صنعاء 19C امطار خفيفة

"WIR SIND"

الـ"نحن" في مواجهة الخراب

الـ"نحن" في مواجهة الخراب

"كم أشتاق لدميتي ميشيل، لم نكن نلعب معًا فحسب، لقد كانت تنام بجانبي"... إيفان طفل أوكرايني في العاشرة من عمره.

**
مرة أخرى، وعلى أطلال ساحة كابيلبلاتز، بدارمشتات -ألمانيا، صغنا ومجموعة من الزملاء والزميلات مشاهد مسرحية بعنوان "من نحن؟!"، وفق تدريب أساتذة -مخرجين، فنحن لسنا ممثلين، لكنا فنانين بأرواحنا، بأوجاعنا، معلومين بخرائط الشتات ووشوشة الذكريات، وتفاصيل صغيرة تسكننا، كل هذا يجمعنا برغم فارق الثقافات والأعمار والأجناس.
قادمون من أوطان مختلفة تعلمها الحرب والخراب والنزوح القسري والفرار والبحث عن وطن جديد!
صورة رمزية(منصات التواصل)
في ظل أزمتنا الوجودية بعد عناء الرحيل القسري، وجدنا وطنًا! كان ملاذًا ومنقذًا لنا، بيتًا نكنن تحت سقفه ونتكئ عليه، يربت على فواجعنا.
لكن، هل بالفعل تحررنا من ذاكرة ذاك الوجع الكبير؟ أيام النار، والحقائب التي تقينا من الرصاص والشظايا، والخطى المتعثرة كما روتها حكايات الناجين على مسرح الكابيلبلاتز؟
هل بدأنا حياة جديدة تليق بمعنى إنسان جديد في طن جديد، اسمه ألمانيا؟ أم أننا مازلنا عالقين بقوة في تلابيب ذلك الوطن -البيت، نكتبه وتسترسل كل ساعة ذواكرنا المرهقة؟!
في حضرة أطلال الفجيعة وذاكرة الحروب الدامية (الحرب العالمية الثانية)، حروب العالم الجديد -القديم، المدوية في مكان، نحن نسرد بضع لحظات -تجاربنا- نناجي بأحرفها الوجوه الغائبة/ الحاضرة، تتكرر فينا وفي تفاصيلنا الدقيقة، التي لا تنفك تلتصق بنا وتقتات على أرواحنا وذاكرتنا!
حكايات مختصرة، لكن كل كلمة مجلد: الحقيبة، الكتاب، الكاميرا، الآلة الموسيقية، الرقصة، القصيدة، ألبوم صور، الخريطة، القلادة، الملعقة، الدمية ميشيل، قطعة حلوى، ووو.
تتواصل الحكاية، سرد التفاصيل الصغيرة: في عجلة من أمرنا نجونا بها، منا من فقدها، كما حدث لـ"ميشيل" دمية إيفان، لكنها ترسم المشترك في الوطن الجديد: ألمانيا، حيث التعايش والسلام.
كيف نصنع من هذه التفاصيل فنًا: مسرحًا، موسيقى، رقصة تانجو، خرائط أحلام، تصنعنا من جديد، برغم عبثية الحروب، و99 لوفت بالون (Luftballons) الأغنية الشهيرة (1983) التي طافت بنا وجعلتنا نتذكر: بأسى وسخرية، وسؤال مكرور يندلع عقب كل انفجار، لماذا كل هذا العبث؟!
من نحن؟!
فاضت الألسن وقبلها أرواحنا بشهادات واعترافات حكايات بأسطر مختزلة، لكنها مثقلة بالكثير بزوايا المرئي واللامرئي.
تدريبات العرض المسرحي
قصيدة ونجوى: اسمها ديانا
تقول "ديانا" القادمة من أوكرانيا، والمقيمة في ألمانيا منذ ثلاث سنوات، قاومت هلعها وسط نيران الحرب، بكتاب صغير وقصائد الأيقونة "لينا كوستينكو"، تصف هروبها من ذلك الجحيم الذي تلظى بها وطنها، قائلة: "تركت كل شيء، ظللت أقرأ قصيدتها وأنا أهرب وأبحث عن النجاة من خطوط النيران، دلفت القطار، وصوت المدافع يصم كل شيء، تتداخل معه أصوات الأطفال الهلعين وبكاؤهم الأليم، كنتُ أقرأ القصيدة من الكتاب الصغير:
يا حبي لا تدعني أضع في التوافه
ولا تساوم عند مفترق الطرق
يا حبي ها أنا أمامك
خذني إلى أحلامك المباركة
لا تخدعني ولا تقص أجنحتي
تردد هذا المقطع في القصيدة: لا تقص أجنحتي.
حكاية ديانا لا تقل ألمًا عن سيرة الأجداد الذين اكتووا بهوائل الحروب والنزوح والفقد، كما تقول.

إيفان والدمية ميشيل

حكاية إيفان ذي العاشرة من عمره، لا تقل وجعًا عن حكاية ديانا، يقول: "أهدتني أمي عند ولادتي دمية كبيرة اسمها "ميشيل"، لم أكن ألعب معها فقط، بل تنام بجانبي.
اندلعت الحرب ونحن نرتب الأشياء على عجلة، أخذنا أشياء صغيرة، ولم أستطع أخذ دميتي لكبر حجمها، يواصل إيفان: كان عندي إيمان أكيد بأننا سنرجع قريبًا إلى بيتنا وألعب مع ميشيل! قضينا شهرًا كاملًا في ملجأ تحت الأرض، وحتى أواسي نفسي وأهرب من الأفكار السوداء وقلق الحرب، وغياب دميتي، كنت ألعب مع أطفال الملجأ، نجري ونتناول الحلوى، أريد أن أهرب من قلق الحرب وأهوالها السوداء، وأيضًا التفكير بميشيل، وأمني نفسي، بالتأكيد أنها تنتظرني لنلعب معًا في بيتنا.
لكنا لم نعد إلى بيتنا في ماريوبول، هربنا إلى ألمانيا، إني أفتقد ميشيل دائمًا، ومازلت أحلم أن ألعب معها.
ذات يوم، فاجأتني أمي بدمية، كانت أصغر من ميشيل التي تركناها.
قالت أمي: أعرف أنها أصغر بكثير من ميشيل، لكنها تشبهها، إنها ابنة ميشيل يا إيفان. وتواصل أمي حديثها بأمل كبير: سنرجع إلى ميشيل وبيتنا يا إيفان"!
سيرجي: فقدتُ ثلاثة أوطان
وماذا عن سيرجي الذي فقد ثلاثة أوطان، يقول:
ولدت في أذربيجان، لتندلع الحرب مع أرمينيا.
هربنا إلى روسيا حيث نشأت وترعرعت ودرست فيها وعملت فيها أيضًا، وغادرتها إلى أوكرانيا، فلقد أحببت فتاة أوكرانية وتزوجنا، وعشنا معًا في روسيا.
في الحرب الروسية الأولى على أوكرانيا، لم نستطع أن نبقى في روسيا، اتخذنا موقفًا، وغادرنا إلى أوكرانيا، وعشنا حياة سعيدة، في مدينة كييف الساحرة.
والوطن الثالث الذي غادرناه، كان أثناء الاجتياح الروسي لأوكرانيا 2022، الذي دمرها وعاث فيها خرابًا وحشيًا، حتى غدت كييف التي أعيش فيها وزوجتي خاوية من سكانها، لم نصدق ما يحدث أمام هول الكارثة والخراب، وكأن كائنات زومبية فتكت بكل شيء، وغدا ذلك الجمال صمتًا وركامًا.
ويواصل: أنقذتنا من ذلك الجحيم الجالية اليهودية، فقد ساعدوا الجميع، ولولاهم ربما لم نكن لننجو. مع العجلة والخوف، كل شيء تم بسرعة، أخذنا فقط بطاقات هوياتنا، ولابتوب، وملعقة، وقطًا فهو جزء من العائلة. لم نعرف أين وجهتنا؟ وكم سنبقى؟ وأملًا بأننا سنرجع في ظرف أسابيع.
استمرت رحلتنا إلى ألمانيا أسبوعًا، وصلنا، بعد أن تركنا خلفنا بيتنا وكل شيء، عدا الملعقة المعدنية ذات الخدوش، رمز طفولتي الحانية وأمي وبيتنا، حيث كان الفرح بالأشياء البسيطة، أيضًا، أختي التي هاجرت إلى أمريكا معها ملعقة من نفس النوع، ملعقتانا، هما رباطنا الحميمي في هذا العالم.
يختتم سيرجي، حكاية وجعه: أريد أن أعيش بسلام.. إنه أبسط مطلب بعد فقدان 3 أوطان، 3 بيوت، ووو... الخ.
كاترينا: أكثر من موت، كيف ننجو؟
عنونت الراوية حكايتها، بـ"طريق الحياة"، وقالت: لم أختر العنوان عبثًا، لكن ستعرفون لماذا!
أنا أم إيفان، في 17/3/2022 جاء والدي إلى الملجأ، قائلًا: معنا سيارة معبأة بالوقود، ومعكم 20 دقيقة لنرحل. كان معي طفلي ووالداي وخنزير غينيا الأليف.
وسط النيران والمدافع والدبابات المتناثرة، والدمار والطرقات المقطوعة، والشتاء القارس، ووسط الدعاء فررنا بالسيارة التي قادها سائق أوصلنا إلى خارج مدينتنا بـ99كم من مدينتي، وبعدها كان عليّ أن أقود السيارة، أنا التي ليست لدي خبرة في القيادة لمسافات بعيدة وسط النيران.
قدت السيارة ونحن ندعو الله السلامة، كانت السيارة مكتظة بعائلتي، ومعلمة ابني وزوجها، لتستمر الرحلة من بيرديانسك إلى زابوريجيا يومين، مع المبيت في توكماك.
الكابيلبلاتز- درامشتات
بالرغم من عدم خبرتي، أي أن الفجيعة والنيران المضطرمة جعلتني أقود السيارة، حذائي الشتوي الغليظ وأقدامي المتجمدة، تجعلني أدوس على المكابح بصعوبة، وبقوة الخوف لنواصل المشوار، وننجو من مصير الضحايا السابقين، دست على المكابح، وعيني على طفلي الصغير الباكي والذي فقد دميته ميشيل، ولا يعرف ما الذي يحدث؟
وفي الوقت نفسه، كانت تحدثني نفسي أن أتوقف، لكني لم أستطع بالنظر إلى شدة القصف وكثافة النيران أن أستمر في القيادة. وصوت زوجي على الهاتف، يشجعني، لا تتوقفي، واصلي. كانت أمي تصلي بصمت، وتساعدني بمسك مقابض اليد، أما والدي مهمته تغيير السرعة، وسؤالي اللجوج، عن رقم السرعة التي أقود بها. لقد بلغ 100 كم في الساعة.. يا إلهي!
أما في اليوم التالي، فقد خلعت حذائي الشتوي، ولامست قدماي على الفرامل، وخلقت من ضعفي قوة، يجب أن نصل مهما كانت الظروف، أتصدقون أني تعلمت القيادة إلى الخلف! حتى إني تجاوزت شاحنة تحمل دبابة روسية كانت فوهة مدفعها على واجهة سيارتنا، ارتعبنا واتخذنا طرقًا بعيدة، وسط النيران والسيارات المدمرة على جانبي الطريق. في لحظة أخرى كدت أفقد الوعي والسيارة تسير بمحاذاة لغم مضاد للدبابات، لا ندري، كيف نجونا، من غادر الآخر، كل ما وعيته، أننا تركنا السيارة للجنود الأوكرانيين في زابورجيا، ومضينا في اتجاه الحافلات والقطارات. حتى وصلنا إلى ألمانيا في 25/3/2022.
اليوم، أنا أعيش في ألمانيا، وتفاجئنا كاترينا، بأنها أخذت رخصة القيادة قبل ثلاثة أيام من العرض المسرحي الأخير، الذي كان في 2/7/2025، تواصل الحكي،: أتعرفون، لقد فشلت ثلاث مرات في امتحان القيادة، ونجحت في المحاولة الرابعة. والآن، هل أدركتم، لماذا سميت حكايتي "طريق الحياة"، لأني: هنا اليوم بينكم جسدًا وروحًا "WIR SIND".
**
أوطان نجعتنا كما تنجع بلغمًا يخنقك، في غمضة عين فقدنا كل شيء إلا من تفاصيل صغيرة ظلت جرسًا يدق أوتار القلب والقلق معًا، حنين ومشاعر متناقضة، ذكريات تتناهبك أرضًا وسماءً، هي خارطة المنفيين في كل آن، ضمنتها الشهادات الأربع الأوكرانية، من دمية ميشيل، إلى كتاب دينا، وخنزير غينيا، كلها: الـ"نحن" لأكثر من هوية، في مسرح مفتوح لمن مروا، ومن تذكرتهم الأطلال، كلها تؤشر متأملة جدارية السلام، مصحوبة بآهة وجع وافتقاد، وأمل: ألا يتكرر هذا الاستقتال بالإنسان جسدًا وروحًا، جسدته المسرحية، بروح حكمة التفلسف: "من المختلف يخلق أجمل ائتلاف"، من هذه الأشياء الصغيرة نتذكر أوطاننا، في وطننا الجديد: ألمانيا، كانت قصصنا مشاهدة بالمحكي والموسيقى والأطلال، والتذكر، ورقصة التانجو، كل سكب أناه في تلك التفاصيل المحكية.
باختصار، من نحن؟
نحن الذين نجونا، وتلقفنا وطن جديد لبداية جديدة.. نحن لا نعترف بالنهايات..
هيا: لنعلِ صوت الموسيقى!
**
شكرًا: للمخرجين: ماكس أوجنفيلد، ناديا سوكوب، كريستوفر دانيلز.
شكرًا: منظمة Paso لدعمها للاجئين والفنون، وللزملاء والزميلات الذين سمحوا لي بنشر حكاياتهم، شكرًا لكل من يسهم في تعزيز قيم السلام والتنوع والتعايش.

الكلمات الدلالية