صنعاء 19C امطار خفيفة

ابنة شيخ، وشقيقة ثائر، وزوجة سياسي قاد خمس حكومات

عزيزة أبو لحوم تروي حكايات النضال والمنفى والحب في زمن الثورة (الحلقة 2)

عزيزة أبو لحوم تروي حكايات النضال والمنفى والحب في زمن الثورة (الحلقة 2)

في الحلقة الثانية، تفتح الأديبة والشاعرة عزيزة عبدالله أبو لحوم أرشيف ذاكرتها على تحولات الثورة ومخاضات التغيير السياسي والاجتماعي في شمال اليمن، قبيل اندلاع ثورة 1962. وتسرد للزميلة رحمة حجيرة حكايات المنفى والحركة الوطنية، ودور المرأة في قلب التحولات. من الريف اليمني إلى القاهرة، مرورًا برحلة شاقة وسرية بين صنعاء وعدن. ومن إذاعة "صوت العرب" التي كانت تبث الحماسة في قلوب اليمنيين، إلى كتاب "وقائع ومؤامرات ضد اليمن" الذي حرّك مشاعرها تجاه مؤلفه محسن العيني قبل أن تراه، حيث كانت الكلمة الوطنية هي البوصلة التي وجّهت قلبها وعقلها معًا.

 
وبأسلوب قصصي آسر، تسرد الأستاذة عزيزة حكاية فتاة مراهقة تغادر وطنها في مغامرة استثنائية لا تشبه سواها، وتخوض دروبًا جديدة مليئة بالمفاجآت. وفي لحظة فارقة داخل مطار القاهرة، تكتشف أن الصوت الذي ينادي باسمها لم يكن سوى صوت محمد محمود الزبيري، الشاعر الثائر الذي طالما سمعت كلماته تهدر عبر الأثير، لتبدأ من حي الدقي فصلًا جديدًا من حياة تلك الفتاة التي ستصبح لاحقًا واحدة من أبرز الوجوه النسائية اليمنية في الفكر والسياسة والثقافة.
 

"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.

 
 

رحمة: مرحبًا بكم في الحلقة الثانية من مذكرات الأديبة عزيزة عبدالله.

في الحلقة الأولى، استمعنا إلى قصة فتاة حلمت بالتعليم في مجتمع مغلق. أما اليوم، فنفتح صفحة جديدة من الذاكرة، عن زمن الثورة حينما انتفضت البنادق، وارتفع العلم الجمهوري، وكان لعائلة عزيزة عبدالله دور في تلك التحولات.
 

رحمة: مرحبًا بكِ أستاذة عزيزة مجددًا.

في الحلقة الماضية تحدثنا عن والدك الشيخ عبدالله، ونود أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن والدتك. هل هي من حريب؟

 
عزيزة: نعم، من وادي حريب.
 

رحمة (مازحة): "أنا أشتي حبيب من حق وادي حريب"!

 
عزيزة: للمعلومة، هذه القصيدة كتبها شقيقاي صالح ومحمد، وكانا يتبادلان أبياتها بيتًا ببيت.
صالح ومحمد ابو لحوم

رحمة: هل هما من كتباها؟

عزيزة: نعم، هما من كتباها، فهما شاعران، لكنهما كانا يخجلان من كتابة الغزل.
 

رحمة: إذًا كانا يكتبان الشعر.

عزيزة: نعم.
 

رحمة: كان من المألوف حينها أن يتبادل الذكور والإناث القصائد، أليس كذلك؟

عزيزة: لم يكن ذلك شائعًا في وادي حريب. هذا التقليد كان أكثر حضورًا في نهم والمناطق القريبة منها.
 
رحمة: كيف تعرّف والدك على والدتك؟
عزيزة: كان والدي متزوجًا من ابنة عم والدتي، لكنها توفيت، وبعد ذلك خطب والدتي وتزوجها. لم يتعرّف عليها إلا في ليلة الزفاف.
رحمة: لكنهم قالوا إنها كانت جميلة؟
عزيزة: نعم، كانت جميلة.
رحمة: وماذا حدث بعد ذلك؟
عزيزة: تزوجا، وانتقلا إلى صنعاء، ثم اندلعت ثورة 1948، فعُدنا إلى قريتنا، ثم عدنا إلى صنعاء بعد سنتين أو ثلاث سنوات. كان عمري حينها ما بين أربع إلى خمس سنوات.
رحمة: ووالدتك لم تكن تفارقك.
عزيزة: أبدًا، لأني كنت وحيدتها. حملت أكثر من مرة، لكن للأسف في ذلك الوقت كان كثير من الأطفال يتوفون.
على سبيل المثال: خالتي، ابنة جميلة التي كانت بمثابة والدتنا جميعًا، أنجبت سبعة أطفال، ولم يبقَ لها سوى ثلاثة. ووالدتي أيضًا أنجبت سبعة، لكن لم يعيش منهم سوى أنا. أما خالتي الأخرى، ابنة محسن عبدربه، فأنجبت ثلاثة أو أربعة، وعاش منهم اثنان فقط.
 
رحمة: ما أسباب هذه الوفيات برأيك؟
عزيزة: لم يكن هناك تطعيم، ولا تحاليل دم. وكان إذا مرض الطفل يُعطى "سمن".
 
رحمة: بعد الولادة؟
عزيزة: نعم، مباشرة.
 
رحمة: هل تعتقدين أن هذا كان سببًا في الوفاة؟
عزيزة: أتذكّر شيئًا لا يزال يؤلمني حتى اليوم.
 
رحمة: ما هو؟
عزيزة: عندما سافرت مع ابنتي هدى من واشنطن إلى اليمن، وكان عمرها 24 يومًا، لاحظت والدتي أنها لا تشبع، فكانت تصرّ أن أعطيها "سمن". فقلت لها كلمة لا زلت أندم عليها حتى اليوم: (هل تريدين قتلها كما قتلتِ أولادك الستة؟). كانت كلمة قاسية جدًا، ولا زالت تؤلمني كلما تذكّرتها.
 
رحمة: من المؤكد أن والدتك سامحتك، فهي أم مميزة. لكن لو أردنا أن نوصِفها، ما الذي كان يميزها بالنسبة لكِ؟
عزيزة: كانت أولًا نشيطة جدًا، وكان والدي يفتخر بها دائمًا. هل تعرفين "التنور" الذي يُخبَز فيه؟ كانت والدتي تشعل اثنين في آنٍ واحد، تنهي الخبز في أحدهما وتنتقل إلى الآخر. وبالطبع لم تكن وحدها، كانت لديها مساعدات.
تنور الحطب
وبعد إعداد الخبز، كان لا بد من تجهيز الغداء للرعاة والعاملين في "الجرب" (المكان الذي يُستخرج منه الماء)، وكانت هناك من تُسمى "المغدّيات"، أي النساء اللواتي يوزعن الطعام، كل واحدة منهن تذهب لتوصيل الغداء لجهة: بعضهن للرعاة، والبعض الآخر للعاملين في المياه.
 
رحمة: هل كانت شخصيتها قوية؟
عزيزة: لا بأس بها، كانت متزنة.
 

الانتفاضة القبلية

 
رحمة: نعود الآن إلى مرحلة مفصلية في حياتكم. في عام 1959، حدثت انتفاضة القبائل، وذكرتِ سابقًا أن الإمام أخذ منكم رهائن، ومنهم ابن أخيك طارق. وترددت أنباء حينها عن هدم منازلكم. حدّثينا عن تلك الفترة بتفاصيل أكثر.
 
عزيزة: نعم، كانت تلك الأحداث أثناء وجود الإمام أحمد في روما للعلاج، وكان البدر وليًا للعهد.
كنتُ حينها في صنعاء عند أخي من أجل الدراسة، وكان إخوتي علي وسنان قد أنهوا دراستهم ودخلوا المدارس العلمية، أما أنا فبقيت في البيت. كان يحضر إلى إخوتي عدد من الشخصيات مثل الزايدي، الرويشان، وحميد الأحمر الذي أُعدم لاحقًا.
Img 20250717 Wa0035
وعندما عاد الإمام أحمد إلى اليمن، ألقى خطبته الشهيرة: "هذا الفرس، وهذا الميدان"، وبعدها جاء أحدهم إلى أخي وأبلغه أن عليهم مغادرة صنعاء فورًا، لأن حملة اعتقالات تستهدف أبناء المشايخ. غادر علي وسنان إلى قريتنا في نهم، واجتمعت القبائل هناك. في تلك الأثناء، طلب الإمام من حميد الأحمر أن يأتي إليه وقال له إنه "في وجهه"، أي في حمايته، وقيل إن حميد ذهب إلى الإمام في السخنة بناءً على ذلك. كان من بين رجال القبائل شخص يُدعى يحيى الدهمشي، جاء إلى الوادي وقال لأخي: "أنا لن أتركهم يذبحوك يا أبو لحوم، عليك بالخروج الآن، لن نستطيع حمايتك". فخرج علي وسافر عبر البيضاء إلى عدن، أما سنان فخرج من بيحان إلى عدن أيضًا.
 
رحمة: وأنتم، ماذا حدث لكم آنذاك؟
عزيزة: لم نسلم أيضًا.. خرج الجيش لتدمير منازلنا، وكان قد سبقهم الجيش إلى تدمير منازلنا في محافظة إب.
رحمة: كيف تم تدميرها؟
عزيزة: قاموا بتفجير المنزل من الأعلى ثم توقفوا. بعدها خرجوا إلى نهم، وهناك وجدوا أخي صالح، وكان هو المتبقي في القرية، فأخبرهم بأن المنزل ليس لعلي وسنان فقط، بل هو بيت الأسرة بالكامل.
 
رحمة: تقصدين أن فيه نساءً وأطفالًا؟
عزيزة: نعم. وتم الاتفاق معهم على تدمير منزل صغير نُسب إلى علي وسنان، وادّعوا أنه ملك لهما، بينما تم استثناء المنزل الكبير باعتباره بيت الأسرة.
قبل دخول الجيش إلينا، أخذوا النساء الكبيرات في السن والصغيرات، ومن بينهن أختي دولة، ابنة الزوجة الأخيرة لوالدي، وكان عمرها أقل من أربع سنوات. نقلونا إلى منطقة الجدعان، عند البدو، وكانوا طيبين للغاية واستضافونا بأريحية.
Img 20250717 Wa0024
 
رحمة: نعم، وكانت تلك مرحلة انتقال في حياتكم. ماذا عن أختك دولة؟
عزيزة: كانت تبكي طوال اليوم. أما أخي محمد، فكان قد اعتُقل في منطقة السخنة. هو أصغر إخوتي، وأقربهم إلى قلبي، رحمه الله.
 
رحمة: كان عمرك حينها أربعة عشر أو خمسة عشر عامًا، أليس كذلك؟
عزيزة: نعم، بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة.
 
رحمة: وكم كان عمر أخيك محمد؟
عزيزة: بين العشرين والخامسة والعشرين تقريبًا. كانت أختي الصغيرة تبكي كثيرًا، ولم تكن تنام في "الجرف"، وكانت النساء الكبيرات يرددن لها: "حَجّبي محمد"، أي "ادعي له او انطقي بالخير عنه".

الشيخ محمد ابو لحوم

 
رحمة: أي أنهم كانوا يخشون أن يُذبح؟
عزيزة: لا، المقصود أن محمد لا يزال في قبضة الإمام. بعد ذلك خرج الجيش، وكان هناك تفاهم مع أخي صالح، الذي تصرف بحكمة كبيرة. لم يسمح بأن يُفعل بنا كما فُعل في إب. في قريتنا، كانوا قد جلبوا المتفجرات.
 
رحمة: نعم، وهذا ما أردت سؤالك عنه.. كانوا ينهبون المنزل ثم يفجرونه؟
عزيزة: نعم. وبعدها يتجهون للتفجير. لكن صالح تفاهم مع القائد "أبو طالب" وبعض المشائخ الذين كانوا يتوسطون بين القبائل، وكان من بينهم مشائخ من مذحج، فجاؤوا مع الجيش، وتم الاتفاق على تدمير المنزل الصغير فقط، وانسحب الجيش بعد أسبوعين من قريتنا.
 
رحمة: كانت مرحلة رعب وقلق.. المطلوبون هاربون، والمطاردون مطاردون.
عزيزة: بالضبط. وبعدها، الحمد لله، عدنا إلى منزلنا الكبير فوجدناه سليمًا لم يُمس. أما بيت أقربائنا فقد دُمّر، وفضّلوا التضحية به على أن يُفجر المنزل الأكبر. لاحقًا، أفرج الإمام عن أخي محمد، وأشيع حينها أن علي وسنان سيسمعان بأمر العفو وسيعودان، ليروا أن أخاهما لم يُصب بأذى. بينما حميد الأحمر وآخرون أُعدموا، أما محمد فقد عُفي عنه. وكان برفقته الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، الذي أُفرج عنه أيضًا.
عبدالله الأحمر وابناء قبيلته

 

"صوت العرب": المذياع الذي بشّر بالثورة

 
رحمة: هل ما زلتِ تتذكرين ما كانت عليه مطالب القبائل حين أعلنوا انتفاضتهم ضد الإمام؟
عزيزة: لا أعرف هل أسميها تمردًا أو...
 
رحمة: وماذا كانت المطالب تحديدًا؟
عزيزة: المطالب بدأت تتبلور عبر إذاعة "صوت العرب" من القاهرة. كان الأستاذ الزبيري والأستاذ النعمان يخطبون ويتحدثون عن الثورة. وكان ذلك بعد الانفصال بين سوريا ومصر.
 
رحمة: بمعنى أن تلك كانت بوادر ثورة؟
عزيزة: نعم.. وكان كل واحد منهم يتفاعل معها. وأتذكر أن أخي صالح، في الساعة الثامنة مساءً، كانوا جميعًا يجتمعون حول المذياع ليستمعوا إلى إذاعة "صوت العرب"، وكانوا ينتظرون صوت الزبيري أو أحمد سعيد، ذلك الصوت القوي المميز: "هنا صوت العرب".
رحمة: كانت الإذاعة تهيّئ الناس للتغيير والثورة؟
عزيزة: الأهم أنها زرعت فيهم إرادة التغيير. بعد أن هدأت الأوضاع، عاد أخي علي من عدن، وكان يحمل معه كتبًا ومجلات ومواد ثقافية كثيرة. أما أنا، فكنت أقرأ كل ما يقع بين يدي.
 

الكتاب الذي أشعل شرارة الحب السياسي

 
رحمة: بمعنى أن الأوضاع هدأت، فعاد الشيخ علي من عدن ومعه زاد معرفي، وبدأتِ أنتِ، كما وصفك الأستاذ محسن العيني، تلتهمين الكتب صفحةً صفحة.
 
عزيزة: والصور، الصور بالذات هي التي أثّرت فيَّ أكثر من أي شيء آخر. في نهاية تلك المواد، كانت هناك صور الثلايا وكل من أعدمهم الإمام. وفي نهاية الألبوم، وُضعت صورة الإمام أحمد، وتحتها كُتب: "وهذا هو الجزار".
 
رحمة: هل تقصدين كتاب "وقائع ومؤامرات ضد اليمن" الذي ألّفه الأستاذ محسن العيني؟ هل يعني أن الحب بدأ من ذلك الكتاب؟
عزيزة: يعني هذا البطل الذي تجرأ وقال ما قاله عن الإمام... هذا شيء كبير بالنسبة لي. وطبعًا، كان هناك حديث بينه وبين أخي علي عندما كان في عدن مع سنان. وكانت هناك عبارة واحدة أقولها وتخصّ ذلك الموقف، قال سنان: "لماذا لا تزوجه يا علي؟" فردّ علي: "والله لو أقطع له من لحمي... ".
 
رحمة: بمعنى أنهم كانوا على صلة بمحسن العيني، وأرادوا تزويجه، ولم يقولوا: كيف نزوّج ابنة الشيخ بشخص خريج مدرسة الأيتام؟
عزيزة: نعم، هكذا... لكنه كان وقتها قد أنهى دراسته من جامعة السوربون ومن القاهرة.
 
رحمة: لكن ما أود قوله، أن عقلية المشايخ حينها لم تكن متحجرة، لم يكن هناك تعنّت بأن الزواج لا يكون إلا من ابن فلان أو ابن القبيلة. كانت هناك قضية كبرى تجمعهم، وكانوا مستعدين للتغيير.
عزيزة: بالضبط، خصوصًا أخي علي.
 
رحمة: وبعد أن بدأ الإعجاب بسبب عبارة "وهذا هو الجزار"، ما الذي حدث؟
عزيزة: قال لي أخي علي: "هل تعلمين من كتب هذا الكتاب؟ إنه صديق أخيك سنان. وسنان هو بالنسبة لي الابن، والأخ، والولد، وكل شيء... "، ثم سألني: "هل تتزوجين به؟" بعدها أخبرنا أمي أنني سأسافر.
 
رحمة: هل شعرتِ بالخجل؟ لأن المرأة آنذاك، كان يُقال إنها تشعر بالحرج... هل قلتِ "نعم"؟
عزيزة: أريد أن أخبركم بشيء... عندنا، خصوصًا في حريب ونهم العوالي، كانت المرأة إذا أرادت رجلاً تقول له: "أنت تباني مثلما أبَاك؟" (أي: هل تريدني كما أريدك؟).
 
رحمة: إذًا، كان ردك عاديًا ووافقتِ.
عزيزة: أخبرته أنني موافقة، لكني سألته: "كيف سنتعامل مع والدتي؟ كيف نقنعها؟"
 
رحمة: هل كان من المحتمل أن ترفض؟
عزيزة: طبعًا ممكن، لأني وحيدتها، ودائمًا معها. فقلت لها إني سأسافر إلى صنعاء وأجلس هناك للدراسة، ولن أذهب إلى مكتب الزمر، بل إلى سيدتنا التي كانت تدرّسنا في "العلمي". وافقت على سفري وقالت إنها سعيدة، وأرادت أن أدرس "السبعة الأقلام"، رغم أنه لم يكن معي سوى ثلاثة فقط.
 

رحلة التهريب من صنعاء إلى عدن

 
رحمة: وأنتِ قلتِ لها إنك ستكمّلين الباقي ووافقت.
 
عزيزة: نعم، وافقت أن أسافر. وكان معي ابن أخي صالح، وكان عمره وقتها أربع سنوات، وذهبنا إلى صنعاء. وهناك قضينا أسبوعًا، وكان معنا أخي علي ومحمد. واتفقنا على السفر إلى عدن، وكان محسن حينها هناك. وتمّ ترتيب الجوازات بأسماء مختلفة...
 
رحمة: كيف بأسماء مختلفة؟ تقصدين أسماء غير أسمائكم الحقيقية؟
عزيزة: نعم... باسم "الرداعي".
رحمة: لماذا؟
عزيزة: لأن اسم "أبو لحوم" كان ما يزال "عينه حمراء" (أي أنه اسم يثير الحذر والملاحقة). المهم، سافرنا في سيارة بعد السحور، لأن تلك الفترة كانت في رمضان. تحركنا من باب اليمن، لأن السيارة لم تكن تدخل شارعنا في شارع معمر، ومشينا أنا، وأخي محمد، ومحسن ابن أخي صالح، وكان معنا حمّادي علي كمرافق. ركبنا سيارة هايلوكس...
 
رحمة: أنتم كنتم تسمّونها "موتر"، أليس كذلك؟
عزيزة: نعم، موتر... صعد حمّادي إلى جانب السائق، ثم محسن ابن أخي، وأنا جلست في الطرف، مرتدية "الشرشف".
 
رحمة: مغطاة بالكامل... إلى أين كانت وجهتكم؟
عزيزة: إلى عدن، من صنعاء.
 
رحمة: حتى يذهبوا بكِ إلى العريس؟
عزيزة: نعم، وأمي كانت تجهز "الذمول" والكعك وترسلها لي إلى صنعاء.
 
رحمة: لأنها كانت تعتقد أنكِ ما زلتِ هناك؟
عزيزة: بالضبط. كان السائق يتوقف في ذمار للنوم، ونبقى هناك طوال اليوم، ولا نتحرك إلا ليلًا.
 
رحمة: وكيف كانت الطرق ليلًا في ذلك الوقت؟
عزيزة: عندما سافرت، لم أكن أرى شيئًا، كنت مغطاة العينين ومستندة على المقعد.
 
رحمة: والسيارة كانت تسير في طرق غير معبّدة، ولا توجد حمامات... كيف كنتم تتصرفون خلال الطريق؟
عزيزة: من صنعاء إلى ذمار ثم إلى إب، نزلنا عند أسرة أصدقاء لإخوتي، وكانت جوازاتنا باسم "الرداعي"، وكان ابن أخي محسن كلما سأله حمّادي: "ما اسمك؟" يردّ: "الرداعي"، وإذا اهتزت السيارة يقول: "أنا ابن اللحومي".
 
رحمة: من الخوف! ولم يُكشف أمركم؟
عزيزة: لا، لم يُكشف أمرنا. وبعد ذلك، وصلنا إب، وهناك طلبت من امرأة أن أستحم، فقالت: "شتت بمن شتت بكم!" وكنا حينها في إب.
 
رحمة: كم استغرقت الرحلة إلى عدن؟
عزيزة: خمسة أيام.
 
رحمة: وهل مررتم عبر تعز؟
عزيزة: سرنا من ذمار إلى إب، ونزلنا في بيت الصلاحي (حفظ الله من بقي، ورحم من مات). استقبلونا وأكرمونا، وطيّبوا خاطري، وفتحت "البقشة" الخاصة بي، وأخرجت فستانًا جديدًا. كانوا قد جهزوا لي مجموعة من "الزنين" (الفساتين)، وكان من عملها لي بيت "الكميم"، وهو أحد وكلاء والدي، واستمر بعد ذلك مع إخوتي.
عبدالعزيز الكميم
عبدالعزيز الكميم (الله يذكره بالخير) قال لي إن الورقة التي فيها صرف المستلزمات لا تزال معه، كتبوا فيها: "صرفنا لعزيزة عبدالله..." وكانوا يسمونني "عزيزة لحومة"، خصوصًا في صنعاء.
 
رحمة: كانوا يؤنثون الاسم مع اللقب؟
عزيزة: نعم، فكتبوا: "صرفنا لها شرشف، واثنين زنين، وثلاثة أشياء، وطرح، وغيرها."
 
رحمة: نحن نريد تلك الورقة... سأتواصل مع الأستاذ عبدالعزيز وسنعرضها.
عزيزة: هو ذكّرني بها، وسألته: هل دفعوا لك أم لا؟
 
رحمة: لا بد أن نأخذها!
رحمة: كان سفركم يتم ليلًا فقط، هل كنتِ تعرفين أنكِ وصلتِ إلى إب أو تعز؟
عزيزة: كل الرحلة كانت ليلًا، وفي النهار نتوقف... لم أرَ شيئًا.
 
رحمة: لا إب ولا تعز؟
عزيزة: لا شيء، باستثناء المرتفع عندما صعدنا إليه، وقلت إننا قريبون من "ورف" (بعد منطقة سمارة بمحافظة إب)، وتساءلت لماذا لا نذهب إلى منزلنا، فقد أصلحوه بعد تدمير الدور الأعلى، لكن البيت كله اهتز. وفي الليل، بعد الإفطار، اتجهنا إلى تعز، ووصلنا إلى بيت صالح لأخذ تصريح لمواصلة الطريق نحو الراهدة وتلك المناطق. لم أرَ شيئًا من تعز كما رأيت من ذمار.
 
رحمة: كل ذلك كان ليلًا، والطرق غير معبّدة؟
عزيزة: لم أرَ شيئًا، لكني كنت أسمع صوت المساعدين وهم يترجلون من السيارة ليضعوا حجارة تحت العجلات لتتحرك. وكل ما أسمعه هو: "وقفة".
 
رحمة: وأنتِ مغطّاة، جالسة دون حراك؟
عزيزة: نعم، كنت في مكاني. حتى عندما يعطونني الماء، كنت أشربه من تحت الغطاء. لاحقًا، وثّقت الرحلة بصور.
 

عدن: المدينة التي رأت الحرية من خلف نافذة

 
رحمة: وكأنكِ عشتي اللحظة من جديد. لكن الرحلة كانت تستحق من أجل محسن العيني. المهم، عدن... بالتأكيد كانت مختلفة، أول ما وصلتموها.
عزيزة: أول ما وصلنا كان إلى لحج، وهناك قال حمادي لعلي: "الآن يستطيع محسن أن يقول من هو". فقال محسن بن أخي: "أنا محسن بن صالح بن عبدالله أبو لحوم"... وكان ينطقها "أدول" بدل "أقول".
 
رحمة: يعني عدن كانت متنفسًا لسكان شمال اليمن، أول ما يدخلها الواحد يشعر بالأمان والجمال. هل كان فيها كهرباء؟ هل رأيتِ الشوارع هناك؟
 
عزيزة: وصلنا صباحًا إلى عدن. قال السائق لعلي حمادي، وهو من منطقته في إب: "حمى عليك، لماذا لم تخبرني أن الذي معك من بيت أبو لحوم؟" وسأله: لماذا أخفيت ذلك؟
وصلنا إلى الشيخ عثمان، إلى بيت أخي، وكان منزلًا للشيخ الهبيلي في بيحان، جميل جدًا. وكانت زوجة أخي، أم حميد، زوجة الشيخ سنان، قد سبقتنا. وكان سنان حينها في بيروت. وقبل وصولنا بـ48 ساعة، صدر أمر من الحاكم البريطاني بطرد محسن العيني من عدن.
محسن العيني
 
رحمة: لماذا؟ هل بدأت الشكاوى ضده؟
عزيزة: بدأ نشاطه يشتد، كان يكتب في الصحف مثل "صحيفة الفضول".
 
رحمة: كان يكتب؟
عزيزة: نعم، يكتب كثيرًا.
 
رحمة: ألم تشعري بالقلق من فكرة الزواج برجل مطرود من عدن؟
عزيزة: أولًا، لم أكن أعلم أنه طُرد عندما وصلت عدن.
 
رحمة: هل فكّرتِ قليلًا قبل أن تقبلي؟
عزيزة: لا، كنتُ قد اتخذت قراري... كنت مشبعة بالحماس، ثورة وتغيير، ووالدي كان جزءًا منها.
 
رحمة: وصلتِ عدن، ولكن مثلما حدث معكِ، هل كانت زوجة أخيكِ تخرج أيضًا؟
عزيزة: لا، بقيت في البيت سنة ونصف لم تخرج من بابه. لم نكن نخرج. أنا فقط خرجت، ذهبت إلى "الزُمُر" والمدرسة، أما أخواتي وزوجات إخوتي، فلم يحصلن على هذه الفرصة.
 
رحمة: كم بقيتِ في عدن؟
عزيزة: أتذكر أن تلك الأيام كانت حارة جدًا، في اكتوبر 1961.
 
 
 
 
رحمة: كم يومًا تقريبًا قضيتِ في عدن؟
عزيزة: حوالي أربعة أشهر.
 
رحمة: فترة طويلة.
عزيزة: كنتُ أرى الفتيات من نافذة بيتنا في الشيخ عثمان، وكان الشارع جميلًا، فيه مدرسة، وجامع، وأنوار خضراء تضيء في الليل. كنتُ أفتح النافذة وأتأمل. وكان هناك رجل من حريب، من أقارب والدتي، يقول لزوجة أخي: "دعيها ترى"، لكنها لم تكن تسمح لأحد بفتح النافذة.
 
رحمة: لماذا؟ هل حتى لا ترون النساء بشعورهن مكشوفة وهن يرتدين ملابس قصيرة؟
عزيزة: القصد أن الأمر كان يُعدّ عيبًا أن يرانا أحد في عاداتنا، مثل نمط العيش في إب ونهم.
 
رحمة: ألم تُصدمي حين رأيتِ النساء بلا غطاء رأس وبملابس قصيرة؟
عزيزة: كنت أنظر إليهن وأقول: يا الله، كيف سيتحمّلن نار جهنم التي ستأتي على أقدامهن.
 
رحمة: تقصدين عذاب الله، وليس حرارة الجو في عدن؟
عزيزة: نعم، أقصد العذاب.
 
رحمة: ألم تحلمي بأن تكوني أنيقة مثلهن وتخرجي مثلما يخرجن؟
عزيزة: كنت أودّ أن ألبس، ولكن ليس بهذه الطريقة. 
 
رحمة: هل كنتم تخرجون في نزهات داخل مدينة عدن؟
عزيزة: كان هناك منزل لعمي غالب في عدن، بينما نحن كنا في الشيخ عثمان. عندما كانوا يدعوننا، كانت زوجة أخي تسمح لنا بالذهاب ليلًا فقط، لا في النهار. وكان لدينا سيارة "مطربلة"، لكني لم أرَ شيئًا من المدينة.
 
رحمة: وكيف قضيتِ الأربعة أشهر هناك؟ هل كنتِ تكتبين؟ أم كانت أيامًا عادية؟
عزيزة: كنت أكتب قصائد عن والدتي، ثم انشغلت بمحسن ابن أخي الذي رافقني، لأنه كان سيدخل المدرسة في عدن هو وحميد.
 

الرحلة إلى القاهرة: الخوف من الطائرة والدهشة من المدينة

 
رحمة: ومتى انتقلتم إلى القاهرة؟ يبدو أنك محظوظة، حصلتِ على فرص كثيرة... تعلمتِ، وسافرتِ من ذمار وتعز وإب وعدن ثم القاهرة. كيف تم الترتيب؟
عزيزة: سافرنا إلى القاهرة من عدن  تقريباً في فبراير ١٩٦٢م.
 
في عدن، كانت أم سام معها ابنة كبيرة، تذهب مع حميد إلى المدرسة. كنت أراهم وأتذكّر نفسي أنا وطارق. كانت تذهب وشعرها مضفّر، ولا ترتدي "قرقوش" مثلنا، وكانت والدتي تُجبرنا على لبسه.
رحمة: "النمانم".
عزيزة: بلقيس، الطفلة الصغيرة، كانت بعمر سنتين أو ثلاث، وعدنان وُلد في عدن. هي مثل حالتي، سافرت كما سافرت أنا.
 
رحمة: بنفس الظروف؟
عزيزة: نعم، بنفس الطريقة. والأولاد كانوا عند أبناء عمومتي في سمارة بالصَفِي، وسافروا أيضًا بالتهريب.
 
رحمة: كانت تلك الطريقة السائدة. ولكن عندما صعدتِ الطائرة، ألم تشعري بالخوف؟ ألم تفكّري؟
عزيزة: دعيني أحكي لكِ من لحظة وصولي إلى المطار...
زوجة أخي جعلتني أرتدي حجابًا، لكن زوجة الأستاذ أحمد المروني كانت تأتي وتقول: "دعيها هكذا"، وتُغير من شكل الحجاب.
 
رحمة: تقصدين "الغُرّة" (خصلة الشعر الأمامية)؟
عزيزة: نعم. ثم تأتي زوجة أخي وتشير لي بيدها أن أصمت.
بعدها، التقيت بالأستاذ عبدالله الأصنج (رحمه الله) ومعه شخص آخر اسمه علي، كان صديقًا لإخواني.
 
رحمة: هل كانت هناك نساء معكِ في نفس الرحلة؟
عزيزة: لا، لم يكن معي أحد أعرفه، فقط نساء لا أعرفهن. كنت مع عبدالله الأصنج وعلي...
عبدالله الأصنج
 
رحمة: هل كان علي الرعدي؟
عزيزة: لا، ليس هو، لأن علي الرعدي كان في القاهرة حينها.
 
رحمة: لكن يبدو أن هناك ثقة كانت بين الأصدقاء.
عزيزة: نعم، وصلتُ بسلام.
 
رحمة: حدّثيني، كيف صعدتِ سلم الطائرة؟
عزيزة: لا أتذكر شيئًا. لا أتذكر نفسي. كان لدي عم اسمه سعيد، كان يقول لي: "سيأتي يوم تقولين الله أكبر، إلا وأنتِ في مكة". صعدنا الطائرة، وأتذكر أني جلست في أول كرسي، لم يكن بجانبي أحد. وعلى الكراسي الخلفية، إلى اليسار، كان يجلس علي وعبدالله الأصنج. كنت أراهم إذا التفتُ قليلًا، لكن لم أسمع حديثهم. كانوا يحركون أيديهم، ولم أكن أسمع شيئًا.
علي القاضي، وهو من عدن، كان معهم أيضًا. المهم، توقفنا في مطار الخرطوم قبل الوصول إلى القاهرة.
 
رحمة: كيف كانت مشاعركِ داخل الطائرة؟
عزيزة: كنت أشعر بالخوف، خصوصًا عندما رأيت المضيفات. كنت أتعجب: لماذا لم تُخَطّ فساتينهن من الخلف؟ كانت هناك فتحة في زي المضيفات، ولم أكن أفهم لماذا.
 
رحمة: في الطائرة، هل أحضروا لكم طعامًا؟
عزيزة: نعم.. عندما أقلعت الطائرة، قدموا طبقًا يحتوي على شوكولاتة، وكنت في الكرسي الأول، لا أحد بجانبي، وحتى الكرسي الآخر لم ألاحظ إن كان فيه أحد. عندما قرّبت المضيفة الطبق، أمسكته وأخذته كله، فأشار لي علي القاضي بأن آخذ واحدة فقط، فأخذت واحدة. في المرة الثانية، عندما أقلعت الطائرة من السودان، عادت المضيفة بالطبق، وقدمت لي بيدها واحدة فقط!
 
رحمة: وما الذي شعرتِ به عندما هبطت الطائرة في مطار القاهرة؟
عزيزة: عندما وصلت، كنت أتوقع أن أرى طارق وعبدربه وعبدالوهاب كما أخبرتني زوجة أخي أنهم سيكونون بانتظاري. لم يكن أحد داخل المطار، كانوا خلف الزجاج، وسمعت صوتًا تذكرت أني سمعته من قبل. كان صوت الأستاذ محمد محمود الزبيري. كانوا ينادون: "عزيزة أبو لحوم". وكان معي جوازي. كنت أقول لنفسي: "أنا سمعت هذا الصوت في الإذاعة!"
رأيت امرأتين وثلاث فتيات بانتظاري، وكنّ عمتي عزيزة زوجة الأستاذ، وعمتي ناجية أخت عمتي عزيزة، ومعهن أولاد إخوتي.
محمد محمود الزبيري
 
رحمة: وماذا كنّ يرتدين؟
عزيزة: كانت عمتي عزيزة تضع الطرحة حول وجهها وتغطي به وجهها بالكامل. أما عمتي ناجية، فكانت ترتدي "الصارمية" (المقرمة) ملفوفة حول وجهها. أما الثالثة فكانت زينب، رحمها الله، أخت أحمد النعمان.
 
رحمة: هل رأيتِ النساء في المطار؟ كيف كنّ؟
عزيزة: نعم، رأيتهن ذاهبات وعائدات. وكان عبدالله الأصنج وعلي حسين القاضي سيوصلون رحلتهم إلى بيروت.
 
رحمة: بالمناسبة، ألم يدُر بينك وبين عبدالله الأصنج أي حوار؟
عزيزة: لا.. لم نتبادل أي كلمة.
 
رحمة: لماذا؟
عزيزة: لأنهم - بعد أن رأوا محسن في بيروت - قالوا له: "سيزوجونك بامرأة بكماء!"
فقال لي محسن بعد زواجنا: "هو اعتقد أنكِ بكماء!" فأجبته: "وأنا ظننت أنه أصنج!"
 
رحمة: وهل كنتِ فعلاً تعتقدين أنه أصنج (أطرش)؟
عزيزة: نعم، هذا ما ظننته.
 
رحمة: نعود للأستاذ محمد محمود الزبيري...
عزيزة: أخذنا سيارتين. في السيارة الأولى كانوا أولاد إخوتي، أما أنا فكنت مع الأستاذ، وعمتي عزيزة، وعمتي رُقيّة، وناجية، والبنات.
 
رحمة: إلى أين ذهبتم؟
عزيزة: إلى الشقة التي كان يسكنها الأستاذ الزبيري، في عمارة "الصيرفي" بحي الدقي في شارع التحرير.
 
رحمة: ما شاء الله.. لا زلتِ تتذكرين كل التفاصيل! ألم تندهشي من العمارات العالية التي لم تري مثلها من قبل؟
عزيزة: توقعت أن العمارة كلها ملك للأستاذ الزبيري!
 
رحمة: لأنك سمعتيه في الإذاعة، فظننتِ أنه شخص ذو نفوذ وثروة.
عزيزة: نعم. وعندما أدخلوني في "القفص" - المصعد - أغلقوا الباب، وشعرت بأنه يرتفع. كان طارق ابن أخي معي، وشعرت بالأمان لوجوده. عندما فُتح الباب...
 
رحمة: ألم تصرخي أو تشعري بالخوف؟
عزيزة: لا.
 
رحمة: أنتِ كنتِ امرأة قوية، وما زلتِ كذلك.
عزيزة: كنتُ في القرية، ولو حصل ما حصل، لا يمكن أن أبكي.
 
رحمة: حتى لو في موت؟
عزيزة: لو كان موتًا طبيعيًا، نعم.. لكن لو أحد يُقتل أو غيره، لا أبكي. حتى على الموتى، لم يكونوا يسمحون لنا بالبكاء، وكانوا يعتبرونه عيبًا.
 
رحمة: أنتِ شخصية قوية وجريئة، تركتِ والدتك، وتحمّلتِ الفراق، وغامرتِ... بعد ذلك صعدتِ إلى منزل الزبيري، كيف كان؟
عزيزة: غرفة وصالة صغيرة، ويوجد في المنتصف ستارة داخل الغرفة لننام خلفها أنا والفتيات.
 
رحمة: فقط؟
عزيزة: كنت أقول: لماذا لا يفتحون الدواوين؟ لأني كنت أرى أبوابًا كثيرة بجانبهم. كنت أنزل إلى الدور الأسفل وأقول: عندهم قبائل وحراسات.
 
رحمة: وأنتِ لم تكوني معتادة في اليمن على وجود عمارات وشقق.
عزيزة: بعد فترة، فهمت... لم يكن لديهم مطبخ، فقط حوض وبجانبه بوتاغاز بدون فرن. عمتي ناجية وأولاد أخي كانوا يسكنون في شقة أكبر، فيها ثلاث غرف، واحدة للأولاد، والأستاذ وزوجته، وبنات عمتي ناجية، وأمّة الله، كلنا كنّا مع عمتي عزيزة في عمارة "الصيرفي".
 
رحمة: هل كان كل هذا في عام 1960 أو 1961؟ 
عزيزة: لا.. في أواخر 1961 تقريبًا، لأني بقيت هناك ثلاثة أو أربعة شهور. 
طبعًا، جاء محسن بعد ذلك.
 

اللقاء الأول: "العيني" من خلف الستارة

 
رحمة: قبل أن يأتي الأستاذ محسن، أنتم وصلتم، وهو متى جاء؟ بعدكِ بكم؟
عزيزة: تقريبًا بشهر وشويّة.
 
رحمة: وخلال هذا الشهر، أقمتِ في منزل الزبيري؟ 
عزيزة: نعم، بقيت هناك إلى ليلة زفافي.
 
رحمة: هل كنتم تخرجون للتنزه؟
عزيزة: كنا نخرج أنا وعبدالوهاب ابن أخي، وطارق.
كنا كل يوم نذهب للغداء في الشقة الثانية التي فيها عيال أخي، وعمتي ناجية، وأنا وبنتها، وعمتي عزيزة، والباقون في الشقة الصغيرة.
 
رحمة: والأستاذة رقية؟
عزيزة: أخت الأستاذ النعمان هي زينب التي رأيتها أول مرة في المطار، أما رقية فهي زوجته.
 
رحمة: بعد قدوم الأستاذ محسن، كيف أخبروكِ؟
عزيزة: تمهّلي قليلاً... أنا أخبرتكِ أننا كنا نذهب أنا وعمتي ناجية وأولاد أخي للغداء ونرجع للبيت. عبدالوهاب ابن أخي كان شقيًّا، كان إذا مشيتُ يسحب عني الحجاب فجأة، وأنا بالكاد كنت أُظهر وجهي.
 
رحمة: كنتِ متجملة من نفسك؟
عزيزة: نعم.. عملت شيئًا، ولو علمت أمي أو أخي صالح، لا أدري ماذا كانوا سيفعلون. المهم، كانت عمّتي عزيزة وعمّتي رقية تذهبان للعلاج في القصر العيني، في المستشفى، وبعد ذلك كنّ يقلن: "جئنا من القصر العيني، ذاهبات إلى القصر العيني".
 
رحمة (ممازحة): العيني طُرد من عدن، لكنه يملك قصرًا ومستشفى!
عزيزة: أنا لم أكن أعرف أنه مستشفى.. بعد ذلك قالوا إن أسعد راجح، الذي كان رئيس اتحاد عمال العرب، قد وجد لكِ شقة، وسنزفّكِ إليها. كان ذلك بعد أن جاء محسن.
 
رحمة: لكن، هل رأيتِ محسن؟
عزيزة: رأيتهم من خلف الستارة.
 
رحمة: عندما جاء محسن إلى بيت الزبيري، أين كنتِ أنتِ؟
عزيزة: في غرفة عمّتي عزيزة.
 
رحمة: كيف كان شعورك في تلك اللحظة؟ هل دقّ قلبك؟
عزيزة: كنت أريد أن أراه، لكن ماذا أفعل؟ البنات كنّ يضحكن عليّ.
 
رحمة: وهل سمعتِ صوته؟
عزيزة: سمعت صوته، لكن صوت الأستاذ الزبيري كنت أعرفه، أما صوت محسن فلم أكن قد سمعته من قبل.
 
رحمة: أقصد، هل سمعته عندما دخل إلى البيت؟
عزيزة: نعم، دخل مع أحمد المعلمي، والأستاذ النعمان، وواحد اسمه علي سيف الخباني، وكان رجلًا طيبًا... أنا من وراء الستارة نظرت إلى الأستاذ النعمان، لأنه قال: "أريد أن أرى عروسة محسن".
محسن العيني والنعمان
 
رحمة: لم تخبريني بذلك! الأستاذ النعمان قال إنه يريد أن يراكِ؟ هل قابلته قبل أن تسترقي النظر إلى الأستاذ محسن العيني؟
عزيزة: طبعًا.
 
رحمة: وماذا قال النعمان عندما رآكِ؟
عزيزة: قال: "أنتِ ما تتخبي إلا وأنتِ خيبة".
 
رحمة: استفزّكِ؟
عزيزة: نعم، وأنا فتحت الستارة... وبعدها، أعطاني هدية: عقد. وكان يفعل ذلك دائمًا مع بناتنا، من تتزوج أو تُخطب، أو في أي مناسبة. رغم حالتهم، كانوا كرماء، وما لديهم يقدّموه للجميع.
 
رحمة: وهل ألبسكِ العقد؟
عزيزة: هو حاول، لكني رفضت، وضعتُه حول رقبتي بنفسي، ثم جعلته يُغلقه.
 
رحمة: بعد أن استرقتِ النظر للأستاذ محسن، أوصفي لنا: ماذا كان يرتدي؟
عزيزة: كان يرتدي قميصًا بأكمام قصيرة.
 
رحمة: ما لونه؟
عزيزة: لا أتذكر، لكن ربما كان بيج، وكان سادة.
 
رحمة: وهل أعجبكِ؟
عزيزة: نعم، كان شعره كثيفًا، لكني من تسبّبت له بالصلع! هو كان أجملهم من بين الذين دخلوا المنزل.
 
رحمة: عين المحب؟
عزيزة: جايز... أنا أحب البطولة.
 
رحمة: لأنه كتب "هذا هو الجزار" بقوة... وكتاب؟
عزيزة: نعم، لأن هذا شيء كبير.
 
رحمة: هل سألوكِ منذ البداية إن كنتِ تريدينه أم لا؟ لم يُعطوكِ فرصة لرؤيته... نحن نريد أن نعرف هذه التفاصيل. هل غيّرتِ رأيكِ؟ أم لم تغيّريه؟ كيف كانت الضغوطات؟... لكن سنتحدث عن ذلك في الحلقة القادمة.
عزيزة: هم لم يسألوني، لأن الكلمة كانت بين سنان وعلي محسن.
 
رحمة: ولا يوجد مجال للتراجع؟
عزيزة: لا. حتى الإنجليز، عندما طلبوا منه الخروج، قال له سنان أخي: "ستلتحق بك أينما كنت".
 
رحمة: يعني أن العائلتين قد حسمتا الموضوع...
 
إذًا، سنخوض في التفاصيل في الحلقة القادمة.
 
مشاهدينا، إلى هنا تنتهي الحلقة الثانية، ولا يزال لدينا الكثير من المعلومات التي ننتظرها من الأستاذة عزيزة... نترقّبكم في الحلقة الثالثة لنستكمل بقية حكاية توطيد العلاقة بين الأستاذة عزيزة والأستاذ محسن العيني.
 
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً