صنعاء 19C امطار خفيفة

دروسٌ يمكن أن نتعلمها

الواقع الماثل أمامنا في الوطن العربي وفي محيطه الإقليمي، بكل ما فيه من آلام وبكل ما يمر به من مخاضات، يجعلنا نتوقف أمام الحالة الإيرانية الراهنة باهتمام كبير. فهي حالة يتوجب علينا أن نتمعن فيها ونتعلم منها، سواءً اختلفنا معها أو اتفقنا.

 
وليس من الصواب أن نقلل من أهمية تصديها للعدوان الصهيوني، لا سيما إذا ما قارنا مستوى هذا التصدي بأوضاعنا وأحوال حكوماتنا المؤسفة. وليس من الصواب أيضًا أن نبخس ما راكمته من عناصر القوة والاستعداد غير العادي وإدارة معركتها العسكرية والسياسية بكفاءة نفتقر إليها نحن. وعلينا أن نسترشد بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداءَ بالقسط ولا يجرمنَّكم شنآنُ قومٍ على ألَّا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتَّقوا الله، إن الله خبيرٌ بما تعملون" (المائدة: آية 8).
 
لقد امتصت إيران الصدمة الأولى الناتجة عن الهجوم الصهيوني المباغت، الذي مهدت له عملية تضليل وإيهام متقنة اضطلعت بها الإدارة الأمريكية. وبعد أن امتصت الصدمة، انتقلت سريعًا إلى الهجوم المؤثر. بل إن المرشد الأعلى سارع إلى تفويض معظم صلاحياته للمجلس الأعلى للحرس الثوري، بعد أن أطلق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية تهديده العلني باغتياله. هذا التفويض مع الترتيبات الأخرى والهيكليات المرنة التي تعمل بها الدولة الإيرانية، رغم ما تبدو عليه في شكلها العام من تعقيد، تمكِّن آلية الدولة كلها، بكل قطاعاتها المدنية والعسكرية والأمنية، من مواجهة أي أحداث مفاجئة، كاغتيال رأس الدولة، واغتيال قادة الصف الأول في مختلف أجهزتها، ولا سيما في الأجهزة الحساسة كالقوات المسلحة والأمن. فعند وقوع مثل هذه الأحداث المفاجئة، يتم نقل السلطات والصلاحيات فورًا إلى قيادات أخرى مؤهلة وجاهزة لاستلام مهامها الجديدة بسرعة وسلاسة ودون حدوث أي إرباك أو فوضى أو تباطؤ في الأداء. وعلى هذا النحو تستمر المقاومة ويستمر التصدي لأي عدوان خارجي، بنفس الوتيرة وبنفس القوة والكفاءة السابقة.
 
هذا واحد من الدروس التي يجب أن نتعلمها، وتتعلمها حكوماتنا على وجه الخصوص. فالرضوخ والاستسلام لن يحميانا ولن يبعدانا عن دائرة الخطر. إن ما يمكن أن يؤمن الحماية لنا ويجعلنا قادرين على الدفاع عن أنفسنا وعن مصالحنا هي المقاومة القوية، في عالم يحترم الأقوياء، وإن طغوا وبغوا، ويحتقر الضعفاء ولا يسمع لهم صوتًا، وإن كانوا أصحاب حق.
ولكي تكون المقاومة فعالة وناجحة، لا بد من ابتداع أشكال من التنظيم ومن أساليب العمل المرنة والفعالة، مع بناء الذات ومراكمة عناصر القوة وتحديد الهدف والتمسك به ورسم المسار المؤدي إليه وتوفير الشروط الضرورية لتحقيقه. وهذا ما فعلته إيران، وما نرى نتائجه الآن.
إن التصدي للكيان الصهيوني الغاصب وشركائه أمر ممكن. وهذا ما تثبته إيران اليوم وتثبته المقاومة الفلسطينية. وعبر التصدي له، لا عبر التطبيع معه والاستسلام لمشيئته، سيصبح زواله حتميًا. فهو كيان عدواني متوحش طارئ غير قابل للبقاء. قد لا يزول اليوم أو غدًا أو بعد غد، ولكنه سيزول حتمًا، مهما طال بقاؤه. وهنا أقتبس فقرات، تعزز اليقين لدينا بزوال هذا الكيان الغاصب، بما يمثله من تهديد وجودي لأمتنا، أقتبسها من مقال قديم، نشرته في يناير 2007م، تحت عنوان "الكيان الصهيوني الغاصب غير قابل للبقاء":
"1. الكيان القابل للبقاء لا يمكن أن يؤسَّس على الدعاوى الكاذبة والأساطير والأوهام التاريخية، التي لا صحة لها، والتي سرعان ما تتهاوى أمام النقد التاريخي.
2. الكيان القابل للبقاء هو وجود منسجم مع محيطه، يتفاعل معه ويندمج فيه. أما الوجود الصهيوني في فلسطين فهو وجود عدواني دموي، يثبت كل يوم أنه غير قابل للتعايش مع محيطه العربي.
3. الكيان القابل للبقاء لا يمكن أن ينتهج سياسة التدمير والقتل المستمرين وتجريف الحقول واغتصاب الأرض وتشريد السكان الأصليين. لأن سياسته هذه تولد عناصر مقاومته وتحمل في طيَّاتها بذور فنائه.
4. الكيان القابل للبقاء لا يواجَه بمقاومة مستمرة ترفض وجوده، وأصحاب حق مغتصب، مصممون على استعادة حقهم من الغاصب مهما تطلَّب الأمر من تضحيات ومهما تعاقبت الأجيال، التي يورِّث كل جيل منها للجيل الذي يليه مهمة مواصلة النضال لتحرير الأرض وإنهاء وجود هذا الغاصب.
5. الكيان القابل للبقاء لا يكون جزءًا من القوى الخارجية المتآمرة على البلدان المحيطة به، ورأس جسر لهذه القوى وممثلًا لمصالحها.
6. الكيان القابل للبقاء يستمد مقومات بقائه من قدراته الذاتية. وأي كيان يستمد وجوده من قدرات الآخرين، أي من الدعم المادي والسياسي الدائم، الذي يُقدَّم له من قوى خارجية، ذات مصالح في المنطقة، هو كيان زائل لامحالة. لأن المصالح تتغير والحسابات تتبدل. وسيأتي يوم يصبح مد هذه القوى للكيان الصهيوني بأسباب البقاء مضرًا بمصالحها. وعند ذلك ستملي عليها مصالحها التخلي عن هذا الكيان وتركه يواجه مصيره المحتوم". انتهى الاقتباس.
إننا، وأقصد هنا الوطن العربي كله، مقصرون حتى الآن عن القيام بواجباتنا الوطنية والقومية، غائبون عمليًا عن الأحداث الجارية، غير مؤثرين فيها، مكتفين بمشاهدتها وإطلاق الأحكام الجاهزة عليها، غافلين عن واحد من أهم التوجيهات القرآنية، وأعمقها وأوجبها وأمضاها في الدفاع عن النفس والمال والعرض والوطن "وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّة" (الأنفال: الآية 60). وهو توجيه عملت به إيران، كما هو واضح، على مدى العقود الماضية، استعدادًا لمثل هذا اليوم، ولم نعمل به نحن. وهذا درس آخر يجب أن نتعلمه.
وهناك دروس أخرى تفصيلية كثيرة، يمكن أن نتعلمها من التجربة الإيرانية، منها:
1. كيفية مراكمة عناصر القوة وتجاوز عناصر الضعف واحترام الذات ومواجهة الأعداء دون تردد، إذا أجبرونا على مواجهتهم.
2. كيفية التعامل مع محيط إقليمي ودولي معظمه معادٍ، وبعضه ضالع في التآمر، بصورة مكشوفة أو مستترة.
3. كيفية العمل والمثابرة والتسلح بالعلم، والتقدم خطوة فخطوة نحو أهدافنا وتحقيق مشروع للبناء واضح المعالم، نضعه نحن ونحشد كل قدراتنا لتحقيقه، وندعمه بالقوة المسلحة القادرة على الدفاع عنه وعن الوطن كله.
4. كيفية العمل السياسي بذكاء وحنكة وقدرة على المناورة، عندما يستوجب الأمر المناورة مع الأعداء، دون أن تؤدي المناورة إلى التفريط بثوابتنا الوطنية وبمصالحنا العليا.
5. كيفية بناء الدولة وفق هيكلية واضحة وأداء منضبط.
6. تأمين أنفسنا ضد الاختراقات الأمنية التي يستهدفنا بها أعداؤنا. وهذا درس مهم للغاية، نتعلمه من خلال إخفاق إيران فيه، وما ترتب على إخفاقها من نتائج خطيرة. فقد نجح الصهاينة في تحقيق اختراق أمني إلى أعلى المستويات القيادية، العسكرية والأمنية والسياسية في إيران. مما جعل هذه المستويات القيادية تبدو مكشوفة في تحركاتها وأعمالها وخططها، وسهَّل اغتيال رموزها في اللحظات الأولى للمعركة. وهذا أمر له نتائجه الخطيرة، المؤدية عادة إلى إحداث إرباك عام في القيادة والسيطرة والبنى العسكرية والمدنية، وإحداث تأثير سلبي حتى في الروح المعنوية، في لحظة شديدة الحرج. ولا شك في أن أنظمتنا وأجهزتنا الحاكمة، وربما مكوناتنا السياسية أيضًا، تعاني من اختراقات أوسع وأخطر مما كشفت عنه الحالة الإيرانية، ومن قبلها حالة حزب الله. لأن أوضاعنا الهشة تجعل اختراقنا أكثر سهولة من اختراقهما. وهذا ما يجب الانتباه له.
وبغض النظر عن مآلات الحرب الدائرة الآن، بين الكيان الصهيوني وإيران، ومن سينتصر ومن سيُهزم فيها، إذ إن النصر والهزيمة مسألتان احتماليتان في الحروب، يتوقفان على عوامل كثيرة، شديدة التشابك والتعقيد، بغض النظر عن ذلك علينا أن نتعلم من التجربة الإيرانية، التي اعتمدت إيران فيها على قواها الذاتية، وعملت في ظل حصار طويل، بجد وصبر ودأب، على بناء قدراتها وحماية نفسها والمحافظة على سلامة أراضيها واستقلال قرارها السياسي. وهذه كلها دروس مفيدة، علينا أن نتعلمها من هذه التجربة، مع تجنب ما هو غير مفيد فيها، كخطابها الطائفي الصاخب، الذي من شأنه أن يعمق الانقسام في المجتمع العربي، وفي غيره من المجتمعات الإسلامية، ويضعفها جميعها أمام أعدائها. وهو خطاب يتوجب على إيران، وهي تخوض الحرب، أصالة عن نفسها بصورة مباشرة، ونيابة عنا (مع الأسف) بصورة غير مباشرة، يتوجب عليها أن تعيد النظر في خطابها هذا دون تأخير، وأن تتوجه إلى المسلمين عامة بخطاب وسطي تصالحي جامع، يؤلِّف بين قلوبهم ويسهِّل رص صفوفهم، ويعزِّز بهم موقفها في مواجهة العدو المشترك. إن الخطابات الطائفية الصاخبة، من أية جهة صدرت، ضررها أكثر من نفعها، ولا تخدم في نهاية الأمر إلا أعداء الأمة.
وأخيرًا: إذا كانت أحداث التاريخ تمثل دروسًا يتوجب علينا تعلمها والاستفادة منها في قادم الأيام، فإن من أهم دروسها أن عدم تحديد العدو الرئيسي تحديدًا صحيحًا في أي صراع، يوقعنا حتمًا في أخطاء ندفع أثمانًا باهظة لها، ولو بعد حين. وقصة الثور الأبيض والثور الأسود قصة رمزية معروفة، تؤكد هذا المعنى، وتُظهر سذاجة الثورين، كما تُظهر مكر وخبث وتوحش الذئب، ولا أقول الأسد كما في القصة، فالأسد ملكة الغابة أشرف نفسًا وأعلى همة وأبعد ما يكون عن هذه الصفات. ولعل قصة الثور الأبيض والثور الأسود هذه تعبر تعبيرًا بليغًا عن واقع حالنا. فالذئب الذي يتهيأ لأكل إيران، سبق أن أَكل العراق من قبل، وكانت إيران حينها تقف مع الذئب وتسانده بكل إخلاص. وهذا ما قد يجعل بعضنا لا يكترث لما يحدث لإيران الآن، بل ربما قد يتشفَّى بها. رغم علمه أن الذئب إذا تمكن من أكلها، فإن نتائج ذلك ستكون نتائج كارثية، لا على إيران وحدها، بل على الوطن العربي كله. وهذا يقتضي أن نعترف بحقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن الجوار الجغرافي قدر لا نستطيع أن نهرب منه، يفرض علينا أن نرمم علاقاتنا ونراجع مواقفنا ونصوب مساراتنا ونوحد جهودنا ونتخلى عن أوهام التوسع التي لا تولد إلا مزيدًا من الصراعات وعدم الاستقرار، ونبني علاقات جديدة، قائمة على حسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، والتعاون في كل ما يخدم مصالحنا المشتركة، والابتعاد عن كل ما يثير الخلافات والصراعات فيما بيننا، إذا أردنا أن نعيش بسلام، وأن نضع حدًا للذئاب الخبيثة المتربصة بنا، المتهيئة لافتراسنا جميعًا.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً