أنيسة

إهداء
أهدي هذه القصة المتواضعة إلى أيقونة الحب والوفاء -في نظري- السيدة الفاضلة أنيسة علوان القرشي، زوجة العقيد سلطان أمين القرشي المعتقل منذ 1978م، ومنذ ذلك التاريخ وهي لا تمل ولا تكل من البحث عنه في كل مكان، في السجون والمعتقلات، في مرافق الدولة الرسمية، وفي كل المرافق المعنية بقضية المعتقلين قسرًا. القصة مستوحاة من سيرة حياتها، وإن اختلفت عنها بعض الشيء. بطلة حقيقية ملهمة تستحق أن تجرد لها الأقلام، وأن تصنع لها الأفلام؛ لما تحمله من خصال نادرة تؤهلها للبطولة، ولسمو القضية الإنسانية التي قضت من أجلها جل حياتها لتحقيقها، وهي إطلاق سراح زوجها وكل المعتقلين قسرًا. أنموذج رائع للمرأة اليمنية، بل والعربية أيضًا، المسكونة بالهموم والأحزان والأمل والتفاؤل معًا.

بارقة من نور تضيء في عتمة أحزان أنيسة، وخيط أمل جديد يلوح في أفقها عله يقودها إلى مكان رفيقها الذي فارقها في منتصف طريق العمر، بدأت بتجهيز نفسها للخروج في حملة "الجدران تتذكر وجوههم"، التي أقيمت لمناصرة قضية المعتقلين قسرًا، ونشرها لتكون قضية رأي عام، من خلال رسم وجوههم على جدران المدن الكبرى، وفي مقدمتها صنعاء.

أنيسة علوان زوجة العقيد سلطان أمين القرشي(شبكات التواصل)
أنيسة علوان زوجة العقيد سلطان أمين القرشي(شبكات التواصل)

أعجبت أنيسة بفكرة الحملة إعجابًا كبيرًا، وعقدت عليها آمالًا كبيرة، فلربما استطاعت هذه الحملة أن تحرك المياه الراكدة، وأن تشق جدران الصمت المطبقة على قضيتها، وأن تفتح الأبواب الرسمية وغير الرسمية التي أغلقت ومازالت تغلق أمامها في مسعاها للبحث عن زوجها منذ أكثر من ثلاثين عامًا؛ ربما ينجح الفن في ما عجز عنه القانون، يخفق قلب أنيسة الشاب متفائلًا وهو يحدثها:
ستكون هذه الحملة بداية الخير، وستشهد صنعاء كلها أنه معتقل بلا ذنب ولا محاكمة، ستشاركني المدينة كلها المطالبة بتحريره، وستكون خزيًا وعارًا على من لم تشفِ غليل قلوبهم أربعون سنة من اعتقاله في سجونهم، بهذه الحملة ستنكس رؤوسهم المتكبرة، وتظهر حقيقة إجرامهم.

هكذا يخفق قلبها فرحًا مع كل محاولة للبحث عنه منذ أربعين عامًا، ومع كل خطوة تبني أحلامًا، وتسير بثقة وإيمان بعدالة قضيتها، وتستنفر أبناءها وكل أقربائها للتوسل بما يملكون من وسيلة للاهتداء إليه، تحثهم على السعي الدؤوب والبحث في كل مكان، فلم يتركوا مكانًا إلا بحثوا فيه، حتى بلغ بهم السعي أعلى سلطة في البلاد، ولكن لا جدوى. تتعاقب الحكومات، وتكثر الأوراق والمستندات، ويزداد ملف القضية انتفاخًا دون فائدة تذكر. قابلوا كبار المسؤولين عن القضية، لكنهم لم يحصدوا منهم إلا وعودًا مكذوبة، ذهبت أدراج الرياح، تصفهم أنيسة بأن لهم وجوهًا بشرية وقلوبًا حجرية لا تكترث لآلام أحد، ولا يعنيها أمر إنسان يعذب بالحرمان من الحياة، وهو مايزال على قيدها. وبعد فشل كل محاولة تنكفئ أنيسة على حزنها برهة من الزمن، ثم تعود لها حيويتها؛ فتستأنف البحث عن خيط أمل جديد؛ قلبها لا يعترف بالانكسار، وعقلها لا يستجيب لفكرة الهزيمة أو الاستسلام، ولغة خطابها تخلو من مفردات اليأس والإحباط. يمر بها شريط الذكريات كلما خلت بنفسها، فيدغدغ مشاعرها، تتذكر العهد الذي قطعته على نفسها يوم زواجها بأنها لن تتركه حتى الموت، عهدًا لم ينل منه الزمن، ولم يغيره اختلاف المكان؛ فمازال في نظرها الحبيب والزوج والرفيق الذي رحل وترك لها سجلًا كبيرًا من ذكريات جميلة لسني شبابها الذي أخذ يذوي منذ يوم اعتقاله، هو ربان سفينة حياتها، الذي تركها مرغمًا في عرض بحر متلاطم الأمواج، تهوي بها أمواجه تارة، وترفعها تارة أخرى، حتى بلغت بها شاطئ الأمان، وعلى متنها ثمانية من الأبناء، ترجلوا منها جميعًا بعد أن سقتهم من كأس قيمه ومبادئه، التي فقد حريته بسببها، ولكنها لم تحقق بعد حلمها الأكبر بتحريره من المعتقل.

صور الذكريات الجميلة معينها في مواصلة الحياة، فبها تكمل معه مشوار العمر. تتذكر قصصًا شيقة وأحداثًا مهمة في تاريخهما العائلي؛ فترويها لأبنائها ثم لأحفادها، تتمتع بذاكرة قوية لم ينل منها الزمن؛ فتروي قصة كل صورة ومناسبتها، وتتذكر معها أقواله وحركاته وانفعالاته تجاه كل منها، تتذكر شجاعته وقوته في الدفاع عن مبادئه أمام سلطة جائرة، تشد على يديه تارة، وينتابها الخوف تارة أخرى، تخشى أن يعتقلوه بسبب هذه الشجاعة يومًا ما، فلن يطيقوا السكوت عن معارضته لهم، ولن يتحملوا وجود شخص لا يؤدي لهم طقوس الطاعة والولاء. تأخذها رحلة الذكريات بعيدًا، تهوي بها في هوة الماضي، وتوصلها إلى ذكرى اليوم الأسود، اليوم الذي كاد فيه قلبها أن يخلع من مكانه؛ حين داهم البيت جنود يرتدون الملابس العسكرية الرسمية، صفر الوجوه، مدججون بأسلحة كثيرة لإرهاب كل من يراهم، يتخفون تحت سترة الليل؛ لتطبيق القانون! اقتحموا البيت بدون حياء، ملأوا أركانه خوفًا ورعبًا، ارتجف قلب أنيسة ذعرًا؛ فقد أيقنت أن ما كانت تخشاه قد صار أمرًا واقعًا، وأن ظنها بهذه السلطة البوليسية العمياء لم يخب.

خرج به الجنود، وصفقوا الباب بقوة، مازالت تتذكر صوت صفقة الباب، صوتًا مرعبًا، منذ ذلك اليوم وهي تكره صفق الباب بقوة، أصبح كابوسًا يؤرقها ويحرمها هدأة النوم. انتظرت عودته المأمولة يومًا ويومين، شهرًا وشهرين، عامًا وعامين، ولكنه لم يعد، كان الخوف يستبد بقلبها أكثر فأكثر، وتساورها أفكار سوداء: "ربما تخلصوا منه، ربما نفوه خارج البلاد، ربما،…".
ثم يعود قلبها الممتلئ حبًا إلى عادته من التفاؤل؛ لينقذها من أفكارها، ويبث فيها أملًا جديدًا بعودته.

أصرت على الخروج مع الحملة إلى شوارع صنعاء، رغم مشقته عليها، فتطاول السنين وكثرة الهموم قد نالا من صحتها، ولكنهما عجزا عن النيل من قلبها الشاب المفعم بالحيوية. رفضت الاستماع لكل من حاول أن يثنيها خشية عليها، فليس لها في الحياة إلا هدف واحد تصر على أن تحققه بنفسها، أتمت تجهيز نفسها، وأخذت معها أحفادها، ومستلزمات الحملة، وفي مقدمتها صور زوجها التي ستوزعها على الحاضرين، ضمت الصورة إلى صدرها، وانطلقت يحدوها أمل جديد.