في مقاله الموسوم بـ: "إلى المختلفين حول زعامة الوحدة"، الذي نشرته صحيفة الشورى الإلكترونية الغراء في عددها الصادر يوم الثلاثاء 27 يونيو 2025م، كتب القاضي عبدالعزيز منتقدًا من يتنازعون على زعامة وحدة لم تتحقق، ولذا فسوف أخصص هذا الرد ليس نقدًا لشخص الصديق القاضي عبدالعزيز البغدادي، بل تصحيحًا للوقائع التاريخية التي أغفلها مضمون مقاله حول وحدة اليمن، وسوف أرد على الذين ينكرون على الأستاذ علي سالم البيض مد الله بعمره.
فمن الثابت أن الشماليين بزعامة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، نزلوا إلى عدن وفي جعبتهم مشروعان للوحدة إما " فيدرالية" أو وحدة "كونفدرالية"، إلا أن علي سالم شخصيًا، ودون تنسيق مع رفاقه قيادات الحزب في اللجنة المركزية، وبالتحديد في نفق جولدمور، اتخذ قرارًا مصيريًا، وحقق حلمًا طالما تمناه الشعب اليمني، وعرض الوحدة الاندماجية، وسيقول لي قائل: لكنه أول من أعلن الانفصال؛ وهي تلك الفرية التي يتكئ عليها الانفصاليون الذين عمدوا الانفصال بالدم، يقولون ذلك افتئاتًا على الوقائع التاريخية التي تؤكد أن شريك الوحدة الشمالية قام باستهداف قيادات الحزب، واغتال أكثر من قيادي، وهاجم موكب رئيس الوزراء أثناء عودته من الصين، حيث قام بتلك الزيارة رغم وصول الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر إلى منزل العطاس، محذرًا ومتوعدًا أنه صمم على السفر، فصار، وعند عودته أرسلت الأطقم لثني موكب العطاس عن الدخول إلى العاصمة، لكنه وبشجاعة وجه موكبه ودخل عنوة إلى العاصمة، وتعرض منزله ومنزل رئيس البرلمان الدكتور ياسين سعيد نعمان للضرب بالبوازيك.

كما أن ذلك الشرط الذي وضعه الشيخ عبدالله أثناء التوقيع على "وثيقة العهد والاتفاق"، عرف علي سالم مغزاه، وتوجه إلى عدن، وعندما ألقى خطابًا قام للطيران الشمالي -حسب شهادة وزير الدفاع الأسبق الفريق محمد ضيف الله- بالتحليق في سماء مكان الاحتفال، فاتحًا حاجز الصوت، ثم تم القضاء على المعسكر الجنوبي الذي كان مرابطًا في عمران، وبعد السماح للجنود والضباط الذين تبقوا أحياء، ولما خرجوا من الراهدة تم قصفهم، وتم إنهاء المعسكرات الجنوبية المعسكر تلو الآخر من ذمار وحتى العند في محيط العاصمة الاقتصادية "عدن".
وعندما صدر قرار مجلس الأمن 923، واصلت القوات الشمالية الزحف إلى عدن، وعندما احتجت أمريكا على عدم التقيد بتنفيذ قرار مجلس الأمن واستمرار الزحف، رد عليهم الدكتور عبدالكريم الإرياني ردًا ساخرًا: "قرار مجلس الأمن وجه بوقف إطلاق النار، ولم يوجه بوقف الزحف"!
ولما أصبحت القوات الشمالية مطوقة على العاصمة الاقتصادية، توسط الملك فهد بوقف الزحف بمناسبة قرب حلول عيد الأضحى المبارك، ولأن أي انفصال يجب أن يتم في ظل وقف الحرب، استغل علي سالم البيض، وأعلن دولة "جمهورية اليمن الديمقراطي"، وهو انفصال عمن غدر بالوحدة السلمية، بدليل أن دستور "جمهورية اليمن الديمقراطي" هو دستور دولة الوحدة ووثيقة العهد والاتفاق، أي أن من يريد وحدة على هاتين الوثيقتين، فهو بطل الوحدة حتى وهو يعلن الانفصال عن الذين انقلبوا على دستور دولة الوحدة ووثيقة العهد والاتفاق.
نعم لقد تنازل علي سالم البيض عن رئاسة دولة الجنوب عام ١٩٩٠م، لقاء منصب نائب الرئيس، وهو قرار نابع من إيمان راسخ بالوحدة الاندماجية، لا من ضعف. وقد شهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح نفسه بهذه الحقيقة عام ١٩٩٤م
بقوله: "كنا نطالب بوحدة فيدرالية، لكن الأستاذ علي سالم البيض أصر على "وحدة اندماجية"... لهذا هو بطلها الحقيقي". بل إن الرئيس الليبي معمر القذافي وصف البيض في قمة بغداد العربية، بأنه "البطل الوحدوي العربي الأول"، تقديرًا لندرة هذا التنازل في تاريخ القيادات العربية، قائلًا: لقد أثبت علي سالم البيض أن مشكلة الوحدة هو من يتنازل لمن من القادة العرب.
أما إعلان البيض الانفصال في ٢١ مايو ١٩٩٤م، فكما أسلفنا، فلم يكن سوى رد فعل على اجتياح القوات الشمالية المحافظات الجنوبية واحدة تلو الأخرى، بدءًا من عمران وانتهاءً بمكيراس، وتطويق عدن قبيل عيد الفطر. وقد أكد في إعلانه التزامه بدستور الوحدة و"وثيقة العهد والاتفاق" الموقعة في عمّان برعاية الملك الحسين بن طلال، والتي نصت صراحة على تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم. هذا يعني أن الانفصال كان ردًا على نقض الطرف الشمالي للعهد، وليس رفضًا لمبدأ الوحدة.
لقد نقضت حرب ١٩٩٤م -التي سماها صالح "حرب المنفذ الواحد"- قرار الأمم المتحدة رقم ٩٢٣ الداعي لوقف استخدام القوة، وتسببت في خسائر جيوسياسية كارثية تمثلت في تنازل اليمن عن ١.٣ مليون كم² (شملت الربع الخالي ونجران) بثمن بخس، وفق تحليل خرائطي دقيق كشف أن المساحة الفعلية لليمن الموحد لا تتجاوز ٤٥٦ ألف كم²، خلافًا للأرقام الرسمية المبالغ فيها. والأمر الأكثر دلالة أن مخرجات الحوار الوطني الشامل (٢٠١٣-٢٠١٤م) أقرت بإجماع كل المكونات السياسية -بما فيها المؤتمر الشعبي العام وأنصار الله- أن حرب ١٩٩٤م ألغت فعليًا الوحدة الاندماجية.
تجاهل هذه الحقائق يعيد إنتاج الرواية الإعلامية القديمة التي روّجت لشعار "الوحدة أو الموت"، متغافلة عن نمط ثابت في استخدام القوة لفرض الهيمنة. فتحالف صالح مع حزب الإصلاح في ١٩٩٤م (الذي وصفه لاحقًا بأنه "كرة رمى بها بعد استخدامها")، ثم مع أنصار الله في ٢٠١٥م، كشف استراتيجية الاعتماد على العسكرة لتصفية الخصوم. وقد أدى ذلك إلى عواقب غير مسبوقة: تسفير الشماليين من عدن لأول مرة في التاريخ، وتصاعد مطالب فك الارتباط، وتدخل دول الجوار الذي حوّل اليمن إلى ساحة صراع إقليمي.
دولة الوحدة الاتحادية التي أكدها المشير عبد ربه منصور هادي -وفق مخرجات الحوار الوطني- ليست خيارًا طارئًا، بل هي التعويض التاريخي عن إخفاق الوحدة الاندماجية بعد تحولها إلى "إلحاق عسكري". وهي الضامنة الوحيدة لإنهاء ثقافة "الغزو الداخلي" التي جعلت اليمنيين -كما ذكر مقال البغدادي- "يحنون إلى ما قبل ١٩٩٠م". فالتجربة الجنوبية قبل الوحدة، رغم تحدياتها، حققت مكاسب اجتماعية نوعية في التعليم والصحة وتمكين المرأة، بينما عانى الشمال من هيمنة النظام القبلي والفساد المؤسسي، رغم تدفق تحويلات المغتربين التي خلقَت اقتصادًا موازيًا غير منتج.
فالواجب أن نكون صادقين عند إعادة قراءة التاريخ باعتبار الصدق ضرورة لبناء مستقبل مستقر. فالبطل الحقيقي للوحدة هو من يبنيها على دستور ووثيقة العهد والاتفاق، وهو الذي بناها ابتداء بتنازله كالبيض عام ١٩٩٠م، لا من يهدمها بسلاحه. اليمن الجديد يُبنى على حقائق التاريخ، لا على أساطير القوة، وعلى وثائق لا على انحياز.