توفيق الحكيم... زهرة العمر!

توفيق الحكيم زهرة العمر
غلاف زهرة العمر توفيق الحكيم

كتاب من 159 صفحة للرجل الذي عاد إليه عقله قبل أن يعود روحه بين فترتي حكم عبد الناصر والسادات!

حاول أن يتراجع عن حماسه لمرحلة ناصر، لتخذله مرحلة السادات، فعاد إلى قواعده السابقة ضائعا بين فرحة البعض به أديبا ومفكرا كبيرا ورغبة والده في أن يكون تاجرا!

بين يدي كتابه الأنيق الجميل شكلا واللطيف لطف فكرته موضوعًا؛ زهرة العمر كتاب، فكرته لطيفة جدًا:

"اندريه" وزوجته "جرمين" كانا صديقين للحكيم في باريس.. في لحظة ما سافر "اندريه" إلى ليل بشمال فرنسا للعمل في مصانعها، وظلا يتبادلان الرسائل. عاد الحكيم إلى مصر وظلت المراسلات قائمة بينهما حتى جرفهما كما يقول الحكيم تيار الحياة، فانقطعت المراسلات بينهما.

التقيا في عام 1936 عندما سافر الحكيم لقضاء الصيف.. كان قد ترك القضاء وذهب إلى وزارة المعارف مديرا لإدارة التحقيقات.

يقول "وجدت اندريه قد أصبح رجلًا مهما في الصناعة الفرنسية، أما جرمين فلا تزال على جمالها، وحده "جانو" طفلهما الوحيد لم يره، غدا بالطبع شابًا يسعى مع الطلاب في الحي اللاتيني، ويشاركهم تلك الحياة الصاخبة النشيطة الهوجاء".

في جلسة هادئة في بيتهما ظلا يتذاكران و"جرمين" بحميمية تلك السنوات التي مرت. قام اندريه بهدوء وعاد وبيده صندوق أنيق: "لم يكن من السهل أن ننساه و ننسى تلك الأيام، وهذه رسائلك عندنا نلمح فيها طيفك ماثلا امامنا".

يقول الحكيم: "... فمددت يدي إلى الصندوق على الرغم مني، واختطفت بحركة غريزية احدى الرسائل، وطفقت أقرأ واقرأ... حتى نسيت نفسي ومن حولي والشاي الذي أمامي؛ ولم أفطن إلى تنبيه الصديق وزوجه.. ولم أر سوى شيء وأحد. هذا شبابي حقا.. قد انتفض ماثلا لعيني.. كيف اتركه لكما؟.. و تنازعنا الرسائل".

وحسمت "جيرمين" النزاع آخر الأمر بقولها: إنا نثق بوعدك وكلمتك.. خذ رسائلك اقرأها كما شئت في شهر او شهرين على أن تردها إلينا بعد ذلك، فوعدت، وحملت رسائلي برفق وحرص وحنان، كأني أحمل الرماد المتخلف عن "زهرة العمر" الذابلة.. "

فتح الحكيم رسائله بعد عودته إلى مصر: "كنت كلما خلوت إلى نفسي أطالع رسالة او رسالتين وأنا أبتسم".

احتار ماذا يفعل بالرسائل، حتى خطر له أن ينقلها إلى العربية، فعل ذلك وحفظها.. وأعاد الأصل إلى اندريه في العام 1938.

قال يصف رسائله: "هي جزء مني.. وقطعة من حياتي.. هي زهرة عمري".

كم أديبا تبادل مع أدباء أو أشخاصا عاديين من الرسائل؟ أين ذهبت؟

في حياتنا يكون السؤال الذي أراه مهما:

أين الرسائل الشخصية التي تلقاها المقالح أو البردوني في حياتهم؟ لأنها تكون رسائل مهمة تعبر عن مختلف مراحل العمر! وحتى الشخص العادي تظل زهرة عمره في رسائله.

كان والد الحكيم يرغب وبقوة ان يصبح توفيق قاضيا لما كان يمثله القاضي والمحامي في ذلك الزمان.

في رسالة منه إلى اندريه يقول: "لقد خشي والدي المتوجع أن يجرفني التيار عن حياة القضاء التي عاشها بشرف، فأشار عليه المخلصون أن يقصيني عن مصر فترة من الزمان... فأرسلني كما ترى إلى هنا لعلي أسلو الفن، وانصرف إلى ما يتمناه لي من حياة قانونية محترمة، فماذا أنا قائل له الآن؟ وبماذا أرد على برقيته؟".

في نفس الرسالة يقول:

" إن اسمي كما تعلم مقيد منذ زمن بجدول المحامين في بلادي.. إني في عرف القانون محام، ولكن أي محام؟!... لقد كانت فجيعة لأبي المسكين أيام أن كان يسمع ويرى أني أنسى صفته كمحام، وانحشر في زمرة الممثلين، أو أولئك الذين يسمونهم عندنا " المشخصاتية "...

رسائل لطيفة تحدث فيها لاندريه عن سوء حظه في الحب وكذا النجاح إلى درجة انه ظن ان السماء رسمت له نصيبا خاصا به...

وفي رسائله حدثه عن الفن ومدارسه والمسرح وكيف كان حظه عظيما ان "جئت إلى فرنسا" لأقف على مسرحها العظيم وفنها الراقي..

لم يكن محاميا ولا قاضيا، بل مفكرا كبيرا في ظل حسرة والده ونظرة المجتمع إلى الفن ككل...

كتاب جميل، لا يمكنني هنا الإحاطة بمحتواه في كل صغيرة وكبيرة، هي إذا دعوة لقراءته إن أمكن.. ليقف من يقرأ على صاحب:

 

أهل الكهف

شهرزاد

السلطان

حمار الحكيم

عصفور من الشرق، وفيه أشار لأندريه

عودة الوعي

عودة الروح

لم يكن الحكيم أديبا عاديا أو مفكرا من هؤلاء الذين يمرون في حياتك فلا يتركون أثرا، بل يترك الأثر كله.

 

النداء

27 يناير 2024