صنعاء 19C امطار خفيفة

الانتقالي والرقابة البرلمانية: من يخاف الحقيقة؟

في بلد باتت فيه السياسة تُمارَس كما تُدار مسرحيات العبث، لا يبدو مستغربًا أن نسمع عن رفض المجلس الانتقالي الجنوبي نزول لجان البرلمان إلى المحافظات “المحررة”، وكأن الرقابة أصبحت فعلًا مدانًا، ومساءلة مؤسسات الدولة تُعد خيانة وطنية، وكشف الفساد يُصنَّف ضمن المؤامرة أو الجرائم الكبرى.

فلنسأل السؤال الأبسط، ذاك الذي يتبادر إلى ذهن أي مواطن بسيط يجلس على دكة في حي شعبي بعدن: ما الذي يدفع المجلس الانتقالي إلى اعتراض عمل البرلمان في أداء مهامه الرقابية؟ أليس هو من يرفع شعار “التحرير والاستقلال”، ويتهم خصومه الشماليين بالدولة العميقة وبعرقلتهم للإصلاحات وبالفساد المستشري؟ أفلا يفترض أن يكون أول المرحّبين بأي جهد يكشف مواطن العبث، ويعيد للدولة بعضًا من هيبتها؟
لكن يبدو أن “الرقابة” مرغوبة فقط حين تُسلَّط على الغير، ومرفوضة تمامًا حين تقترب من مصالح البعض. والمفارقة الأشد غرابة أن الانتقالي يرى البرلمان مؤسسة “شمالية”، وهذا عذر لا ينطلي إلا على من يستخف بعقول المواطنين. فقبل ثلاث سنوات، أدى رئيس المجلس الانتقالي بكل أناقته الثورية اليمين الدستورية أمام نفس هذا البرلمان، ومن قاعة “الشرعية” ذاتها، لينضم لمجلس يرأسه شمالي وبموازنات ورواتب تصرف من بنك اسمه "البنك المركزي اليمني". فهل هذه براغماتية سياسية أم انفصام مزمن؟! هل هي مرونة تكتيكية أم انتقائية فاضحة؟
الأدهى أن الانتقالي يتصرف كأنه يملك حق الجمع بين السلطة والمعارضة، بين الجلوس على الكراسي ومهاجمتها في الوقت ذاته. فهو شريك في الحكم عندما تُقسّم الحقائب وتُضبط الموازنات، ومعارض “ثورجي” عندما تُذكر كلمة “رقابة”، وعندها تُستدعى فزاعة “الدولة الشمالية”.
فهل يخشى المجلس الانتقالي شيئًا؟ سؤال لا يخلو من سذاجة في ظاهره، لكنه عميق في جوهره. ماذا لو جاءت لجان البرلمان لتسأل عن أزمة الكهرباء المستمرة منذ سنوات؟ أو أسباب انهيار العملة، أو لتفهم لماذا لا يعرف أحد مصير إيرادات الموانئ أو ضرائب الشركات؟ أو ربما لتطّلع على عقود الخدمات الممنوحة في جنح الليل؟
وإن كان هذا القلق مبررًا ويحتمل أنه أوسع من كونه قلق مكون سياسي واحد، فهل كُلّف المجلس الانتقالي فعلًا من قبل شركائه في مجلس القيادة الرئاسي، بأن يتولى مهمة “حارس البوابة”؟ مهمته أن يتصدى لأية لجنة تقترب من “الصندوق الأسود”، بينما يظهر الآخرون في المجلس كأنهم أكثر اتزانًا ودبلوماسية ولا يخشون الحقيقة. إن كان ذلك كذلك، فقد اختار الانتقالي لنفسه دور البلطجي السياسي، ذلك الذي يرفع الشعارات الكبيرة، لكنه يرفض حتى التفتيش على مصابيح الكهرباء، ويحمي استمرار وبقاء الظلام!
الرفض المتكرر لأي شكل من أشكال الرقابة ليس مجرد موقف سياسي، بل مؤشر مبكر على طبيعة النظام الذي قد نراه في حال حَكم الانتقالي الجنوب منفردًا: نظام لا يؤمن بالشفافية، لا يُحب الكشافات، ويفضل العتمة، لأن النور يفضح ما خفي من حسابات وصفقات وشبكات.
فيا قادة المجلس الانتقالي، إن كنتم جادين في مشروعكم، واتهاماتكم للآخرين بالفساد، فافتحوا الأبواب، وافرشوا الطاولات بالبيانات لا بالتهديدات، واستقبلوا لجان البرلمان بالشاي العدني، والحلوى اللحجية، والزوامل الحضرمية، وبأيدٍ نظيفة وملفات أوضح من شمس المكلا. أما إذا كانت الحقيقة تقلقكم إلى هذا الحد، فاعلموا أن الشعب قد سئم الظلام... كهربائيًا، وسياسيًا. وموقفكم هذا -كونكم الطرف الوحيد المعارض للمكاشفة- سيكون له تبعات سلبية كبيرة على رصيدكم -أو ما تبقى منه- سياسيًا واجتماعيًا.

الكلمات الدلالية