صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن: الكلمة السجينة... صراع المثقف مع السلطة وتحديات بناء الدولة

اليمن: الكلمة السجينة... صراع المثقف مع السلطة وتحديات بناء الدولة

مفتتح -حلم الجمهورية ومحنة الواقع

 
منذ ولادة الجمهورية اليمنية عام 1962، رافقت الأحلام الوطنية طموحٌ واسعٌ ببناء بيئة تضمن حرية الرأي والتعبير والنشر. لكن تلك الأحلام سرعان ما اصطدمت بجدران الواقع السياسي المتشدد والديني المتعصب. ففي بلدٍ تتنازع فيه السلطات وتتغير الواجهات، بقيت نظرة الحاكم إلى الكاتب ثابتة: خرق النصوص خطيئة، وخرق التابوهات جريمة لا تُغتفر. رغم ما نص عليه الدستور اليمني من كفالة حرية الرأي والتعبير والنشر، ظل التطبيق العملي رهين موازين القوى ومصالح الأنظمة المتعاقبة، مما وضع المثقف في موقع المواجهة الدائمة. يستعرض هذا التقرير تاريخ قمع الكلمة في اليمن، ويحلل أسبابه الجذرية، مقدماً رؤية وتوصيات لتعزيز دور الجمهورية في حماية المثقف وبناء دولة تحترم الحريات.
 

تاريخ القمع: سجن الكلمة منذ ولادة الجمهورية

 
لم تكن محنة الكلمة في اليمن وليدة اليوم، بل هي إشكالية متجذرة تعود إلى عقود مضت. فمنذ عقود، تحولت الكلمة إلى خطر، والمثقف إلى خصم. لم تُترجم النصوص الدستورية إلى ضمانات حقيقية، وبقي الكاتب اليمني مهددًا بالتحريض أو الملاحقة أو النفي.
رغم ما نص عليه الدستور اليمني من كفالة حرية الرأي والتعبير والنشر، إلا أن التطبيق العملي ظل رهين موازين القوة ومصالح الأنظمة المتعاقبة. لم تُترجم النصوص إلى ضمانات حقيقية، وبقي الكاتب اليمني في موقع المواجهة، مهددًا بالتحريض أو الملاحقة أو النفي.
(علي المقري (منصات التواصل
في تسعينيات القرن الماضي، برزت صحيفة "الجمهورية" في تعز كمنصة أدبية رائدة. عبر ملحقها الثقافي، ظهرت أسماء شكلت لاحقًا أعمدة في المشهد الأدبي اليمني. من أبرزهم الروائي علي المقري، الذي كتب مقالات جريئة تناولت قضايا حساسة كـ"الخمر في الإسلام"، فتعرض لحملة تكفير شرسة، واتهامات بالإلحاد، طالته أيضاً بعد سنوات فتكفير المقرئ واتهامه بالفسق ونشر الرذيلة لم يتوقف عند حدود كتاباته حول (الخمر في الإسلام) بل طالته نتيجة صدور رواية (حرمة) الصادرة عن دار الساقي في العام 2012 حيث تعرض لحملة تكفير واسعة دفعته للخروج من اليمن نتيجة ملاحقات واسعة، خاصة عقب سيطرة مليشيا الحوثي على صنعاء في 2014، حتى استقر في باريس العاصمة الفرنسية التي منحته في أبريل من العام 2023 درع وسام فارس في الأدب والذي يعد أعلى وسام أدبي رفيع في فرنسا.
 

وجدي الأهدل... نموذج آخر للقمع نتيجة الكتابة السردية.

 
 روائي آخر يمني تعرض لحملة تكفير واسعة وصفته بالخارج عن الملة وطالبت الحملة وقتها بضرورة محاكمته وقتله نتيجة ما وصفته بالفجور. وجدي الأهدل القاص والروائي اليمني والذي حين نُشرت روايته الأولى قوارب جبلية بدايةً على شكل مقالات في صحيفة الجمهورية، ثم جُمعت لاحقًا في إصدار ابداعي للرواية صادر عن مركز عبادي للنشر في العام 2002، والتي أثارت ضجة إعلامية واسعة ووصفت بأنها منحرفة ومخلة، وتعرض صاحبها لحملات من أئمة المساجد، تبعتها ملاحقة أمنية دفعته إلى المنفى لأكثر من عام خارج اليمن. فعاد الأهدل إلى اليمن عام 2004، بعد ما وصفه البعض بـ"الوساطة الأدبية"، حيث رفض الشاعر الألماني غونتر غراس، الحائز على نوبل، استلام درع من الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إبان فعاليات صنعاء عاصمة للثقافة العربية من العام 2004، احتجاجًا على ملاحقة اليمن لأدبائه، مما أدى إلى إصدار توجيه رئاسي بعودة الأهدل إلى البلاد.
(وجدي الاهدل (منصات التواصل
في صور مستمرة تؤكد مدى رؤية السلطة للكاتب وتعاملها مع إبداعه بشكل عدو يهددها ويزعزع تواجدها، في الوقت الذي تتمثل فيها مؤسسات حكومية وقطاعات واسعة عن دورها في مساندة الكاتب والحد من معاناته ولكن اليمن جغرافية طاردة للإبداع وفقاً لمعاناة الكتاب والمبدعين في جغرافيتها خلال أكثر من نصف قرن من الزمان.
ما بين رواية "حُرمة" لعلي المقري ورواية قوارب جبلية لوجدي الأهدل، تتكرر أنماط التنمر والاتهامات والتحريض، حتى اليوم بوصف العمليين كابداع سردي يدعو ويحث المجتمع على الفحشاء وممارسة الرذيلة بوصف المجتمع اليمني مجتمع وبيئة محافظة دينياً ومتلقياً في الغالب لاملاءات ومحددات السلطة نفسها أياً كانت، ولكن ذلك لم يكن مقتصراً على القارئ البسيط ففي اليمن ومن المشهد الثقافي والصحفي ستجد أيضاً من يقول بأن الكتابة في قضايا التابو المحرم نوعاً من البحث عن شهرة.
فعلى منصات التواصل الاجتماعي، لا تزال حملات تُشنّ بين الحين والآخر ضد الروايتين، وتُتهمان بتحريض الشباب على الفاحشة والانحراف، في نسخة حديثة من خطاب المنابر القديم. ما يدل على أن السلطة والمجتمع لم يتجاوزا بعد فكرة أن "الرواية خطر"، وأن المثقف مشروع فتنة.
 

القمع: لغة مشتركة في زمن الحرب والتشظي

 
يؤكد القمع الذي تعرض له المقري والأهدل، وغيرهما الكثير، أن السلطة في اليمن، مهما تبدلت تسمياتها، ظلت تنظر إلى المثقف كتهديد. هذا القمع لم يعد حكراً على جهة واحدة، بل أصبح سياسة عامة ضد الكلمة، تُمارس بأساليب مختلفة:
 النظام الجمهوري استخدم أدوات الدولة في أوقات كثيرة، من محاكم وأجهزة أمن، لتكميم الأصوات، بينما الجماعات الدينية استخدمت الفتاوى والخطب والمجتمع للتحريض والتشهير وهو ما يؤكد مدى ضعف المساحة بين الكاتب والسلطة في اليمن.
 

مليشيا الحوثي... نسخة متطرفة من الرقابة والتشدد:

 
منذ سيطرتهم على صنعاء، شددت مليشيا الحوثي الإنقلابية الخناق على الكتّاب، وعقدوا إجراءات الإيداع القانوني للكتب، واشترطوا إزالة أي محتوى يشير إلى الحرية، أو الجمهورية، أو العلاقات العاطفية.
 إلى جانب معاداة الصحافة وارتكابها لانتهاكات مستمرة بحق الصحفيين اليمنيين خلال سنوات الانقلاب والتي لم تتوقف فعدد ضحايا الكلمة من أدباء وصحفيين بمناطقها لا يزال مستمراً بشكل مخيف.
 في سبتمبر 2024، اختُطف الصحفي والكاتب محمد المياحي من قبل المليشيا، وتعرض للإخفاء القسري لعدة أشهر، ثم قُدم للمحاكمة، وصدر بحقه حكم بالسجن عامًا ونصف، وغرامة مالية قدرها خمسة ملايين ريال، في قضية لاقت إدانات واسعة من منظمات حقوقية.وسط توظيف مليشيا الحوثي إلى القضاء وتسخيره ضد الكلمة.
محمد المياحي
دخول بعض المدن اليمنية قوائم الانتهاكات ضد الصحافة وضد الكتاب والأدباء:
لم يقتصر التضييق على الأدباء والكلمة الصحفية والرأي عند حدود مناطق المليشيا الحوثية، فقد شهدت مناطق الحكومة المعترف بها دوليًا، حوادث اعتقالات بين سجن ومحاكمة واسعة، حيث لا يزال الصحفيون والكتّاب عرضة للترهيب والملاحقة.
 

انتهاكات موثقة... الصحافة في مرمى الجميع:

 

 بحسب تقرير نقابة الصحفيين اليمنيين  سُجل خلال عام 2024 عدد 101 انتهاكًا ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، تنوعت بين اعتقالات وتهديدات ومحاكمات ومصادرة معدات. وتصدّرت جماعة الحوثي قائمة الانتهاكات بـ 45 حالة، تلتها الحكومة الشرعية بـ 31 حالة، ثم المجلس الانتقالي بـ 11 حالة، في دلالة على أن القمع لم يعد حكرًا على جهة واحدة، بل أصبح سياسة عامة ضد الكلمة.

جذور الإشكالية: لماذا تُسجن الكلمة في اليمن؟

 
إن استمرار قمع الكلمة في اليمن ليس مجرد سلسلة من الأحداث المعزولة، بل هو نتاج تضافر عوامل عميقة ومتجذرة تؤثر على العلاقة بين المثقف والسلطة. أولاً، يسهم ضعف مؤسسات الدولة وسيادة القانون بشكل مباشر في خلق بيئة تسهل الانتهاكات؛ فالقضاء غير المستقل وغياب آليات المساءلة الفعالة يمنحان السلطات المختلفة حصانة من العقاب، مما يقوض أي حماية حقيقية للمثقف. ثانياً، يبرز غياب الثقافة الديمقراطية والتسامح؛ فانتشار ثقافة الإقصاء وعدم تقبل الرأي الآخر في الأوساط السياسية والمجتمعية يدفع إلى اعتبار النقد البناء تهديدًا أو خيانة. ثالثاً، فاقم تأثير الصراعات المسلحة والهشاشة الأمنية من الوضع، حيث تستغل الأطراف المتحاربة حالة الفوضى لتبرير التضييق على الحريات باسم "الأمن القومي" أو "المصلحة العليا". أخيراً، تكمن المشكلة في مفاهيم خاطئة عن دور المثقف؛ فالعديد من الجهات السلطوية وحتى بعض قطاعات المجتمع ينظرون إلى المثقف كـ"مثير للفتن" أو "هدام للقيم" بدلاً من كونه ناقداً بناءً ومساهماً في التنمية والتنوير.
 

نحو جمهورية ودولة عادلة تحمي الكلمة

 
إن بناء جمهورية يمنية مستقرة، مزدهرة، وتحترم مواطنيها، يستوجب تغييرًا جذريًا في نظرة السلطة للكلمة الحرة والمثقف. فالمثقف ليس خصماً، بل هو شريك أساسي في بناء الوعي والتقدم. لتحقيق ذلك، يتوجب على أي سلطة تسعى لتمثيل اليمن الالتزام بضمان وحماية حرية الرأي والتعبير كواجب دستوري لا يمكن التنازل عنه، مع الإقرار بأن الانتهاكات الحالية تقوض أسس الدولة نفسها. ولابد من الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين من الصحفيين والمثقفين، وضمان استقلالية القضاء ليصبح حصناً للحريات لا أداة للقمع، بالإضافة إلى مراجعة وتعديل القوانين المقيدة للحريات بما يتماشى مع الدستور والمعايير الدولية. كما يعد دعم نقابات الصحفيين والمثقفين وتعزيز دورها، وتعزيز ثقافة التسامح والحوار عبر برامج توعية مجتمعية، خطوات جوهرية. وأخيراً، فإن دعوة المجتمع الدولي للضغط والمساندة المستمرة لمراقبة الانتهاكات وتقديم الدعم، واستخدام النفوذ الدبلوماسي لضمان احترام حقوق الإنسان، هو جزء أساسي من أي عملية سلام أو استقرار مستقبلي في اليمن.
 

مستقبل الكلمة في اليمن.. بين الأمل والتحدي

 
وبين منفى علي المقري، ومنافي الداخل التي يعانيها كثير من الكتّاب والصحفيين اليوم، تتكرر الرسالة: الكلمة في اليمن تمضي بين الشظايا، شاهدة على زمن لا يزال يطارد النور، ويكتب نهايته في عتمة الحبر الممنوع. إن مصير الكلمة والمثقف في اليمن هو مرآة لمستقبل بناء الدولة. فبدون حماية حقيقية لحرية الفكر والتعبير، لن تتمكن الجمهورية اليمنية من تحقيق الاستقرار، العدالة، والتنمية المنشودة. يبقى الأمل معلقاً على تضافر الجهود لكسر قيود الكلمة، وإعادة للمثقف مكانته كصوت للضمير ومحرك للتغيير الإيجابي.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً