صنعاء 19C امطار خفيفة

أوروبا في زمن الإنكار الأخلاقي

بين كييف ورفح، أزمة تعيد تشكيل صورة أوروبا في العالم

لطالما قدّمت أوروبا نفسها كضمير عالمي، وصورة حديثة للسلام وحقوق الإنسان. غير أن السنوات الأخيرة، وما تكشّف فيها من أزمات، فضحت تصدّعات عميقة في هذا الادعاء. فبين المبادئ المُعلنة والسياسات المُمارسة، تتسع هوّة يصعب إنكارها.

 

في التعامل مع الحرب في أوكرانيا، لم تتردّد أوروبا في استدعاء قاموس القانون الدولي والكرامة الإنسانية، وسخّرت مساعدات تجاوزت 35 مليار يورو. أما في فلسطين، حيث تتوالى المجازر ويُحاصر أكثر من مليونَي إنسان، فقد اقتصر الدعم الأوروبي، وفق تقرير "أوكسفام"، على ما لا يتجاوز 0.7% من هذا الرقم. ليست المسألة مالية فحسب، بل أخلاقية في جوهرها. فالتباين بين الموقفين يعكس انحيازًا صارخًا لا يمكن تبريره تحت غطاء المصالح أو التحالفات.

هذا الخلل في البوصلة القيمية الأوروبية ليس جديدًا. في حرب العراق عام 2003، انقسمت أوروبا وترددت في مواجهة الأكاذيب التي سبقت الغزو. وفي البوسنة، انتظرت ثلاث سنوات قبل أن تتحرك لوقف الإبادة الجماعية في سربرنيتسا. وفي كل مرة، كانت المبادئ تُستدعى بعد فوات الأوان، بصيغة "نأسف" أكثر منها "لن نسمح".

اليوم، تُكرّر أوروبا النمط ذاته، لكن بوعي أكبر وصمت أعمق. تتغنّى بالعدالة في كييف، وتصمت أمام المجازر في رفح. تُدين احتلالًا وتدعم آخر. وفي الوقت الذي ترتفع فيه شعارات الدفاع عن "النظام الدولي"، تُبرم صفقات سلاح بمئات الملايين مع إسرائيل، كما فعلت ألمانيا عام 2023. أما انتقاد إسرائيل، فقد بات في دول مثل فرنسا وألمانيا مساويًا لتهمة معاداة السامية، تُقمع بسببه التظاهرات وتُصادر حرية التعبير، حتى داخل الجامعات.

هذا الانحدار لا يقتصر على السياسة الخارجية. في الداخل الأوروبي، تتحوّل مواقف بعض الحكومات من اللاجئين إلى أدوات خطاب انتخابي متطرف. في إيطاليا، تُصوّر أزمة الهجرة كتهديد وجودي لا كقضية إنسانية. وفي ألمانيا، تُخصَّص تريليون يورو لخطة تسلّح حتى عام 2035، مقابل إنفاق إنساني لا يتجاوز 1.5% من الموازنة. يناقش الناتو رفع الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج القومي، ويطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة "الاستعداد 2030" لضخ مئات المليارات في التسليح. وكل ذلك يُبرَّر بتصوير روسيا كعدو مطلق، ويواكب إعادة عسكرة القارة على حساب التوازن الهش بين الأمن والقيم.

لكن وسط هذا الانحدار، تبرز أصوات متفرقة، وإن بدت معزولة، تُذكّر بأن الضمير الأوروبي لم يُغادر المشهد تمامًا. من قاعات البرلمانات إلى شوارع المدن والجامعات، تتوالى المواقف الرافضة للصمت الرسمي: نوّاب يواجهون حكوماتهم باتهامات التواطؤ، مسؤولون ينتقدون الازدواجية الأخلاقية، وبلديات ومؤسسات تقطع علاقاتها مع إسرائيل، بينما تتقدم حركات طلابية ويهودية مستقلة بمواقف حاسمة تقول: "ليس باسمنا تُقصف غزة."

وفي الأيام الأخيرة، تصاعدت هذه الأصوات أكثر؛ خرجت مظاهرات حاشدة في روما، ووقّع أكثر من 1400 موظف أوروبي عريضة تطالب بعقوبات على إسرائيل. وأعلنت إسبانيا تجميد صفقات سلاح، بينما أظهر استطلاع أجرته شبكة ARD أن 73% من الألمان يؤيدون فرض ضوابط أشد على تصدير الأسلحة لإسرائيل، بما في ذلك 30% يطالبون بوقف تام. حتى رموز شبابية مثل غريتا ثونبرغ تحرّكت لكسر الحصار، في إشارات متزايدة على أن الصوت الأخلاقي، رغم عزلته، لا يزال حاضرًا.

إنها لحظات مقاومة مدنية تنازع التيار الرسمي وتعيد فتح السؤال الأهم: من يمثل القيم الأوروبية اليوم؟

ما تواجهه أوروبا اليوم ليس مجرد مأزق سياسي، بل أزمة هوية. فكل ما كانت تدّعي تمثيله - الكرامة، العدالة، القانون الدولي - يبدو هشًّا، أو مفرغًا من معناه. في لحظة يحكمها الخوف والمصالح والتواطؤ، تتآكل الصورة التي صاغتها عن نفسها بعد الحرب العالمية الثانية.

ووسط هذا الانكشاف، لا يكفي الاعتذار المتأخر أو الإشارات الرمزية. ما لم تملك أوروبا الشجاعة لمواجهة تناقضاتها، فستفقد تدريجيًا ما تبقّى من صورتها الأخلاقية، لا في عيون العالم فحسب، بل في ضميرها هي أيضًا.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً