الشعب والسلاح أو حدّ السيف وحدوده
حين قرر أولِفَر كرُمويل (1599-1658) حلّ البرلمان الإنجليزي المبتور (The Rump )، استشار أحد رجال الدين فنصحه بالانصراف عن الأمر لأنه ضد إرادة الأمّة؛ تسعة من عشرة سيقفون ضد القرار. فسأله كرُمويل: ولكن ماذا سيحدث إن جرّدتُ التسعة من سلاحهم، وقلّدت العاشر سيفًا، ألن يفي هذا بالغرض؟
بعد هزيمة الثورات العربية يمكن القول إن عقيدة النظام العربي دلفت حقبةً "كرُمويليّة" مظلمة: انتهى زمن "القاعدة الاجتماعيّة"، وغدت المجتمعات مجرد موضوع لحكم القوة المسلحة (جيش نظام أو مليشيا بحجم جيش) التي تفرض أي سياسة مهما كانت مهينة أخلاقيًا ومفقرة اقتصاديًا، والعنف هو السياسة الحصريّة داخليًا. حتى الحركات المسلحة والمليشيات التي طالما راهنت، في الأقل خطابيًا، على الجماهير العربية في تأمين نفسها تخلّت عن هذه الفكرة واستبطنت هي الأخرى الفكرة القائلة إن العُزَّل، وإن كانوا بالملايين، بلا قيمة حين يستعر أوار الصراع، والمثال الأبرز لهذه الحالة كان حزب الله اللبناني الذي ازدادت خشونته في لبنان ورفض الحلول الوسط مع الإقليم والاحتجاجات الشعبية اللبنانية رغم هرولة الاقتصاد اللبناني نحو الإفلاس، علاوة على استمرائه التدخل الدموي في سوريّة معتبرًا أن عمقه الاستراتيجي ليس الشعب السوري بل نظام الأسد.
استمر نظام الأسد في ارتكاب المقتلة بحق الشعب السوري، والنظام المصري في سياساته الاقتصاديّة والأمنيّة دون إبداء انفتاح صادق على تغيير المسارات التي اتضح فشلها، أما الحوثيُّون فهم يحكمون ملايين اليمنيين بالنار والإذلال، ولكنهم يتميّزون من بقية كل المليشيات والجيوش والأنظمة من ليبيا غربًا إلى إيران شرقًا أنهم منذ عشر سنوات لا يصرفون رواتب الموظفين الحكوميين في مناطق سيطرتهم!
قد يقول قائل إن هذا هو ديدن الحكم والسياسة في دولنا منذ تكونها الحديث، وأن هذا هو حال الدنيا فالمسلّح هو الذي يحسم الأمر في النهاية. العنيف في النهاية يقرر، هذا صحيح، ولكنه وهو يقرر لا يستحضر سلاحه فحسب، حتى أبشع الأنظمة العربية لم تحكم بالرُّعب فقط؛ مثلا نظاما البعث في سورية والعراق حتى التسعينيات من القرن الماضي لم يحكما بلادهما بالمعتقلات والإذلال فقط بل كذلك بالإصلاح الزراعي ودعم الفلاحين والتوسيع الفاسد لجهاز الدولة حتى يستوعب آلاف الموظفين الجدد كل سنة والتأطير الحزبي-الأيديولوجي وتقطير السياسات الإفقاريّة وهلم جرًا. كانت هذه محاولات نظام البعث في البلدين (مع إهمال فوارق مهمة بينهما في هذا المقام) تأمينَ قواعد اجتماعيّة يستقر عليها مبنى النظام. ما بعد 2011 كان أمرًا مختلفًا: رُكلت القاعدة الاجتماعية ركلًا عنيفًا وحلّ مكانها السلاح المسنود بالعصبيّات الجهويّة والإثنية والطائفية في بعض الدول العربيّة، والمؤسسات المسلّحة في بعضها الآخر.
شعبيًا الشعور العام الذي يحكمنا عربًا منذ السابع من أكتوبر هو أننا غثاءٌُ بلا قيمة. هذا التبكيت الذاتي (غير المفيد ولكن المُستحق) بحد ذاته هو دليل على أهمية الناس؛ فنحن نقول هذا لأن الشعوب العربيّة لم تتحرك ضاغطةً على أنظمتها، وهذا يفترض ضمنًا أن الجماهير العربيّة العزلاء كان بإمكانها تغيير الواقع بدرجة أو أخرى لو أنها تحرّكت. أظهرت غزة محوريّة الجماهير العربيّة وإن بشكل معكوس وهو أتعس الأشكال الممكنة: عاقبة سكونها وسكوتها كان استمرار الإبادة.
إقليميًا تلقى "محور المقاومة" ضربات في مقتل بعد السابع من أكتوبر. ويمكن فهم هذا السقوط المدوي والسريع بأدوات وأفكار متنوعة، ولكن الأكيد أن العنصر الاجتماعي أحدها إن لم يكن هو العلّة (بالمعنيَيْن) الرئيسة. مثلًا عملية تفجير أجهزة بيجر أعضاء حزب الله (مدنيين وعسكريين) في سبتمبر/أيلول 2024 لم تكن خرقًا ناتجًا عن تفوق تقني بل عن تخلخلٍ في القاعدة الشعبيّة والعنصر البشري في حزب الله نتج بدوره عن أشياء كثيرة على رأسها تقوقعه المتفاقم في عصبيّته الطائفيّة منذ 2011، وإهماله أهمية تعافي الاقتصاد اللبناني الاستراتيجية في تأمينه، هذا علاوة على أن مشاركته في الحرب السوريّة ربما أحدثت تغييرًا في طبيعة البناء البشري داخله نتيجة التورط في تجارة المخدرات والاختلاط والتنسيق مع مليشيات المرتزِقة الذين لا يتوقع منهم مناقبيّة عالية أو التزام أيديولوجي، ولا يجوز استبعاد أن هناك داخل الحزب من روّعته تلك الفظائع في سوريّة ورفض اعتماد الحزب على قوة السلاح حصرًا ضاربًا عرض الحائط بكل الروادع القيميّة. ليس التخابر مع الخارج لأجل المال فقط؛ هناك من يعتقدون أنهم يؤدون خدمة لبلادهم ولقضيتهم إن استطاعوا استئصال الجهات التي تمثّلهم أو تحكمهم بالعنف رغم شرعيّتها المجروحة_ ولو على يد إسرائيل.
الأرجح أن الاختراق الإسرائيلي المروّع للنظام الإيراني هو بدوره اختراق بشري في المقام الأول؛ الاختراقات بفعل الفارق التقني تحدث عبر نقاط رخوة في النظام، وكل نظام فيه نقاط ضعف أمنيّة يمكن استغلالها إذا تأمنت تقنية مناسبة، ولكن التغلغل الإسرائيلي في إيران يمر عبر شروخ في الدولة لا تستطيع التقنية إحداثها.
المجتمع يُطل برأسه بعد السابع من أكتوبر حتى في ما يمكن أن نسميه المسألة التقنية؛ أي إشكاليّة أن الطرق المعهودة في التقدم التقني ممنوعة علينا عربًا بسبب إسرائيل، ولكن مواجهة إسرائيل تستلزم السير في طريق التطوير العلمي، وبالتالي نحتاج تفكيرًا معمقًا في كيفية اجتراح طريقة غير تقليدية للتقدم التقني تتحايل على الموانع السياسية المفروضة علينا. ولكن ونحن نفكّر في ذلك علينا أن نستحضر في أخلادنا أن التقنية طرفٌ في علاقة جدليّة مع المجتمع، ومن العسير تخيل مجتمع يستفيد من تقدمٍ تقني بينما هو مصر على تخلفه السياسي والاقتصادي.
باكستان دولة نووية وتستخدم التقانة النووية في التطبيب وإنتاج الطاقة ولكن تدهورها الاجتماعي منع تحوّل التقانة النووية إلى عاملٍ في تعظيم وزن باكستان في السياسة الدوليّة أو في تحولها إلى مثال تنموي يُحتذى في الإقليم، بل وليس من الشطط التخمين بأن التقدم التقني النووي أطال في عمر فساد النظام السياسي وسيطرة الجيش على السياسة في باكستان. التقدم التقني إذا لم يواكب بتطوير سياسي-اجتماعي قد يتحوّل إلى ورمٍ في الدولة؛ خاصةً إن كان التركيز في أبحاث التطوير على موضوع واحد تُسخّر له الموارد المستنزفة بفعل الفساد مما يُبلِي مؤسسات الدولة وقطاعاتها الاقتصادية وبنيتها التحتيّة الضعيفة في الأصل.
استثمرت إيران بكفاح ومثابرة في برنامجيها الصاروخي والنووي وحققت نجاحات علمية تثير الإعجاب (ويجب على العرب التعلم من تجربتها هذه) ولكن النتيجة لحظة الصدام مع إسرائيل كانت متواضعة قياسًا إلى التضحيات والتقدم العلمي الذي أُنجز في البرنامجين؛ تخلف الدولة سياسيًا وبالتالي ضعفها الاجتماعي الهيكلي ثَلَمَ إنجاز التقدم العلمي في البرنامجين وخصم الكثير من فاعليّتهما وربما دمّرهما. وهنا نصل إلى خلاصة بخصوص محاربة إسرائيل: أي دولة عربية أو مسلمة تواجه إسرائيل اليوم، عليها بالطبع شق طريق التقدم العلمي، ولكن الهوّة بينهما ستحتاج عقودًا من العمل الشاق كي تُجسر، ولهذا فالأجدى عليها الاستثمار بالتوازي في التقدم السياسي وتصليب العنصر البشري تخفيفًا لمفعول الضربات الإسرائيلية الأكيدة التي ستتلقاها نتيجة الفارق التقني، وحمايةً لتقدّمها العلمي الوئيد ورفعًا لكفايته في الصراع.
السابع من أكتوبر وحروبه يطلق رصاصات متواليّة على حقبة استبدال السلاح بالقاعدة الاجتماعية، وواهمٌ من يظن أنه نجا ويمكنه الاستمرار في الاتكاء على عقب البندقيّة؛ هذا الاتكاء كان من مَقاتل نظام الأسد الذي عمّر نصف قرن، والسلاح والتفوق في العدد والعتاد لم يعوزا النظام في مواجهة عملية ردع العدوان في خريف 2024؛ كان لديه من المسلّحين والسلاح الكثير إلى درجة أن إسرائيل شنت أضخم حملة جوية في تاريخها لاستهداف مخازن سلاحه غداة سقوطه، أما الأنظمة التي تعتقد أنها في أمان من نتائج سياسة اعتمادها على العنف لأنها لا تحارب إسرائيل_ فتعتقد مخطئة أن السقوط لا يأتي إلا بالسلاح ولا يكون إلا ميلودراميًا ولا يتم إلا على يد إسرائيل الدبقة.
إحدى خلاصات حروب وتحوّلات ما بعد السابع من أكتوبر ليست أن السلاح ثانوي؛ السلاح على العكس يفرض أمرًا واقعًا، والعنف يفعل فعله المبهر في التاريخ_ بل أن ثمة حدودًا اجتماعيّة للسلاح، وتوسيع حدوده تلك يكون بتقدّم المجتمع نفسه وبدون ذلك يصبح السلاح قصير النفَس؛ بإمكانه فرض الأمور ولكنه لا يطيق ضمان استمرارها حتى لبضع سنوات إن عاكسته الظروف. من هنا يمكن اشتقاق استنتاج ختامي: المواطنة لم تعد مسألة نضال شعبي ونخبوي أو حلم سياسي؛ في زمن إسرائيل المسعورة المواطنةُ في هذه البقعة من العالم مسألة أمن قومي.