من نيويورك إلى حصار السبعين..
عزيزة عبدالله تسرد وقائع ميلاد الجمهورية وتصدع صفوف الثوار (الحلقة 3)

في الحلقة الثالثة من مذكراتها، تتحدث عزيزة عبد الله، زوجة السياسي اليمني البارز محسن العيني، عن لحظات فارقة من عمر الثورة اليمنية، تبدأ بأنباء موت الإمام أحمد وإعلان قيام الجمهورية في سبتمبر 1962، مرورًا بتعيين زوجها وزيرًا للخارجية، وصولًا إلى لحظة اعتراف الأمم المتحدة رسميًا بـ"الجمهورية العربية اليمنية" بدلًا من المملكة المتوكلية.
وفي حوارها مع الزميلة رحمة حجيرة، تحكي الأستاذة عزيزة عن تلك اللحظات التي كانت فيها جزءًا من البعثة اليمنية في نيويورك، وتصف نشوتها وهي ترى العالم يقر بيمنٍ جديد، وتنتقل بنا إلى أول فعالية دبلوماسية شاركت في تنظيمها، بعد أن تعلّمت قواعد البروتوكول والإتيكيت، بمساعدة سيدات عربيات وأمريكيات وقفن إلى جانبها.
كما تتطرق إلى الأحداث التي تلت اغتيال الشهيد محمد محمود الزبيري عام 1965، والأدوار التي اضطلع بها العيني عقب عودته إلى اليمن وتولّيه رئاسة الحكومة، قبل أن يعود مجددًا إلى المنفى مع تصاعد التوترات السياسية، وما شهده اليمن بعد ذلك من اضطرابات أمنية، وصولًا إلى حصار السبعين، وخلافات رفاق الجمهورية فيما بينهم، وحروبهم مجتمعين ضد الملكيين.
وفي أجواء منفى خانقة، تكشف عزيزة عبدالله عن رحلاتها المتلاحقة من واشنطن إلى بيروت، ثم دمشق، حيث التحقت هناك باتحاد النساء السوريات، ومن خلاله شاركت في الدفاع المدني السوري إبان حرب حزيران 1967، لتصبح شاهدة عيان على المأساة، ومساهمة في نقل الجرحى من جبهة الجولان إلى مستشفيات دمشق.
حلقة نابضة بالحياة، تتقاطع فيها الثورة بالأمومة، والمنفى بالنضال، والوطن بالشتات، لتصوغ لنا شهادة نادرة لامرأة يمنية شاركت في صناعة التاريخ من قلب الحدث.
"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.
رحمة: أهلًا وسهلًا بكم. لا تزال حكاية الأديبة عزيزة عبدالله في بدايتها، "عاد المراحل طوال". فكلما دخلنا صفحة جديدة من سيرتها، ظهرت لنا تفاصيل مثيرة ومعلومات مهمة، لا عن حياتها الشخصية فحسب، بل عن تاريخ اليمن وتحولاته.
أستاذة عزيزة، كنا قد وصلنا في الحوار السابق إلى لحظة رؤيتك الأولى للأستاذ محسن العيني، عندما دخل إلى المنزل وجلس... بعد تلك اللحظة، متى تم الزواج؟ ومتى دار بينكما أول حديث؟ نريد التفاصيل.
عزيزة: لم نتحدث مع بعضنا البعض إلا بعد الزواج.
رحمة: وكيف تصرّفتِ؟ أنتِ يتيمة الأب، ووالدتكِ لم تكن موجودة، وأنتِ في بيت ناس غرباء عنكِ نسبيًا.
عزيزة: هم كانوا يعقدون الزواج، ونحن فقط نسمعهم من بعيد.
رحمة: وماذا عن ملابسكِ؟ من تكفّل بتجهيزكِ؟ كيف كان مظهركِ؟
عزيزة: بالنسبة للبسي، أعطوني "المصر" (غطاء يُوضع على الرأس).
رحمة: وهل أعطوكِ فساتين؟ من جهّزكِ تحديدًا؟
عزيزة: زوجة أخي أعطتني الشبكة الخاصة بها، أما القماش فقد أحضرناه من عدن. كانت زوجة الأستاذ أحمد المروني هي من اختار الأقمشة. أحضرت لزوجة أخي ثلاثة أو أربعة أنواع وشرحت لها عنها، لأن كثيرًا من أهل بعدان - إب، من بيت الشائف والصايدي، كانوا يسافرون، وتغرّب كثير منهم في أمريكا، ومعظمهم من مديرية الشعر بمحافظة إب.

رحمة : كانوا يستقبلون أقمشة جديدة وجميلة إذًا؟
عزيزة: بالضبط. وكانت زوجة المروني تشرح لها عن نوعية القماش، أما أنا فلم يكن لي أي دخل في ذلك.
رحمة: لم تتدخلي بأي تفصيل؟
عزيزة: لم أتدخل في أي شيء.
رحمة: وماذا عن حفل الزفاف؟ من حضر من النساء والرجال؟ هل كان العدد كبيرًا؟
عزيزة: أولًا، حينما أخبروني أن العرس سيكون فوق سطح المنزل، انصدمت! لأن "دواوين أبي" كانت تملأ الأرض والسماء، وأنا يُقام عرسي على السطح؟!
رحمة: ألم تبكي، ولو سرًا، في يوم عرسك؟
عزيزة: لم أبكِ، لكن كانت عزيزة النعمان تعزّ عليّ كثيرًا. وكانت زوجة الشهيد محمد نعمان - رحمه الله - تقول: "ما عملتم بها! قصف عمركن". ألم تحضروا لها حتى طعامًا لتأكله؟
رحمة: هل كنتِ رشيقة ونحيفة؟
عزيزة: منتهية...
رحمة: كثر الله خيرك على كل ما مررتِ به.
عزيزة: بعد ذلك، أحضروا لي الطعام، وطلبوا مني أن أتناوله، لكني رفضت، ولم أكن أرغب فعلًا في الأكل. وكانت تجلس بجانبي زوجة علي إسماعيل الخباني. والدها كان قد تزوج بامرأة أمها فرنسية، ووالدها يمني، أحضرها والدها إلى اليمن لكي تتزوج من مسلم، فتزوجت بالخباني. جلست إلى جانبي تحاول أن تضحكني، لكنني كنت لا أزال على طبيعتي كفتاة قروية، لا تتحرك العروس عندنا، تجلس صامتة.
رحمة (معلقة): لا تضحك، لا تتكلم.
عزيزة: بالضبط.
رحمة: بعد ذلك، أخذوكِ مباشرة إلى الشقة؟
عزيزة: أخذنا تاكسي وأوصلونا إلى الشقة، وصعدت معي عمتي ناجية، وكانوا قد أحضروا "شغالة" - رحمها الله - كانت امرأة ضخمة ذات بشرة سمراء، وكنت أشعر بالخوف منها.
رحمة: وأنتِ أصلًا خائفة لوحدك، وتخافين من محسن العيني شخصيًا!
عزيزة: الشغالة كانت تطبطب على كتفي وتقول: "ما تخافيش يا حبيبتي". لكنني كنت خائفة فعلًا، لأن التيار الكهربائي كان ينقطع أحيانًا في المعادي، وكنت في شقة جميلة فيها غرفة نوم لنا، وغرفة لعمتي ناجية و(أمي رتيبة).
رحمة: هل كان الجميع يقيم معكم في نفس الشقة؟
عزيزة: الرجال وعمتي عزيزة وعمتي رقية ذهبوا. وبقينا نحن في الشقة. دخلونا "الصالون"، ثم انصرفوا. كنت أنظر في جهة واحدة فقط كي أشعر بالطمأنينة.
بعد ذلك، انتقلنا من شقة المعادي التي كانت مملوكة لأسعد راجح، وأخذنا شقة في شارع المتحف. كانت عمارة جديدة سكن وتخرج منها كثير من الطلاب. لم تكن هناك مبانٍ كثيرة حول العمارة وقتها. بقينا فيها تقريباً حتى بعد وفاة محسن، ثم سلّمناها، لأن ابني هيثم وبقية أولادي قالوا إن هذه الشقة كانت بنظام "خلو رجل"، وكنا ندفع فيها تسعة جنيهات شهريًا.
رحمة: ذكرى!
عزيزة (مازحة): من ضمنهم عبدالعزيز الكميم، سأخبره أن قيمة "الكسوة" ستكون مقابل سكنه المجاني في الشقة.

رحمة: وأنا كذلك سأتصل به.
عزيزة: كنا في الشقة، وكل شيء على ما يرام، ثم وصلت إلينا - وقد ذكرها محسن في مقابلة - تذكرة سفر من اتحاد العمال العرب، كهدية لقضاء شهر العسل.
رحمة: بعد كم من زواجكم؟
عزيزة: أظن أننا تزوجنا وكانت التذكرة موجودة مسبقًا.
رحمة: وهل ذهبتِ في رحلة شهر العسل؟
عزيزة: لا، لم أذهب! لأنه كان يُعتبر عيبًا، فالعروس في تقاليدنا لا تخرج من البيت إلا بعد سنة من الزواج.
رحمة: ألم يزعجه ذلك؟ ألم يستاء الأستاذ محسن العيني منكِ؟
عزيزة: لا، لم يغضب. وقد قال له أسعد راجح: "ده اسمه كلام؟ دي هدية!" لكنه أخبره بأنني رفضت، موضحًا أن ذلك يعود لعاداتنا، حيث لا تخرج العروس من البيت إلا بعد أن تزورها عائلتها. وكان أخي سنان قد عاد حينها إلى عدن.
رحمة: وهل تأقلمتِ مع زوجك بسرعة؟ هل تكيفتِ معه خلال أسبوع؟
عزيزة: نعم، ارتحت واطمأننت.
رحمة: وماذا عن موضوع استكمال الدراسة؟ هل ناقشته معه؟ أم أنه طرحه عليكِ؟
عزيزة: بالنسبة للدراسة، فقد أخذني الأستاذ النعمان إلى مدرسة لإجراء امتحان، لأنني كنت أقرأ الشعر، وعندما رآني قال: دعونا نأخذها إلى المدرسة لتلتحق بالصف الثاني الثانوي، لأنهم لا يقبلون الالتحاق بالصف الثالث مباشرة، بل يبدأون من الثاني.
رحمة: هذا كان قبل الزواج؟
عزيزة: نعم، قبل الزواج. وقتها ذهبت إلى مدرسة لم تكن بعيدة، كانت في الدقي، لكن حين رأيت المدرسات هناك تلعثمت، ولم أستطع أن أتكلم بكلمة. رغم أن الامتحان الذي أجري لي في البيت كان جيداً، كان في مادة الدين، ولا أذكر اسم السورة تحديدًا.
أما بالنسبة لجمال عبدالناصر، فقد كنت دائمًا أتمنى أن أراه، وعندما كنت أرى في الصور فتاة تقدّم وردًا للرئيس عبدالناصر في الفعاليات التي كان يحضرها أخي علي، كنت أتمنى أن أكون أنا تلك الفتاة.
رحمة: متى بدأتي الانخراط في نشاطه الثوري؟
عزيزة: كنت من البداية، حين كان الأستاذ محسن العيني يكتب، ومن خلال عمله في اتحاد العمال العرب، كنت أُطالع أوراقه، وأرى ما يكتبه عن يوغوسلافيا وماذا فعلوا هناك. في البداية، كنت أعتقد أن "نهاية الدنيا" هي عدن، ولا يوجد بعدها شيء، لكن عندما عشت معه، عرفت أن هناك أوروبا، ومن خلال كتابه في صفحاته الأولى، عرفت أن هناك فرنسا أيضًا.
رحمة: يبدو أن مداركك بدأت تتسع في تلك المرحلة.
عزيزة: نعم، لكنها كانت تتوسع بخجل، كنت أخشى أن أتحدث في شيء لا أفهمه جيدًا، فكنت أحتفظ بالمعلومة في رأسي فقط.
رحمة: هل سافر الأستاذ محسن العيني في مهمات أو لقاءات عمل خلال نشاطه الثوري تمهيدًا للثورة؟
عزيزة: كانوا يجتمعون في شقتنا لأنها كانت أكبر من شقة الزبيري والنعمان. نحن كان لدينا غرفتان وصالة كبيرة وسفرة، وكانوا يأتون للاجتماع هناك. سافر محسن بعد وفاة الإمام أحمد.
انطفاء الإمام وبزوغ الجمهورية
رحمة: نريد الآن أن ننتقل إلى الحديث عن ثورة 26 سبتمبر، بعد أن أنهينا الحديث عن الحب والزواج. متى وكيف عرفتِ بقيام الثورة؟
عزيزة: يمكن أن أطيل عليكِ...
رحمة: لا بأس، هذه نقطة مهمة، خذي وقتك.
عزيزة: عندما تُوفي الإمام أحمد في 19 سبتمبر 1962، كان الأستاذ الزبيري وعمتي عزيزة يتناولان الغداء عندنا. بعد الغداء، غادروا، وذهب محسن إلى عمله، ورجع الزبيري إلى بيته. بقيت أنا وعمتي عزيزة في المنزل، وكانت تعلّمني الطبخ، فقد كنت قد أعددت "رزًا معجونًا".
رحمة: لم تستطيعي طبخ الأرز؟ أم لأنه ليس أرز بسمتي؟
عزيزة: لا، كان أرزًا مصريًا، والتصق ببعضه، وكنت أتصبب عرقًا من الخجل، أفكر كيف سأقدّمه لهم! لكني في النهاية قدّمته، لأن محسن عليه الذهاب إلى العمل، والأستاذ الزبيري سيعود لمنزله.
بعد ذلك سمعت جرس الباب يُقرع، وقال أحدهم: "افتحين يا عزايز"، ففتحنا، وإذا به الأستاذ محمد محمود الزبيري، وقال لنا: "الإمام أحمد مات."

رحمة: كيف كان شعورك؟
عزيزة: قلت لنفسي: خلاص، سأعود إلى اليمن، وأرى والدتي، وألتقي إخوتي.
رحمة: وبدأتِ بتجهيز الشنطة؟
عزيزة: نعم. لكن كان محسن وقتها لديه سفرية إلى بيروت وبغداد، وذلك بعد نحو عام من انفصال الوحدة بين سوريا ومصر. حينها، كانت تُرسل وفود عربية، وغالبًا ما كان يُختار ضمنها ممثلون من الدول العربية غير المصرية، مثل اليمن وتونس والجزائر، لأن هناك نوعًا من الحساسية، وكان الجميع مكسورًا بسبب الانفصال، نسأل الله أن يحفظ وحدة اليمن.
سافر محسن، الى بغداد (كان خط رحلته يمر عبر العراق وسوريا ولبنان،) وقلت: طالما أن الإمام أحمد قد تُوفي، والبدر رجل طيب ويريد الإصلاح، فكلنا سنعود. بدأت أجهز حقيبتي، وأرتب ما سأحمله من هدايا لأبناء إخوتي الذين لا يزالون يدرسون.
وحين وصل محسن إلى بغداد، أُبلغ هناك بأنه قد تم تعيينه وزيرًا للخارجية في حكومة الثورة ليلة انطلاقها 26 سبتمبر 1962م. هذا الحديث موثق في كتبه.

في اليوم نفسه، كان جلباب الأستاذ الزبيري في المغسلة، وأنا والبنات نتسابق من الفرح: من ستذهب لاستلامه؟ لأننا كنا نعلم أنهم سيسافرون إلى اليمن.
رحمة: يبدو أن الحدث كان كبيرًا.
عزيزة: نعم. وعندما عاد محسن إلى مصر، تم استقباله رسميًا، ونُقل بسيارة الرئاسة إلى الفندق. جاء إليّ الأستاذ محمد الرعدي وقال لي: "لازم تروحي له"، فرددت عليه: "أروح فين؟ على قهوة؟!" لأني لم أكن أعرف ما هي الفنادق.
رحمة (مازحة): كنتِ ما زلتِ تتعرفين على المصعد!
عزيزة: أيوه، وبالعافية. رحت الفندق، لكنه سافر إلى اليمن وقال لي: "أنتِ لا تسافري الآن، ابقي هنا". سافر الزبيري، ومحسن يحيى جغمان، ومحمد الرعدي. أما جغمان، فكان قد قدم من الكويت ولم يكن في القاهرة. اجتمعوا جميعًا في اليمن، وبعد أسبوع عاد محسن، ليُبلّغ بأنه يجب أن يسافر إلى الأمم المتحدة في سبتمبر، وهو نفس شهر انطلاق ثورة 26 سبتمبر 1962. كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تبدأ في سبتمبر وتستمر حتى أكتوبر، أي ثلاثة أشهر تقريبًا، وذلك من أجل تثبيت مقعد اليمن، وتمثيل الدولة تحت اسم "الجمهورية العربية اليمنية" بدلًا من "المملكة المتوكلية اليمنية".
عودة مشبعة بنشوة الثورة
رحمة: ما الذي أسعدك أكثر؟ تعيينه وزيرًا للخارجية أم مندوبًا دائمًا في الأمم المتحدة؟
عزيزة: كنت سعيدة لأنني كنت سأعود إلى اليمن. وسعدت أيضا عندما تم تعيينه مندوبًا لدى الأمم المتحدة...

رحمة: هل تمكنتِ من لقاء والدتك؟
عزيزة: لا، لم أتمكن من رؤيتها. هو سافر أولًا.
رحمة: عفوًا على المقاطعة، لكن هل كانت والدتك حتى ذلك الوقت لا تعلم أنك تزوجتِ؟
عزيزة: لا، علمت. كنا قد أرسلنا لها خطابًا ورسائل.
رحمة: وهل زعلت منكِ؟
عزيزة: أخي سنان عاد بعد الثورة، وطمأنها عني، وسمعها تسجيلاً صوتيًا لي.
رحمة (مقاطعة): لأنكِ قلتِ إن عينها تأذت من كثرة بكائها عليكِ!
عزيزة: نعم، من كثرة بكائها انسدت قناة الدمع في عينها.
رحمة: دعينا نعود إلى سفركم إلى نيويورك.
عزيزة: سافرنا من القاهرة إلى نيويورك في أكتوبر 1962، أي بعد زواجنا بنحو ثلاثة أشهر (تزوجنا في 25 يوليو 1962).
رحمة: كانت الأحداث سريعة: إب، تعز، عدن، القاهرة، نيويورك... لم تجدي الوقت في حياتك!
عزيزة: أبدًا! بعد ذلك، أخذتني النساء، وكانت من بينهن امرأة اسمها "نعيمة الباز"، كانوا يلقبونها "ماما نعيمة" - الله يذكرها بالخير - وذهبنا إلى محل "شوكوريل" واشتروا لي الملابس و"البرنيطة" التي سأحدثك عنها لاحقًا. لبستُ، ووضعتُ طلاء الأظافر، ولبست الكعب العالي. كنت طويلة، ومحسن لم يكن طويلًا، لكني أردت أن أبدو كما كنت أرى في الأفلام.
رحمة: هل كانت تلك بداية تحركك الدبلوماسي؟
عزيزة: وصلنا إلى روما، وكان في استقبالنا أعضاء السفارة اليمنية هناك. وعندما سألوه: "أين زوجتك؟"، أشار إليّ. تفاجؤوا، لأنهم اعتادوا رؤيتي منقبة، أما الآن فقد كنت بالحجاب فقط.
رحمة: بصدق، أنتِ شخصية قوية، قابلة للتغير وجريئة.
عزيزة: بقينا في روما، وسعدت جدًا بتلك الفترة. لم أعد أخاف من المصعد الكهربائي، لكن ما أقلقني وقتها كان السلم المتحرّك! كنت أتساءل: كيف سأنزل عليه؟ ولم أرد لأحد أن يعرف أنني لا أجيد استخدامه. حتى في الطعام، كان الجميع يأكل الدجاج بأيديهم، لكنني قررت أن أتعلم استخدام الشوكة والسكين.
رحمة (ضاحكة): يعني قلتِ لازم أتعلم الإتيكيت.
عزيزة: طبعًا! لكن كانت فضائح، أحيانًا كنت أمسك قطعة الدجاج فتنزلق من الطبق!
رحمة: المهم أنها لم تصطدم بوجه الأستاذ محسن!
عزيزة (مازحة): لا بأس إن وصلت وجهه، المهم ألا تسقط على الآخرين!
رحمة: ومتى وصلتم إلى نيويورك؟
عزيزة: لا أتذكر إن كنا قد وصلنا نهارًا أو ليلًا، لكن المدينة كانت مضاءة بالكامل، والعمارات شاهقة. كان المنظر مذهلًا.
رحمة: نسيتِ القاهرة؟ الآن أمامك تحدٍ جديد!
عزيزة: نعم، بدأت أسأل محسن عن كل بيت نمرّ به. في اليمن، لكل بيت اسم: "هذا بيت فلان"، فسألته: "هذا البيت لِمن؟" فأجابني: "بيت القاضي الشماحي"، وسألته عن آخر فقال: "بيت عسلان"! مع أني أعلم أن في القاهرة، مثلًا، هناك عمارات متعددة الشقق.
رحمة: أول ما وصلتِ نيويورك، ما أول قرار اتخذتِه؟
عزيزة: أول قرار اتخذته هو تعلم اللغة الإنجليزية. كنت في الطائرة مع محسن، وكلما قدّمت المضيفة شيئًا، يطلب مني أن أقول لها "Thank you"، لكني كنت فقط أهز رأسي دون أن أنطق.
رحمة: وبعدها دخلتِ مدرسة؟
عزيزة: بعد أسبوع فقط من وصولنا، ونحن لا زلنا في الفندق، سجّلني في مدرسة لتعلم الإنجليزية. كانت تضم مجموعة من النساء الإسبانيات. وعندما تطورت لغتي قليلاً، التحقت بفصل آخر، وكنت قد تعلمت الحروف الهجائية، الكبيرة والصغيرة. في تلك المرحلة، كان يدرس معي سفير موريتانيا وسفير من أميركا اللاتينية. كنت أجلس هناك بهدوء أستمع، وكنت أحمل حقيبتي مثل النساء الكبيرات. وفي الفندق، كانوا يسألونني بالإنجليزية: هل أنت ابنة السفير؟ فكنت أردّ: لا، أنا زوجته.
رحمة: وبدأتِ تتحدثين الإنجليزية؟ ألم تخافي أو تشعري بالارتباك؟
عزيزة: بعد حوالي ثلاثة أشهر بدأت أتحدث قليلاً. وكان السفير الموريتاني يسألني: "أين تعلمتِ؟ هل كنتِ تتعلمين في اليمن؟" فأجيبه مازحة: "طبعًا، تعلمت في اليمن!"، رغم أنني قبل شهر فقط لم أكن أعرف كلمة واحدة.
اعتراف العالم بالجمهورية
رحمة: وهل واصلتِ الدراسة؟
عزيزة: نعم، واصلت حتى اعترفت أمريكا باليمن الجمهورية. وفي ليلة إعلان الانتقال الرسمي للمقعد اليمني في الأمم المتحدة، ومغادرة الوفد الملكي، صعد محسن إلى المنصة ليقدّم اليمن ويشكر الدول التي اعترفت بالجمهورية. جلسنا في الكراسي المخصصة لليمن، وكنتُ في قمة سعادتي: أخيرًا أصبحنا جمهورية.

رحمة: أريد أن أعرف عن الإتيكيت والبروتوكول في تلك المناسبات، من ساعدك على تعلمها؟
عزيزة: في البداية ساعدتني زوجة الدكتور عدنان الترسيسي، وكذلك مسلم شموط، الذي كان يعمل في السفارة. كان قبل ذلك يعمل من مكتب الجامعة العربية في الأمم المتحدة. حتى السكرتيرة "إيلين" كانت تنصحني: مثلًا، كانت تقول لي "هذا الفستان مزركش لا يُلبس إلا في المساء، وليس في العزومات الرسمية في بيوت السفراء". أيضًا، ساعدتني زوجة سفير الكويت، السيدة الفلسطينية زوجة طلعت القصيب.
رحمة: يعني كان هناك من يؤهلك ويدربك على الظهور المناسب.
عزيزة: نعم.
رحمة: ما هي أول فعالية أو مناسبة رسمية قمتِ باستضافتها بصفتك زوجة السفير؟
عزيزة: عندما كنا في واشنطن، وكنت حينها حاملًا بابنتي هدى، بدأنا بزيارة عدد كبير من السفراء والمندوبين أولًا، كبروتوكول دبلوماسي.
رحمة: وبالنسبة لتجربة الحمل والزواج، متى حملتِ بعد زواجكم؟
عزيزة: تقريبًا بعد نحو سنة ونصف. ولم أكن أعلم أنني حامل إلا في الشهر الخامس.
رحمة: متى عدتِ إلى اليمن بعد ذلك؟
عزيزة: تقريبًا منتصف العام 1963، سافرت إلى اليمن.
رحمة: لماذا قررتِ العودة في ذلك الوقت؟
عزيزة: لأنني لم أزر اليمن بعد الثورة التي كنت أنتظرها، وكنت قد جهزت حقيبتي للسفر فور نجاحها. لكن جاءت ظروف السفر إلى أمريكا، ووجدت نفسي في مهمة وطنية إلى جانب محسن، من أجل نيل اعتراف العالم بالجمهورية اليمنية.
رحمة: كيف وجدتِ اليمن بعد الثورة، وقد مرّت أكثر من سنة على قيامها؟
عزيزة: وجدتها كما تركتها، لم يتغير الكثير، سوى أن الناس باتوا يتحدثون عن الجمهورية وينشدون الأناشيد الثورية مثل "جمهورية ومن قرح يقرح". أول ما فعلته أنني ذهبت إلى والدتي، ولم أكن أعرف أحدًا من بيت العيني سوى أبو هيثم.
رحمة: كنتِ مشتاقة جدًا لأمك، وقد عانيتما كثيرًا من فراق بعضكما.
عزيزة: عندما رأتني أخبرتها أنني مرتاحة وسعيدة، وأن زوجي رجل حنون، ليس مثل أبي كما كانت تعتقد. فاطمأنت عليّ. قضيت بعض الوقت معها، وكنت أتنقل بين بيت والدتي وبيت الأستاذ الزبيري. دعوني إلى منزلهم في "سمرة"، وفي اليوم التالي جاءت أم أسامة، زوجة الأستاذ علي، وأخذوني والمهندس أحمد، وكان لا يزال صغيرًا، إلى منزلهم.
رأيت هناك ناسًا في غاية الطيبة، وتعرفت على خالتي مريم، أخت أم محسن، وابن خالها، وأخوها حسين الذي كان يدرس في ألمانيا. كانوا طيبين جدًا، والنساء والرجال كانوا يجتمعون على مائدة الغداء سويًا، وليس كما يحدث عندنا، حيث يتناول الرجال الطعام وحدهم.
بقيت عندهم شهرًا. وعند سفري من القاهرة إلى اليمن، كنت مع طارق ابن أخي. سافرنا في طائرة حربية توقفت في أسوان، ومن ثم إلى صنعاء. لم يكن هناك مطار بالمعنى المعروف، بل مبنيان فقط. بقينا في اليمن حوالي شهر أو شهر ونصف، ثم عدت إلى القاهرة. جاء محسن، ثم سافرنا معًا إلى أمريكا، وانتقلنا إلى واشنطن. كنا لا نذهب إلى نيويورك إلا عند انعقاد الجمعية العمومية.
رحمة: كسفير للجمهورية العربية اليمنية؟
عزيزة: نعم، وكانوا قد أخذوا مقرًا خاصًا لليمن، ولم نعد نعمل من مكتب جامعة الدول العربية. أصبح معنا مندوبية اليمن.
رحمة: والمناسبات الوطنية؟
عزيزة: نعم، كنت أحضرها، وكنت أقف إلى جانب محسن، أستقبل الناس، وأسلّم على الرجال. كنتُ في البداية أمد يدي وأنا أرتجف.
أمومة في الغربة وضياع هدى في المطار
رحمة: الأحداث التي مررتِ بها كانت متسارعة جدًا.
عزيزة: أنجبت هدى ونحن في واشنطن، وبعدها حملت بهيثم. ثم عدت أنا ومحسن إلى اليمن، وكانت هدى تبلغ من العمر أربعة وعشرين يومًا فقط. أتذكر أننا ركبنا الطائرة من تعز إلى صنعاء، وكانت في الـ"هندول".
المهم، خالتي مريم ونساء إخوتي لازلن على نفس العادة، لا يخرجن لاستقبال أحد، لكن عمتي عزيزة والأستاذ الزبيري أحضرا لي معهما "شرشف"، وأخي صالح صعد إلى الطائرة. كنتُ حتى في نيويورك أقول: "يا الله لو يشوفني أخي صالح وأنا بشعري!". في الطائرة، أحضروا لي الشرشف ولبسته ونزلت، وصعدنا السيارة، وكان معنا نساء من تعز.
الطائرة كانت قد هبطت في الحديدة وأخذت ركابًا قبل أن تكمل إلى صنعاء. وخالتي مريم أخذت طفلا من يد امرأة وقبّلتها، ظنًا منها أنه هدى.
ثم قالت: "ما لها هدى في وجهها حبوب؟"، فقلت لها: "لا يوجد في وجهها حبوب، ربما بسبب الحر حين وقفنا في الحديدة". بعدها وجهت نظري إليها، وكانت جالسة بجانب السائق، ورأيت طفلًا آخر، فقلت: "هذه ليست ابنتي".
رحمة: وأين تركتِ هدى؟
عزيزة: كنتُ أعتقد أنها أخذت من المطار في صنعاء. وفي الحقيقة، الرجل الذي يأخذ الحقائب قال إنه وجد حقيبة بداخلها شيء فوضعها في غرفة. عدنا إلى المطار، وكان المدير يقول ربما أخذها محسن لأنه كان ذاهبًا إلى أخيه في "الطبري"، وأنا ذهبت إلى بيت أخي سنان. ثم وجدناها، وأخذتها في حضني، وكانت لا تبكي، فقط تحرك يديها ورجليها. لم أكن "أقمّطها" كما رأيت في أمريكا، و"كدت أموتها جوعاً".
رحمة: كنتِ قابلة للتغيّر وتتأثرين كثيرًا بالثقافات المختلفة.
عزيزة: نعم، كانوا يقولون أطعمها كل ثلاث ساعات. فكانت ترضع قليلًا وتنام، وأنا أعتقد أنها شبعت. أقوم بحملها وأطبطب على ظهرها حتى تتقيّأ.
رحمة: وكانت تجربة الأمومة جديدة تمامًا عليك.
عزيزة: كانت عندما تبكي، أبكي معها. كنت أظل أنظر إلى الساعة لأرضعها كل ثلاث ساعات، كما أخبروني في المستشفى.
بقينا في صنعاء فترة، ثم سافر محسن إلى أمريكا، وعدت أنا إلى بيت أخي علي. في ذلك الوقت، كان أخي محمد قد أُصيب في خولان. وكان في المستشفى، ولم يدعني أخي صالح أدخل لرؤيته. قال لي: "ها قد أتيتِ وعرفتِ طريق المستشفى. جئت في وقت الظهر، عندما جاء الزوّار"، وكان المستشفى ممتلئًا. ولم يسمح لي برؤية محمد.
رحمة: وهذا أوجعك كثيرًا.
عزيزة: جدًا، لكن هذا هو صالح، وأوامره تمشي، رغم أنني أمشي على أوامرهم جميعًا.
اغتيال الزبيري والعودة الاضطرارية إلى المنفى
رحمة: وأين كنتم حين استُشهد الزبيري؟
عزيزة: عندما استُشهد الزبيري، كنتُ حاملاً بابني هيثم، في الشهر التاسع. كان ذلك عام 1965م، دخل محسن إلي وكان يقول: "أين أذهب بكِ أنتِ وابنتكِ؟"، لأنه كان لابد أن يرجع، بعدما قتلوه - الزبيري - ولم نكن نعلم كيف حصل ذلك.
وصل محسن إلى مطار فرانكفورت، وكان أخوه حسين يدرس في ألمانيا. وعندما خرج من المنزل، كنتُ أشعر بأن موعد الولادة اقترب، لكني لم أخبره، لأنه لم يكن يعرف كيف يتعامل مع الوضع، لا معي ولا مع ابنته.
رحمة: والشهيد الزبيري كان شخصًا عزيزًا على كليكما، وعلى الوطن بأكمله.
عزيزة: كان محسن يقول دائمًا: "الزبيري هو ابني الروحي". وقبلها، كنا قد خرجنا من بيت السفارة بعد استقالته، وأخذ لنا منزلاً في مكان اسمه "ويست مورليند هيز"، وكان يسكن فيه بعض الإسبان، ولم يكن معنا مال.
رحمة: وأنتِ كنتِ قريبة من الولادة، ومعكِ طفلة صغيرة… كم الفارق بين هدى وهيثم؟
عزيزة: سنة وشهرين فقط.
رحمة: كانت صغيرة جدًا…
عزيزة: وكان هناك عمي عبد الهادي الهمداني، يعمل في السفارة، مع أن السفارة وقتها كانت تعيش خلافات.
رحمة: عبد الهادي الهمداني الذي أصبح فيما بعد مدير مكتب رئيس الجمهورية؟
عزيزة: لا، هذا شخص آخر. عمي عبد الهادي كان رجلًا كبيرًا في السن، وموجودًا في أمريكا من زمن. وهو من أدخل محسن ضمن الوفد اليمني في نيويورك.
عزيزة: وصلتُ المستشفى، وكانوا يبحثون عن الأب. طبعًا، في ولادة هدى ذهبتُ في وقت مبكر، أما في ولادة هيثم، وصلتُ وأنا على وشك الولادة.
بعدها، أرسل عمي عبد الهادي ويحيى جغمان (الله يذكره بالخير) برقية إلى محسن يبلغونه بولادة هيثم - وكانوا قد اتفقوا على اسمه. أما هدى، فكانوا يريدون تسميتها "نادية"، لكني أطلقت عليها اسم "هدى". كانت البرقية تقول: "هيثم وأمه بخير"، والمضيفة كانت تراه حزينًا وتقول له: "أخرج البرقية من جيبك". وكان يقول إنها من أخيه الذي يدرس في ألمانيا الشرقية، وكانت تصر عليه: "أنا أعرف أنها من أخيك".
طلبت منه المضيفة أن يقرأها، لأنه بدا حزينًا، طبعًا بسبب استشهاد الأستاذ الزبيري، وأيضًا لأن أخاه في ألمانيا الشرقية لم يُسمح له باستقباله. وعندما قرأ البرقية وواصل رحلته إلى اليمن، حيث عُقد مؤتمر خمر، وعُيِّن الأستاذ النعمان رئيسًا للوزراء، ومحسن وزيرًا للخارجية لفترة، ثم حصلت أحداث سنة 1967م.
النكسة العربية ومرارة الانقسام اليمني
رحمة: عندما بدأ حصار السبعين في اليمن، لعب الأستاذ محسن العيني دورًا كبيرًا في الوساطة، سواء بين الجمهوريين الذين اختلفوا على السلاح، أو بين الجمهوريين والملكيين.
عزيزة: هذه كانت سنة 1968م، لأنه بعد أحداث 1967م، رجع محسن إلى اليمن، وتعيّن رئيس وزراء ووزير خارجية، وكانت تلك وزارتنا الثانية.
بقي في المنصب فترة، ثم قالوا إن رئيس الوزراء يجب أن يكون شخصية عسكرية، بعدما بدأت المعارك والمشاكل.
وكان هناك خلاف بين الفريق حسن العمري وعبد الرقيب عبد الوهاب، وكان الأخير بطلًا وشجاعًا. وكان ابن عمي راجح يحكي لي كيف كان عبد الرقيب يقاتل، وعندما كانوا يدخلون في خلافات مع الفريق العمري، ويبدأ الضرب من الملكيين، يوجه الجميع سلاحه نحو الملكيين. لكن ما إن تهدأ المعارك، يعودون للخلافات بينهم من جديد.
استقال محسن من المنصب، وعاد إلينا، ثم أخذنا إلى القاهرة. وقتها، كان الدكتور عبد الرحمن البيضاني لا يريد أن يسمح لمحسن بالسفر إلى اليمن، ولو أراد العودة، فعليه أن يعود إلى الأمم المتحدة أو واشنطن كـ"سفير". بعدها، اتفقوا على رجوعه إلى أمريكا، وعدنا نحن أيضًا، وكان هيثم عمره شهرين أو ثلاثة أشهر، وهدى سنة وأربعة شهور.
جلسنا في أمريكا فترة، ثم عُيِّن محسن سفيرًا في موسكو، لكنه استقال مرة أخرى عندما جاءت أحداث متلاحقة.
وقتها، جاء وفد يمني للتفاوض مع الرئيس جمال عبد الناصر، لكنهم أُحيلوا إلى المشير عبد الحكيم عامر.
وكان في الوفد أنور القاضي إذا لم تخنّي الذاكرة - وكان برئاسة الأستاذ النعمان، ومعه أخي محمد، ودرهم بن ناجي ابن عمي، والدكتور طارق كان يدرس في مصر. ذهبوا إلى الشقة التي كنا نسكن فيها بالقاهرة، وجاءوا لهم في منتصف الليل… واعتقلوا الأستاذ النعمان.
رحمة: لا بد أن ذلك كان مرعبًا جدًا لكِ.
عزيزة: طبعًا، نعم. القاضي عبد الرحمن تُرك تحت الإقامة الجبرية، ومحسن قدّم استقالته.
قال لي: "اجمعي أغراضنا وأولادنا"، ولم تكن معنا قيمة التذاكر. سفير الكويت أعطانا تذاكر إلى بيروت، فذهبنا وبقينا هناك شهرين أو ثلاثة. بعدها، عُيّن البيضاني سفيرًا في لبنان، وكان بينه وبين محسن خلافات. وحين رجع محسن من مؤتمري الكويت والجزائر، وكان برفقة محمد النعمان، وكانا يطلبان الوساطة كي تترك السعودية ومصر اليمنيين يحلون مشاكلهم بأنفسهم. وعند رجوعه، بلّغوه من الجانب اللبناني بأنه غير مرغوب ببقائه في بيروت. أين نذهب؟ مصر؟ أنا أحبها، لكنهم وقفوا ضد زوجي، وضد إخوتي: محمد في الحبس، وسنان أخي معنا في بيروت. سنان - مثلما قال الإمام: "ما ذيب يدخل حويه" - لا يورّط نفسه، ويفهمها وهي طائرة. بعدها، ذهبنا إلى دمشق وسكنا هناك.

رحمة: لديكِ طفلان، وتجمعين الحقائب، ولا تملكين المال، وتتنقلين من عاصمة إلى أخرى.
عزيزة: والكويت حينها قرروا لنا 100 دينار. وكان الشيخ جابر الأحمد الصباح صديق محسن. ومحسن كان يتساءل: "كيف؟ وما هو المقابل؟". وقال لهم: "أنتم يجب أن تتوسطوا"، وبالفعل الكويت بذلت جهدًا كبيرًا.
رحمة: مع كل اليمنيين، في تلك الفترة.
عزيزة: نعم. المهم، انتقلنا إلى دمشق، ولم نعد ندفع إيجارًا كما في بيروت، وكانت الـ100 دينار تكفينا. وأدخلنا الأولاد الحضانة.
رحمة: أخذتِ فرصة للاهتمام بالعائلة وبعضكم ببعض.
عزيزة: وتعرفتُ على أفضل ناس في سوريا. منهم صديق لا يحضرني اسمه الآن، لكني كتبت عنه لاحقًا، وقد تُوفي مؤخرًا. كان هو وزوجته السيدة الفاضلة من أطيب من عرفت.
من أمومة في المنفى إلى متطوعة إسعاف
رحمة: كم بقيتم في دمشق؟
عزيزة: أقمنا هناك سنة ونصف، إلى أن حصلت حرب 1967. عندما بدأت المشاكل، كنا نسمع الإذاعة، وكان محسن يقول: "نحن غير مستعدين، ومصر - ونصف جيشها في اليمن - تدخل حربًا مع إسرائيل؟! هذه مصيدة لجمال عبد الناصر!" وكان يقول ذلك لبعض السوريين، مثل نور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس، فكانوا يردون عليه: "أنت غاضب لأن أقرباءك اعتُقلوا، وفي اليمن نحن مستعدون". فقال لهم: "أنتم ستدخلون الحرب، أنتم والأردن ومصر، وأنتم مختلفون مع الأردن، ومصر مختلفة معكم. كيف ستوحدون الجيش وتدخلون حربًا مع إسرائيل؟!". المهم، حصلت الهزيمة لمصر في حرب 1967، وجمال عبد الناصر أعلن استقالته. كنا حينها قد غادرنا دمشق إلى بلودان، لتجنّب أي قصف على العاصمة. محسن بقي مع القيادة في وزارة الخارجية السورية، وأنا تركت أولادي عند زوجة الدكتور محمد القوسي، صديقتي الجميلة، ومعهم أولاد أخي وزوجة أخي التي كانت حامل. تركتهم وذهبتُ للتجنيد في الدفاع المدني.
رحمة: وانضممتِ حينها للدفاع المدني. ما الدور الذي قمتِ به؟
عزيزة: كان دورنا إسعاف الجرحى. لبسنا زي الدفاع المدني. أنا لم أكن أعرف قيادة السيارة، وكان معنا سائق. كنا ندخل إلى الجولان، ونسعف الجرحى. بعضهم كنت أمسك برأسه، محفورًا بطريقة تشبه الكوسة والدم يخرج، لكنه ما زال يتنفس. وسبحان الله الذي أعطاني القوة. كنا نحملهم إلى السيارة، ثم نعود بهم إلى دمشق. في اليوم الواحد، ثلاث أو أربع رحلات. ثم أعود في منتصف الليل إلى بلودان، لرؤية أطفالي.
لم يكن معي ذهب، فقط ساعة، ودبلة، وخاتم. أعطيتهم لأمينة، زوجة الدكتور محمد القوسي، وقلت لها: "إذا حصل لي شيء، أوصلي أولادي إلى والدتي". والحمد لله.
رحمة: وكونكِ امرأة يمنية، من المؤكد أنك تتحملين مشاهد الدم، ورائحتها. وقد رأيتِ الظروف الصعبة التي عاشها اليمنيون.
عزيزة: رأيتُ من بُترت قدمه، والسيدات بعد قصف الطيران، والغبار يغطيهن، وهن في حالة يُرثى لها.
رحمة: لكنكِ أديتِ واجبك، وأنا على ثقة أن عزيزة عبد الله تعتبر هذه من الذكريات الجميلة التي تبقى في الذاكرة.
عزيزة: نعم. ولا زلتُ حتى الآن عضوًا في اتحاد النساء السوريات. كنتُ في سوريا منذ عام 1966، وانضممتُ إلى الاتحاد النسائي السوري، ومن خلاله التحقتُ بالدفاع المدني السوري في يونيو 1967.
رحمة: سنأخذ تفاصيل أكثر حول عودتك إلى صنعاء في الحلقة القادمة.
مشاهدينا، لا تزال سلسلة مذكرات الأديبة عزيزة عبد الله مستمرة.
نلقاكم في الحلقة القادمة وفصول جديدة من حكايتها.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)