قبل ثلاثة أشهر، كنا نتحدث أنا وحقوقية بارزة، عن ضرورة انبثاق ثورة نسائية، حتى لو تطلب الأمر حماية النساء بإقامة حكم ذاتي لامركزي في وجه منظومات القمع وعدم حمياتها لتعيش حياة كريمة. لم تمضِ أسابيع حتى اندلعت الشرارة في كل يوم سبت، تخرج النساء اليمنيات إلى الشوارع، بصرخة موحّدة تهتف: "نشتي ماء، نشتي كهرباء، نشتي راتب، نشتي نعيش، لا سعودي ولا دولار نشتي ثروات البلاد".
المرأة اليمنية اليوم تصرخ، لكنها لا تصرخ طمعًا في سلطة أو مكانة اجتماعية، بل صرخة للحياة بحدها الأدنى، صرخة من أجل كرامة إنسانية بديهية وحماية مستدامة. حين ترفع صوتها، لا تطالب بواجهة سياسية أو موقع رمزي، بل ترفض الاختناق، الجوع، التهميش، والخذلان. إنها صرخة نابعة من نجاعة روحٍ يمنية أنهكتها الأزمات، لكنها لم تُكسر.
لطالما كانت المرأة اليمنية نواة المجتمع الحي. لم تكن تابعًا باهتًا، بل ركيزة في الزراعة والتعليم، في التحكيم، في الاقتصاد، في الطب وفي التعليم وفي القضاء وفي النضال السياسي والاجتماعي. من أسطورة بلقيس التي حكمت بحكمة، إلى أروى الصليحية التي قادت بثبات، إلى نساء القرى والمدن اللواتي صمدن وسط المجاعات والحروب، كانت المرأة حاضرة تُنتج وتقاوم وتربّي وتداوي. لكن السياسة، حين تحالفت مع تردد ثقافات مكتسبة ومع البنية التقليدية القامعة، ومع شبكات الحزبية والدين والقبيلة، قررت أن تفرغ هذا الدور من مضمونه، أو تمحوه بالكامل.
ولم تعد المسألة تهميشًا من قبل "السلطة الذكورية" بالمعنى الضيق، بل تحولت إلى منظومة قمعية معقدة تضم في داخلها جيشًا من النساء أنفسهن، جُنِّدن لتمثيل النظام، والترويج له، وقمع النساء الأخريات، بل أُقحمن كأدوات لترسيخ سلطة لا ترى في النساء سوى وسيلة للتزيين أو لبث الهيبة، فيما يتم التنكيل بكل صوت نسوي حر يسعى للحياة والعدالة. القمع هنا لا يُمارس فقط من الرجل، بل من تركيبة سلطوية هجينة تستثمر النساء لقمع النساء، وتحول الوعي إلى جريمة والاستقلالية إلى خطر.
بعد الوحدة، وبالأخص منذ حرب 1994، دخلت النساء مرحلة تهميش ممنهج. أُبعدن عن مراكز القرار، وظهر تمثيل سطحي لبعضهن كواجهة شكلية لا تملك صلاحيات حقيقية، فيما حوصرت الأصوات الحرة، وتم تشويهها ووصمها بالخروج عن الثوابت الاجتماعية أو السياسية أو الدينية.
وفي المقابل، كانت آلاف النساء يعانين بصمت من الفقر والبطالة والعنف، دون حماية قانونية أو اجتماعية، وكأن مجرد وجود امرأة واعية بصوت حر صار تهديدًا لأسس السلطة القائمة.
ثم جاءت الحرب، فمسحت ما تبقى من هوامش الحرية. الحرب التي لم تفرّق بين شمال وجنوب، ولا بين امرأة ورجل، ألقت بثقلها على النساء أكثر من غيرهن. حُرمن من التعليم والرعاية الصحية والدخل والأمان. نزحن داخل البلاد وخارجها، وواجهن ابتزازًا يوميًا وانقطاعًا كاملًا عن الحياة الطبيعية. ومع ذلك، تم تهميشهن من الإعلام، من مفاوضات السلام، ومن مراكز صنع القرار، رغم أنهن الأكثر صمودًا وتأثيرًا في مرحلة ما بعد الانهيار.
وفي الوقت الذي جرى استقطاب بعض النساء في أدوار أمنية أو دعائية لصالح أطراف النزاع، كانت آلاف اليمنيات يكافحن وحدهن. يبعن الطعام على الأرصفة، يعُلن أسرهن، يتنازلن عن الذهب والأثاث، ويواجهن الجوع والتشرد بلا سند.
الواقع الاقتصادي شديد القسوة. في تعز، جفّت آبار المياه، وصارت مشاريع التحلية رفاهية لا تطالها اليد. الكهرباء تحولت إلى ترف، والمولدات إلى أدوات استغلال بيد عصابات متنفذة. تكلفة تركيب منظومة طاقة شمسية للمنزل تتجاوز خمسة آلاف دولار، مبلغ يفوق أحلام أغلب الأسر. الريال اليمني فقد قيمته، وسقوطه يعني سقوط كرامة الإنسان. حتى الإيجار يُدفع بعملة أجنبية لا يملكها إلا القلة.
ومع ذلك، لم تنتظر المرأة اليمنية إذنًا من أحد، ولا دعمًا من حزب أو سلطة. خرجت، قاومت، واشتبكت مع الحياة بما تملك من شجاعة وصبر. في عدن وتعز ولحج، قادت المظاهرات ورفعت صوتها عاليًا، لأن الصمت صار خيانة للنفس وللوطن.
ويبقى السؤال المؤلم: متى تُسمع صرخة نساء صنعاء وبقية المناطق الخاضعة للقمع؟ متى يُكسر الصمت المفروض داخل البيوت والسجون، وخلف جدران الجوع والابتزاز؟ متى يتوقف استخدام القلة القريبة من السلطة لأدوار شكلية مقابل كتم أفواه الأكثرية؟ متى يُعاد تعريف المرأة كشريك فاعل، لا كأداة للتلميع أو وسيلة لتجميل مشاريع قمعية؟
صرخة المرأة اليمنية اليوم ليست لحظة عابرة، بل ذروة تراكم تاريخي طويل من التهميش والمقاومة. اليوم، المعركة ليست فقط حول التمثيل السياسي، بل حول الحق في الحياة: في الماء، في الضوء، في الدخل، في الحليب، في الدواء، وفي البقاء على قيد الكرامة.
المرأة اليمنية ليست ضحية صامتة، بل فاعلة تقاوم بإصرار. صرختها ليست شكوى، بل فعل وجود ورفض للظلم، وسعي لبناء وطن لا يقصي نصفه ولا ينهار من داخله. هو صوت يدعو الدولة لإعادة ترتيب أولوياتها، لتبدأ بالحلول الجذرية لا بغياب جميع الموسسات أو وجود موسسات تسلب إيرادتها ويمنح الرفاهية لذوي المحسوبية.
الاعتراف بدور المرأة كشريك كامل في صناعة المستقبل ليس ترفًا ولا مجاملة، بل ضرورة وجودية. بدونها، لن تُكتب صفحة جديدة من التاريخ اليمني، ولن تُبنى مؤسسات وطنية تعكس تنوع المجتمع وأحلامه. في كل دائرة، يجب أن يكون للرجل امرأة تقابله، بنديةٍ كاملة، لا تابعًا شكليًا.
إن اليمن اليوم بحاجة إلى رؤية جديدة تُعيد للمرأة اليمنية مكانتها التي لا تقبل التنازل. رؤية تحترم حقها في التعليم والعمل والحماية من العنف، وتفتح أمامها أبواب المشاركة الحقيقية. هذه الرؤية لا تتحقق إلا بتضافر الجهود بين المجتمع المدني، والمؤسسات المحلية والدولية، والسلطات، لتوفير بيئة آمنة ومشجعة للنساء ليكنّ فاعلات مؤثرات في بناء وطن مستقر ومزدهر.
في النهاية، صرخة المرأة اليمنية ليست صدىً للحزن، بل نداءٌ للحياة، للحب، للأمل. صوت ينبض بالرفض للظلم، ويحمل بذور التغيير الحقيقي. فلتُسمع هذه الصرخة، ولتكن بداية لمستقبل لا يُبنى بنصفه، ولا يُدار بإقصاء نصفه الآخر.