نحن بحاجة للمصارحة

نحن بحاجة للمصارحة - محمد الغباري

مع أني كنت أتوقع ردود الأفعال الغاضبة على ما كتبته الأسبوع الماضي في هذه الزاوية، إلا أن كل مخاوفي لم تتوقع أن يرى أصدقاء أعزاء أن حديثي عن التصفيات العرقية في رواندا ستعني تهديدا أمنيا لجماعة جهوية بعينها بأنها ستدفع ثمن هذا الشحن المناطقي لوحدها.
بعد شهور قليلة على بداية حركة الاحتجاجات التي تزعمها المتقاعدون العسكريون ظهر أن الخطاب المعارض لنتائج حرب صيف 1994 لم توجه إلى نظام الحكم، بل اتجهت نحو استعداء الجغرافيا، واعتبار كل شخص ولد في الجزء الشمالي من البلاد أو كان لجده أصول جغرافية منها محتلا وسببا لما أنتجته تلك الحرب اللعينة، حتى وإن أدانها ورفضها.
أتذكر أن حديثا مطولا دار مع عدد كبير من السياسيين والصحافيين من مختلف المحافظات (حتى لا يقال إن الأمر كان محصورا على "الدحابشة") حول ما تضمنه خطاب ناصر النوبة في أول مهرجان أقيم في محافظة الضالع، والذي تضمن دعوة صريحة للانفصال، واعتبار أن كل منحدر من المحافظات الشمالية امتداد للاحتلال، وأن المعنيين بالنضال من أجل إزالة نتائج الحرب هم أبناء الجنوب فقط. عندها قال الكثير من الحضور إن هذا الخطاب لا يعني التحريض المناطقي والشطري بقدر ما هو ضغط سياسي على النظام للاستجابة لمطالب الناس، ووقف التسريح من الوظائف ونهب الأراضي في عدن ولحج وتصفية مؤسسات الدولة التي كان الحزب الاشتراكي يحكمها، لأن النظام لا يرضخ إلا لمثل هذا الخطاب، أما الخطاب العقلاني للحزب الاشتراكي منذ انتهاء الحرب فقد تجاهله الحكم وحتى أطراف المعارضة.
كانت صحيفة "الصحوة"، الناطقة بلسان تجمع الإصلاح، قد أكدت في افتتاحيتها على مشروعية هذا الخطاب، وأصلت له بالآية القرآنية: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم». لكن قياديا بارزا في المعارضة وسياسي مخضرم من محافظة لحج حذر من أن هذا الحطاب سيقود إلى كارثة، وأن هدفه العداء للجغرافيا وليس للنظام الذي يتحمل مسؤولية نتائج الحرب وتسريح عشرات الآلاف من وظائفهم.
اليوم وقد هدأت وتيرة الاحتجاجات فإننا معنيون بتقييم نتائج حركة الاحتجاجات، بشقيها الإيجابي والسلبي. ففي الشق الأول تمكنت الحركة من تسوية أوضاع نحو سبعين ألفا من العسكريين أو إعادتهم إلى الخدمة. وهي خطوة تعني أيضا إقرار الحكم بأنه مارس إقصاء لهؤلاء لمجرد أنهم جزء من دولة الاشتراكي، الذي هزمت قواته في الحرب. كما نجحت الحركة في إبراز قضية النهب الكبير للأراضي في عدن ولحج وحضرموت، وشكلت رأيا عاما مؤيدا لهذه القضية، وعملت على وقف هذا النهج.
لكن الخطاب الذي رافق تلك الفعاليات قد خلف على العارض انقساما اجتماعيا خطيرا لم تنتجه حرب 94، رغم فداحة الكارثة التي خلفتها على الدولة الوليدة. بل إن جزءا من هذا الخطاب ذهب نحو تجريم تاريخ الحزب الاشتراكي الذي هو في الأساس تاريخ الجنوب، لأنه وقبل دولة الاستقلال لم تكن هناك هوية جنوب بل مستعمرات ومحميات وسلطنات ومشيخات متعددة الولاءات والانتماء.
ولأننا اليوم على أعتاب مرحلة سياسية جديدة أعتقد أن الجميع بحاجة لمراجعة، حتى نحدد مطالبنا ونختار الأدوات الصحيحة من أجل تحقيقها، حتى لا نكرر مأساة أحداث يناير أو غيرها من الحروب العرقية أو المذهبية التي عرفتها دول غيرنا وحصدت المآسي والدمار.
malghobariMail