذراع تقليدية تُستدعى عند الحاجة، وتُدفع لها ثمن الولاء، دون أن يكون لهذا الولاء أية صلة بمفهوم المواطنة أو الانتماء الوطني.

كان ولاء القبيلة دومًا لمن يملك أدوات السيطرة، ويخاطب البنية العاطفية والحمية العصبية التي ورثت من قرون ما قبل الدولة، وتحولت إلى سلطة موازية.
منذ فجر الجمهورية، لم تستطع الدولة اليمنية كبح جماح النفوذ القبلي، رغم الشعارات التي رُفعت عن التحديث والمدنية، وحده الرئيس إبراهيم الحمدي حاول أن يضع حدًا لهذا الاختلال البنيوي في علاقة الدولة بالقبيلة، لكنه دفع حياته ثمنًا لهذا المشروع.
سعى الحمدي لتقليص نفوذ مشايخ القبائل، وتعزيز المؤسسات، وتطبيق القانون على الجميع، إلا أن تحالفات المشيخات النافذة، وامتداداتها الإقليمية، أجهضت محاولته، ليعود النفوذ القبلي أكثر شراسة، محتميًا بسردية الجمهورية، بينما يعيد إنتاج منطق ما قبل الدولة.
في عهد علي عبدالله صالح، أعيد ترتيب العلاقة مع القبيلة على أسس جديدة، لم تقم على الدمج بل على التوظيف. استخدم صالح الولاء القبلي كأداة لاستمرار حكمه، وحرص على شراء ولاءات المشايخ، ومنحهم امتيازات في الأمن والقضاء والإدارة، على حساب الدولة ومؤسساتها. تحوّلت القبيلة في عهده إلى مقاول سياسي، يبيع الولاءات لمن يدفع، وينخرط في لعبة السلطة مقابل النفوذ والمخصصات. لم يكن هدف صالح احتواء القبيلة داخل مشروع الدولة، بل استخدامها لحماية سلطته الشخصية، وتطويق أي مشروع مدني حقيقي أو وجوه مدنية تسعى للتنمية والبناء والنهضة والحرية والمساواة.
لكن هذه البنية التي رعاها صالح لعقود، انقلبت عليه في نهاية المطاف. حين ظنّ أن بإمكانه إعادة تموضعه ضد جماعة الحوثي بعد تحالف ثلاث سنوات، وجد نفسه معزولًا، ومطاردًا، ومقتولًا على أيدي من رباهم وسلّحهم. لم تنفعه كل تحالفاته القبلية التي كانت قائمة على المال، لأنها كانت مرتبطة به شخصيًا لا بالدولة أو بالمشروع الجمهوري الذي مثل له وحدة هو وأقاربه في الآونة الأخيرة قبل تسليمه السلطة. انتهى به الأمر وحيدًا، مدفوعًا بفكرة متأخرة عن الدفاع عن الجمهورية، التي فرّغها بنفسه من معناها، وأضعف من حملوا رايتها من العسكريين والمدنيين، لصالح مشايخ سلطة ومراكز ولاء مؤقتة قتل واعتبر شهيدًا لأنه دافع عن منظومته الجمهورية الخاصة به وبمحيط حزبه القبلي وبالأحزاب المدنية الأخرى.
بالنسبة للجنوب لم تكن القبيلة الجنوبية بعيدة عن هذه المعادلة، وإن اتخذت طابعًا مختلفًا. فبعد تجربة دولة الجنوب الاشتراكية، التي همّشت القبيلة لصالح الدولة المركزية، جاءت الوحدة لتعيد استنبات القبيلة كأداة سياسية، حُسمت حرب 1994 لصالح صالح ومنظومته، فتم تحويل الجنوب إلى منطقة نفوذ مغلقة، تُدار فيها المصالح عبر شيوخ موالين، وتُقصى الكفاءات، وتُنهب الأراضي والثروات. لم يكن للقبيلة الجنوبية دور جوهري في تلك المرحلة، لكنها شعرت بالإذلال والتهميش، وتحولت بمرور الوقت إلى وعاء لنقمة مكتومة، انفجرت لاحقًا في الحراك الجنوبي.
حين اندلعت الاحتجاجات في الجنوب عام 2007، كانت القبائل جزءًا من المشهد، لا بصفة تقليدية صرفة، بل كقوة اجتماعية أعادت تنظيم نفسها في مواجهة منظومة الإقصاء. ومع الحرب، والصعود العسكري لقوى موالية للإمارات، أعيد توظيف القبيلة الجنوبية ضمن مشاريع الأمر الواقع، وأصبحت بعض الزعامات القبلية قوى نافذة، لكنها بلا مشروع وطني جامع، بل ضمن تحالفات إقليمية تُعيد إنتاج منطق الزعامة الفردية والتوريث والولاء الخارجي. ظهر في الجنوب مشايخ جُدد، صعدوا من رحم الصراع، لكنهم لا يختلفون كثيرًا عن منظومة المشيخات التي رعاها صالح، سوى بتبديل الجهة الداعمة.
في الشمال، سيطر الحوثيون على الدولة، وهم يدّعون مناهضة المشروع القبلي، لكنهم في الواقع استخدموه بمهارة وظّف الحوثي القبيلة عبر خطاب تعبوي يمزج بين الكرامة والسيادة، والعداء لما سماه العدوان الخارجي، ليضمن انخراط القبائل في حروبه. منح مشايخ الولاء مناصب وأسلحة ونفوذًا، وعاقب من تمرّد عليه، مكرّسًا بذلك ذات العلاقة التي بناها صالح، ولكن بثوب طائفي أكثر رجعية وقمعية، وولاء خارجي أكثر وضوحًا لإيران صوّر الحوثي نفسه كقائد مقاومة، لكنه لم يكن إلا واجهة لتحويل اليمن إلى ساحة حرب إقليمية، يدفع فيها أبناء القبائل الثمن، ويعيش الوطنيون المدنيون بصمت موجع بلا حقوق وحياة آمنة، بينما أبناء القادة والمقربين ينعمون بالأمان والمناصب.
في هذا السياق، تحوّلت القبيلة إلى ضحية مزدوجة، أي استُغلت من النظام السابق كرافعة للسلطة، وتُستغل اليوم من جماعة الحوثي كوقود للحرب. كثير من مشايخها انخرطوا في هذا التوظيف، لا من موقع الدفاع عن المجتمع أو القيم أو بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، بل لحساب الامتيازات والمكاسب الشخصية. هكذا كرّست القبيلة بنية غير عادلة داخل الدولة، عززت الفساد والمحسوبية، وفرضت أعرافًا فوق القانون، وجعلت القضاء رهينة لتحكيم المشايخ.
ورغم هذا الواقع المأزوم، لا يمكن إنكار أن بعض الزعامات القبلية لعبت أدوارًا إيجابية في فترات محددة، خصوصًا في فض النزاعات المجتمعية في ظل قضاء ضعيف. لكن الخطر يكمن حين تتحول هذه الأدوار إلى سلطة موازية، تصنع القانون ولا تلتزم به، وتفرض سيطرتها على مؤسسات الدولة. هذه الازدواجية عطّلت بناء دولة المواطنة، وجعلت من اليمن بلدًا يعيش في ظلال قانون غير مكتوب، تحكمه الترضيات والصفقات، لا العدالة.
إن انهيار الدولة اليمنية ليس وليد الحرب فقط، بل نتيجة تراكمات طويلة من تحويل الولاء من المؤسسة إلى الفرد، ومن القانون إلى العرف، ومن الانتماء للوطن إلى التبعية للمركز. والقبيلة التي لم تُحتوَ في مشروع وطني جامع، وظلّت تُستثمر كأداة سلطة، كانت ومازالت أحد أبرز العوائق أمام التحول الديمقراطي. ما لم تُفكّك العلاقة الزبائنية بين السلطة والقبيلة، وتُدمج الزعامات القبلية ضمن إطار الدولة لا فوقها، فإن اليمن سيظل يدور في حلقة مفرغة من النزاعات، وستبقى شعارات الجمهورية والتحرير بلا مضمون، يتلاعب بها أمراء الحرب ومشايخ المصالح، بينما الوطن ينهار، وأبناؤه يُستنزفون في ولاءات لا تنتمي لمستقبلهم.

الكلمات الدلالية