عن الموت بكرامة: رحلة عاطف مع الموت وصلاة جنازة عبر الزووم(1)
كأنها تتعمّد فعل ذلك.
تلك الصورة.
تقفز من حافة شاشة كمبيوتري بين الحين والآخر، لتذكّرني.
هل تذكرينه؟
هل نسيتيه؟
وأنا أنظر إليها وأشعر بالوخزة ذاتها. ذلك الوجع الحزين ينقر في روحي، فأشيح بوجهي.
ليس الآن. لم يحن الوقت بعد.
لكنها تصرّ.
تقفز من حافة الشاشة، تحدّق فيّ بإلحاح:
"متى إذن؟".
"لا أعرف"، أردد في نفسي،
"ربما حين يكفّ الصراخ من حولنا؟".
فأنا لم أنسَ. كيف أنساه؟
لكن موته جاء في منتصف سبتمبر 2023،
وعندما أصبحت قادرة على الكتابة عمّا حدث، وقعت مجزرة السابع من أكتوبر 2023.
فحلّ الصمت.
واليوم، بعد عامين وشهرٍ تحديدًا، عدتُ إلى ملفّ عاطف: إلى المراسلات، إلى أحاديثنا عبر الزووم المسجلة، إلى صورته الأخيرة على ظهر شاحنة صغيرة، متدثّرًا ببطانية سميكة، ووجهه مشع بابتسامة هادئة، وحوله أصدقاؤه.
السيارة تقف في الخلاء، في مزرعة شاسعة وسط طبيعة سبتمبرية خلابة؛
ثم إلى مراسيم وداعه الروحية، صلاة الجنازة عليه، ولحظاته الأخيرة تحت شجرة الصفصاف...
في كولورادو، الولايات المتحدة.
وأنا معه من هنا، من برن في سويسرا، أتابعه عبر الزووم، أرتدي حلّتي الخضراء، ثم أقيم صلاة الجنازة عليه بالإنجليزية، وأخته وأصدقاؤه من حوله.
واليوم، بعد عامين وشهر،
اليوم حان وقت الحديث عن عاطف.
_______
كانت البداية رسالة عبر «الماسنجر» من أستاذتي الجامعية، كنتُ طالبة ماجستير لديها في الجامعة الأمريكية في واشنطن دي سي:
"إلهام العزيزة،
آمل أن تكوني بخير وفي سلام. أعلم أن طلبي هذا غير مألوف بعض الشيء، وربما لا يكون من السهل تلبيته، لكنني رغبت رغم ذلك في مشاركته معك.
لديّ صديق في مدينة بولدر بولاية كولورادو، وله صديق مسلم اسمه عاطف يُعاني من مرض التصلّب الجانبي الضموري (ALS)، المعروف أيضًا باسم مرض لو غيريغ. هذا المرض، كما تعلمين، قاسٍ جدًا ولا علاج له. عاطف الآن في مرحلة متقدمة من المرض، وقد قرر أن يلجأ إلى الدواء الذي يتيح له، بطريقة قانونية، أن يُنهي معاناته ضمن قانون المساعدة الطبية على الموت في الولاية.
قبل أن يُقدم على هذه الخطوة، يتمنى أن يحظى بمرافقة دينية ودعم روحي من إمام، شخص يمكنه أن يدعو له ويمنحه نوعًا من الطمأنينة الداخلية، وأن يُظهر لعائلته أن قراره لا يتعارض مع روح إيمانه بالله.
لكنه يواجه صعوبة في العثور على من يقوم بذلك، إذ إن كثيرًا من الأئمة لا يؤيدون المساعدة الطبية على الموت.
صديقنا جو وعدد من الأصدقاء الآخرين يرافقونه ويدعمونه في بولدر، لكنهم لم ينجحوا في إيجاد من يُقدّم له هذا الدعم الروحي. تواصلنا مع بعض أصدقائنا من المتصوفة أيضًا، لكن دون نتيجة، كما أن عدد المسلمين في ولاية نيومكسيكو قليل جدًا.
أعلم أن هذا طلب حساس وغير مألوف، لكنني تساءلت إن كنتِ أنتِ أو أحد زملائك قد تكونون مستعدين لتقديم مرافقة دينية ودعم روحي له، ربما عبر لقاء على «زووم». فهو في وضع صعب جدًا، وكل ما يرجوه في هذه المرحلة هو راحة الروح والسكينة.
آمل ألا يبدو طلبي غريبًا، لكنني أعرف أنك قدتِ صلوات وعقدتِ زيجات ورافقتِ الناس في لحظات مهمة من حياتهم، ولهذا فكرت فورًا فيك".
______
لم أتردد.
أجبتها في اليوم نفسه، الثاني من يونيو 2023، وقلتُ إنني لا أمانع القيام بذلك، لكنني لست متأكدة من أن عائلته ستقتنع بسبب جنسي.
لم يكن ذلك عائقًا.
وعاطف طلب لقائي عبر الزووم.
______
هل فكّرتم يومًا في الموت الرحيم؟
التعبير المستخدم هو «المساعدة الطبية على الموت».
هل فكّرتنَّ يومًا في ما يعنيه؟
لدينا هنا في سويسرا برنامج يُسمّى Exit، أي «الخروج».
وهو برنامج قانوني يوفّر إمكانية المساعدة الطبية على الموت لمن يعانون أمراضًا لا علاج لها.
وهناك شروط صارمة كي يتمكّن الشخص من الحصول على هذه المساعدة، أهمها الأهلية العقلية.
وفي ولاية كولورادو، حيث كان عاطف يقيم، أُقِرّ عام 2016 قانون خيارات نهاية الحياة، الذي يتيح للمرضى المصابين بأمراض لا شفاء منها أن يطلبوا مرافقة طبية لاختيار موتٍ رحيم، ضمن شروط قانونية دقيقة.
يهدف هذا القانون إلى صون كرامة الإنسان في لحظاته الأخيرة، ومنحه الحق في أن يختار نهاية هادئة لمعاناته، دون أن يُجبر على حياةٍ باتت مجرّد امتدادٍ للألم.
يشترط القانون أن يكون المريض بالغًا، مقيمًا في كولورادو، ومصابًا بمرض مميت يتوقّع الأطباء أن يؤدي إلى وفاته خلال ستة أشهر. كما يُلزم الأطباء بالتأكد من أن القرار صُنع عن وعيٍ تامّ وإرادة حرّة، بعد إطلاع المريض على كل البدائل الممكنة.
ويُفرّق القانون بين ما يسمّيه «المساعدة الطبية على الموت»، حيث يتناول المريض بنفسه الدواء الموصوف لإنهاء حياته، وبين القتل الرحيم الذي يظل محظورًا لأن الطبيب هو من يباشره مباشرة.
كما ينصّ على أن الوفاة تُسجَّل باعتبارها نتيجة للمرض الأصلي، لا للدواء، احترامًا لفكرة أن المريض لم ينتحر، بل اختار راحة الجسد والروح بعد صراعٍ طويل مع الألم.
فالموت حتمي بسبب مرضه خلال ستة أشهر. كيف يموت؟ هو السؤال.
وأكمل الحديث في المقال القادم.