في ذكرى ثورة يوليو ١٩٥٢: الناصرية في زمن مختلف
نعي جميعًا أن الزمن الحالي ليس زمن الثورات والانقلابات لتغيير أوضاع غير مقبولة سياسيًا واجتماعيًا وإنسانيًا، لأن أحدًا لم يعد يراهن على نظام إنقاذ يقوده العسكر بعد تجارب عربية مريرة في أكثر من جمهورية عربية تحولت إلى جمهوريات وراثية فاسدة ومفسدة، ولأن حكم العسكر ورديفه الحزب الواحد لم يعد يناسب متطلبات العصر ومتغيراته وتحدياته.
وفي السياق يستثنى نظام عبدالناصر (1952- 1970) الذي تطور تطورًا إيجابيًا كبيرًا، ولم تكن نهاياته كبداياته. طورت التجربة فكر عبدالناصر لتحقيق العدالة الاجتماعية، وعمقت التزامه بمصالح الأغلبية الساحقة من فقراء مصر من فلاحين وعمال وطبقات فقيرة.
لقد كانت نسبة 40% من المصريين حفاة قبل الثورة، ومرض البلهارسيا كان قاتلًا، وكان الفلاح يعامل من قبل الإقطاعي كقن.
هل لاتزال تجربة عبدالناصر صالحة اليوم؟ الإجابة بنعم إذا كان هدف التنمية هو تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن لا يجب إغفال تزامن التنمية الوثيق مع الديمقراطية بكل مضامينها من تعددية حزبية وحريات سياسية وإعلامية ونقابية وتمثيل نيابي للشعب مستقل وغير مشوه.
الأحزاب اليمنية والعربية قومية ويسارية عليها أن تغادر سلفيتها الفكرية التي لاتزال تقدسها وتتبنى أفكارًا أو أيديولويات تتناسب مع حاجات الناس الفعلية اليومية وقابلة للتطبيق والتطوير، وأستثني أحزاب الماضي والغيبوبة من هذا الطلب.
إن الاتحاد الاشتراكي والميثاق الوطني في مصر اللذين أراد بهما عبدالناصر حل المشكلة الطبقية سلميًا بدون عنف أو صراع دموي، لم يعودا صالحين كلية اليوم، وعبدالناصر نفسه طور الميثاق ببيان 30 مارس 1968، وعلى الناصريين بالخصوص وعي هذه الجزئية، واستنباط أو تبني فكر محلي، أي قطري، جديد مرجعيته ناصرية، وجوهره العدالة الاجتماعية والتعددية السياسية والعداء للصهيونية والاستعمار.
عبدالناصر وفكره لم يموتا، وهما تراث يحتذى به بدون تقديس. وفكره الاشتراكي والعدالة الاجتماعية ومنع استغلال رأس المال المحلي التابع للأجنبي، يصلح كجدول أعمال لليوم وللغد. ومن البديهي أن التنمية لن تتم إذا ظللنا تحت مطرقة التفاوض مع صندوق الإفقار الدولي الذي يعادي التنمية الحقيقية القائمة على الاستقلال الاقتصادي الذي تبناه عبدالناصر وحورب للحيلولة دون تحقيقه، وعلى التصنيع بكل أنواعه، وليس الرهان على القوة الناعمة وعلى العدالة الاجتماعية والتعليم الذي تكفل الدولة جودته ومجانيته. الصندوق يعمل وفق مخطط تقوده واشنطن لاستمرار الاختلالات الاجتماعية وديمومة الفقر وبناء اقتصاد هش تهيمن عليه أقلية ستكون وفق مصالحها بالضروة تابعة لاقتصادات وعواصم أجنبية، وإليها تهرب أموالها، وقد منحها الصندوق هذه الحرية التي تعد جزءًا من إصلاحاته المعادية للتنمية الحقيقية، وللأسف قبلتها كل الدول.
عبدالناصر أحدث حراكًا اجتماعيًا في مصر، وتقدمًا اقتصاديًا لم تشهدهما أية دولة عربية، لذلك تكالبت عليه إسرائيل وبريطانيا وأمريكا لتقويض تجربته بشن عدوان 1967، لأن هذه الدول الثلاث لا تريد حتى اليوم أن تتقدم أية دولة عربية على الكيان الصهيوني. ولقد أثر العدوان على مصر تأثيرًا كبيرًا، وأوقف التصنيع العسكري والبرنامج النووي، وغير أولويات مصر بتخصيصها بعض تكاليف التنمية إلى العمل على محو آثار العدوان وتحرير الأرض، مع عدم التفريط بالقضية الفلسطينية.