صنعاء 19C امطار خفيفة

بين الصفعة والخديعة الكبرى يكمن السر!

في التراث الشعبي اليمني، تروى حكاية طريفة تحمل دلالات عميقة عن الخداع المقنع برداء الكرم. يقال إن تاجرًا مرّ بمنطقة قبيلة "مراد"، وكان يحمل صرة من الذهب. شاهده أحد أبناء القبيلة، وسأله عن وجهته، فأجابه بأنه في طريقه إلى الربع الخالي، فحذره القبيلي من الرياح العاتية التي تضلّل الطريق، وعرض عليه الضيافة شهرًا كاملًا حتى يمر موسم الرياح ليجنّبه الهلاك، على أن يرشده بعدها إلى الطريق الآمن.

قبل التاجر الضيافة، ولما حاول رد الجميل ببعض قطع الذهب، رفض القبيلي قبولها قائلًا: "يا عيباه! أتريد أن تهينني أمام القبيلة بأنني استضفتك مقابل حفنة من الذهب، يا عيباه!". لكن مع نهاية الشهر، أصرّ التاجر أن يرد الجميل، فطلب منه القبيلي طلبًا غريبًا: أن يعلن أمام القبائل في سوق الربوع بأنه استضافه شهرًا وأكرمه دون مقابل، ثم يصفعه صفعة مدوية أمامهم. ورغم استغراب التاجر، وافق بعدما أقسم ألا يرد له طلبًا.
وفي اليوم الموعود، وقف التاجر في السوق وصرخ بأسماء القبائل ليجتمعوا، ثم قال هذا صاحبكم فلان بن فلان أكرمني واستضافني في بيته طيلة شهر كامل، وصفع القبيلي صفعة قوية أسقطته أرضًا. فما كان من القبيلي إلا أن نهض غاضبًا وطعن التاجر طعنة قاتلة، وسلب ونهب كل ما مع التاجر من ذهب وأغراض، مدعيًا أمام القبائل أنه انتقم لكرامته من غدر الضيف، بينما لو كان سرق التاجر الضيف فسوف تهينه القبيلة، بل ربما يتبرؤون منه.
هذه القصة، التي كررتها في أكثر من مناسبة منذ 7 أكتوبر، وقلت إنها تذكّرني بما فعلته إسرائيل بحماس في طوفان الأقصى. فكما وصف القذافي اجتياح صدام للكويت بأنه قدّم العراق والمنطقة على طبق من ذهب للغرب، فقلت يبدو أن "حماس" فعلت ما هو أخطر، فقد قدمت نفسها، وغزة، بل ومحور المقاومة كله، لإسرائيل، في طبق من ذهب.

الفخ.. والانكشاف!

أثبتت الأيام أن إسرائيل كانت جاهزة تمامًا بخططها الاستخباراتية التي اخترقت كلًا من سوريا ولبنان وإيران، وبالأحرى أنها اخترقت حماس نفسها، لتقوم بتلك العملية بحجم "طوفان الأقصى"، بل ضخمت عدد القتلى، حيث أثبتت الأيام أنها قامت بقصف تجمع يهودي بطائرة هيلوكوبتر، وما أعقب طوفان الأقصى من دمار شامل وجرائم ضد الإنسانية، ليدل على أن إسرائيل كانت تبحث عن ذريعة فقط كذريعة ذلك البدوي. وقد قامت بتهويل حدث 7 أكتوبر لتعطي لنفسها مبررًا أكبر أمام العالم للرد العنيف.
وكما تشير الأحداث -كما أسلفنا- إلى أن إسرائيل نجحت في اختراق عمق محور المقاومة.. سوريا، إيران، حزب الله، وبالأحرى أنها اخترقت حماس، فجرجرتها لذلك الفعل البطولي، واستطاعت حماس أن تحقق هدفها الأساسي من الطوفان، وهو أسر جنود لمبادلتهم بـ6000 سجين فلسطيني داخل السجون الإسرائيلية، فعلت ذلك، وأمامها تجارب ناجحة من صفقات التبادل عبر التاريخ غالبًا ما كانت لصالح الفلسطينيين، من "صفقة شاليط" التي عاد فيها 1227 أسيرًا مقابل جندي إسرائيلي واحد، إلى "صفقة أحمد جبريل" التي أعادت نفس العدد مقابل ثلاثة جنود فقط. لكن ما يجري اليوم مختلف، ومأساة إنسانية مروعة.
فحماس اليوم بعد كل صفقات التبادل الفاشلة التي عقدتها من بعد 7 أكتوبر، يتبين أنها في الأخير رهنت مصير غزة بمصير 24 أسيرًا، منهم 20 جثة، بينما التقارير تشير إلى أن أكثر من ألف شهيد فلسطيني جلهم من الأطفال والنساء، قد استشهدوا خلال الشهرين الماضيين فقط، وأن أكثر من 900 ألف مهددون بالموت بسبب الجوع، وانعدام العلاج، وغياب المأوى. فهل يستحق هؤلاء النفر من الأسرى كل هذه التضحيات وكل هذا الدمار؟

التكلفة البشرية والسياسية

منذ 7 أكتوبر وحتى الآن، قُتل عشرات الآلاف من المدنيين، وهُدمت أكثر من 250 ألف وحدة سكنية، وتم تدمير البنية التحتية والمستشفيات، بل جرى تجريف البشر والحجر والشجر. ورغم ذلك، لم تحقق حماس صفقة واحدة، بل استمرت في إطالة الأزمة، التي أثبتت الأيام أن إسرائيل تراهن على إطالتها أكثر لتستمر في القتل والدمار اليومي، وتطفيش السكان، فإطالة الوقت تحقق أهداف الكيان الغاصب في التوسع، بينما حماس تظهر كأنما لو أن الحفاظ على الأسرى بات هدفًا بحد ذاته!
إسرائيل، في المقابل، تستخدم هذه الورقة لتبرير ارتكاب المزيد من المجازر، والتوسع في الضفة الغربية، بل وتمهيد الطريق لضم أجزاء من سوريا ولبنان تحت ذريعة حماية "أمنها القومي".

النداء الأخير

في مقال لكاتب هذه السطور نُشر بتاريخ 22 يوليو 2025، تحت عنوان "نداء من أعماق الجرح.. أفرجوا عن الأسرى لوقف انهيار ما تبقى من غزة"، قلت إن التمسك بمن تبقى من الأسرى يخدم إسرائيل لا غير. وها أنا أكررها اليوم: لقد آن الأوان لحماس أن تلغي على إسرائيل هذا المبرر القاتل.
لو كان الأمر يصب في صالح القضية، لقلنا لهم استمروا. لكن ما نشهده الآن هو دمار شامل، وانهيار لمشروع المقاومة من الداخل، وتسليم مفتاح المنطقة بالكامل لإسرائيل ومشروعها الخبيث المسمى "الشرق الأوسط الجديد".
إن إطلاق الأسرى المتبقين -أو الإعلان عن مصيرهم بوضوح- قد يزيل الذريعة التي تتشبث بها إسرائيل، ويمنح الشعب الفلسطيني فرصة لالتقاط أنفاسه من تحت الركام.
فهل تفعلها "حماس" قبل فوات الأوان؟

الكلمات الدلالية