أكاديميون أفذاذ ومؤسسات أكاديمية ضعيفة

أثبتت حوادث التاريخ بطلان كل النظريات العنصرية، وفي مقدمها نظرية تفوق الشعوب الآرية، التي استندت عليها النازية والاستعمار الغربي، فالإنسان هو الإنسان في كل مكان، وما حققته بعض الشعوب الآرية وغير الآرية من تقدم علمي وتكنولوجي، وفي مجالات الاقتصاد والتنمية، يرجع إلى ظروف اجتماعية وسياسية وتنظيمية ومؤسسية، ولا يرجع إلى تفوق مورثاتها الجينية وقدراتها العقلية.

أقول هذا بمناسبة حملة النقد والتهكم التي وجهت ضد بيان مجلس جامعة صنعاء الذي قال فيه: إن جامعة صنعاء تفتح أبوابها للأساتذة والطلاب المفصولين من الجامعات الأمريكية والغربية، وحتى لا يُفهم من نقدنا لجامعتنا التي نعتز بها كثيرًا، أننا نعترف بتفوق الأكاديميين الأمريكيين ودونية الأكاديميين اليمنيين، فجامعة صنعاء، والجامعات اليمنية الأخرى، تمتلك كوادر أكاديمية عالية التأهيل، لا سيما أولئك الذين التحقوا بعضوية هيئات التدريس عبر المنافسة القائمة على تكافؤ الفرص، وتدرجوا في السلم الأكاديمي ابتداء من وظيفة معيد إلى درجة أستاذ، قبل أن يخضع التعيين في المجال الأكاديمي للولاءات السياسية، لكنهم يعملون في مؤسسات أكاديمية ضعيفة، تستبعدهم من مواقع صناعة القرار الأكاديمي، وتواجههم بمعوقات كثيرة تحول دون قدرتهم على أداء وظائفهم الأكاديمية كما ينبغي.
ويمكن تلخيص أهم العوامل التي ولدت مؤسسات أكاديمية ضعيفة في أربعة عوامل بنيوية رئيسة، تعاني منها الجامعات اليمنية في الشمال والجنوب منذ تأسيسها حتى اليوم:
العامل الأول، يتعلق بعدم حصول الجامعات على الأموال اللازمة لأداء وظائفها، فالسلطات القائمة حاليًا في كل مناطق اليمن، لا تخصص أية ميزانيات للجامعات، تمكنها من ممارسة أنشطتها الأكاديمية وأداء وظائفها، بل وصل الأمر حد عدم استلام هيئات تدريس الجامعات في المحافظات الشمالية مرتباتهم منذ سبتمبر 2016، وحينما كانت الدولة، قبل الحرب، ترصد ميزانيات للجامعات، كانت ميزانيات نمطية مقسمة إلى أبواب وبنود، مثلها مثل ميزانية مصلحة شؤون القبائل والوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية الأخرى، ولا تراعي الوظائف البحثية للجامعات، ولا احتياجاتها في مجال تبادل الخبرات مع الجامعات العالمية، ولا تنظيم المؤتمرات والندوات وورش العمل، ولا احتياج الجامعات لتدريب الطلاب في بيئات طبيعية واجتماعية خارج قاعاتها.

والعامل الثاني يتعلق بغياب الحريات الأكاديمية، ولعل آخر الإجراءات المنتهكة للحريات الأكاديمية هي تلك التي فرضت على أعضاء هيئات التدريس ما سمي الامتحانات "المؤتمتة" التي صادرت حق الأستاذ الجامعي في اختيار النظام الامتحاني الذي يتناسب مع المقرر الذي يقوم بتدريسه، بل إن نظام الامتحانات المؤتمتة لا يقيس سوى قدرة الطالب على التذكر فقط، إلى جانب ذلك فرض على الأقسام الأكاديمية قبول طلاب من خارج تخصصاتها للالتحاق ببرامج الدراسات العليا، والسماح للمراكز البحثية بتنفيذ برامج تدريسية وبرامج للدراسات العليا.

العامل الثالث، يتعلق بتسييس اختيار القيادات الأكاديمية، إذ يتم اختيارها وفقًا لمعيار الولاء، وليس بناءً على معيار الكفاءة والأقدمية والدرجة العلمية.
أما العامل الرابع، فيتعلق بعدم استقلال الجامعات، فعلى الرغم من أن القوانين تنص على استقلالية المؤسسات الأكاديمية، إلا أنها في الواقع تخضع لمركزية رأسية ومركزية أفقية شديدتين، فعلى مستوى المركزية الرأسية، باتت الأقسام العلمية يسيرها رؤساء أقسام خاضعون لما يمليه عليهم عمداء الكليات، الذين بدورهم خاضعون لما يمليه عليهم رؤساء الجامعات، ورؤساء الجامعات خاضعون لوزير التعليم العالي، أما المجالس (مجالس الأقسام، مجالس الكليات ومجالس الجامعات) فهي شكلية وخاضعة لتوازن القوة. وعلى مستوى المركزية الأفقية فإن وزارة المالية هي التي تعين المدراء الماليين للجامعات والكليات والمراكز البحثية، ووزارة الخدمة المدنية تعين مدراء شؤون الموظفين، ووزارة الشؤون القانونية تعين مدراء الشؤون القانونية.

أدت العوامل السابقة إلى أن الجامعات اليمنية تنظم كما لو كانت مكاتب لوزارة التعليم العالي في العاصمة والمحافظات، تمامًا مثل المكاتب التنفيذية للوزارات الأخرى، دون مراعاة لطبيعتها المفترضة كمصانع أفكار "think tanks"، ومؤسسات لإنتاج وتطوير المعرفة ونشرها في المجتمع، وتدار بالأوامر والتوجيهات، لا بما يحقق أهدافها.