القضية الجنوبية ليست جنوبية

القضية الجنوبية ليست جنوبية - طاهر شمسان

"وظف الاشتراكي الإعلام توظيفا جيدا من خلال طرح القضايا التي تمثل هموم المواطنين ومعاناتهم, وبالذات الوضع الاقتصادي, الفساد, القبلية, التطرف الديني, المحسوبية, الأسرية... الخ، في صحافته، رغم أنه كان يمارسها بقدر ما استطاع, ويوظفها لمصلحته. وقد تميز الخطاب الإعلامي الاشتراكي في تلك الفترة وكسب الكثير من التعاطف, ووضع المؤتمر في قفص الاتهام وحمله أخطاء المرحلة الانتقالية"*.
أبو بكر القربي
 
 دخل مفهوم "القضية الجنوبية" دائرة الاستخدام الواسع في الخطاب السياسي المتداول مع الحراك الجماهيري الذي تشهده المحافظات الجنوبية. غير أن حزب الحاكم يضمن هذا المفهوم معاني جهوية انفصالية يؤسس عليها هروبه من الاعتراف بوجود القضية. ومثلما تعلق "جهيمان" بأستار الكعبة يتعلق هو دائما وأبدا بأستار "الوحدة". فبعد انتخابات أبريل 1993 رفض الاعتراف بوجود أزمة سياسية -هو صانعها الأول وصاحب امتيازها بلا منازع- وقال إنها "مفتعلة"، وهرب منها إلى الحرب باسم الوحدة. وكاد اليمن بسبب تلك الحرب أن يعود إلى زمن التشطير. واليوم يهرب من "القضية الجنوبية" ولا يعترف إلا بـ"أخطاء" وينكر "نهجه" السياسي الذي دمر قدسية الوحدة عند قطاعات واسعة من أبناء الجنوب وأحيا أشواقا "انقسامية" ظلت تحتضر منذ الثلاثين من نوفمبر 1967 عندما وحد الحزب الاشتراكي الجنوب في إطار دولة مركزية واحدة.
 وفي هذا السياق يعتقد البعض من ذوي النوايا الطيبة الذين انطلت عليهم أكذوبة "مؤامرة" الانفصال أن حزب الحاكم "أخطأ" في الجنوب عندما تصرف كمنتصر ولم يحاول الانتصار على انتصاره العسكري في صيف 1994. وأنه بسبب ذلك أوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن من حراك جماهيري منظم ملتف حول ما يسمى بـ"القضية الجنوبية". وكأن هؤلاء عقدوا مقارنة خاطئة بين فتح مكة و"احتلال الجنوبـ" وتوقعوا أن يصل "المحتلـ" إلى عدن ليقول للناس: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". ولو أن قيادة حزب الحاكم كانت مجبولة على مثل هذا التسامي الوطني المفترض لسارت الوحدة اليمنية سيرا حسنا منذ 22 مايو 1990 ولما كان هناك داع للحرب واحتلال الجنوب من حيث الأساس.
 أما أن أثر الحرب اقتصر على الجنوب دون الشمال فهذا مما يجب إعادة النظر فيه حتى يتسنى لنا وضع "القضية الجنوبية" في سياقها الوطني العام وعدم الوقوع في الخطأ الذي يقع فيه بعض إخواننا في الجنوب ممن يضعون الشمال كله في سلة واحدة ولا يفرقون بين الشعب المقهور والسلطة القاهرة، ولا يدركون أن حجم الفساد والإفساد تضاعف في الشمال بعد حرب 1994 بمعدلات قياسية ووصل الأمر إلى حد خصخصة دماء شهداء ثورة 26 سبتمبر وسرقة النظام الجمهوري وتحويله إلى إمامة غير معلنة من خلال وضع الوطن كله وبكل جرأة في "مهب التوريث". وهذا أمر ما كان يمكن له أن يحدث في زمن التشطير حينما كان النظام في الجنوب يشكل عامل إعاقة لسوء استخدام السلطة في الشمال. فالنظامان الشطريان قبل الوحدة كانا يتبادلان التأثير والتأثر، وكان كل منهما يمارس دور المعارضة تجاه الآخر. والذي حدث بعد 22 مايو 1990 أن معارضة النظامين الشطريين لبعضهما البعض انتقلت إلى قلب دولة الوحدة وتمحورت حول أسس ومقومات الاندماج الطوعي التام في هذه الدولة. ولما كانت موازين القوى تميل لصالح نظام الشمال أقدم هذا على التخلص من نظام الجنوب عسكريا واحتل الجنوب وعمم فساده وفوضويته وأسريته ومناطقيته وقبليته وتطرفه وإرهابه وأميته وجهله وغطرسته وجوعه الذي لا يشبع وغروره وكذبه وثقافته السياسية المتخلفة على اليمن كله باسم الوحدة وهي بريئة منه كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب.
 كان الجنوب الرسمي في زمن التشطير مشروعا سياسيا "يساريا". وكان الشمال الرسمي مشروعا "يمينيا". ولما لم يكن بمقدور أي منهما أن يلغي الآخر ويوحد اليمن على حسابه التقى المشروعان في مشروع "وسطي" على قاعدة التنازلات المتبادلة. وكانت تنازلات الجنوب أكبر من تنازلات الشمال حيث قدم ثلثي الأرض والثروة وقبل أن تكون العاصمة صنعاء ورئيس الشمال هو رئيس دولة الوحدة.
 اتفق الطرفان على ألا تكون دولة الوحدة هي دولة الشمال ولا هي دولة الجنوب، وعلى الأخذ بما هو أفضل في النظامين السابقين للوحدة. واتفقا أيضا على الشراكة وعلى الديمقراطية. واستبشر اليمنيون خيرا بهذا الاتفاق وانتعشت آمالهم في التغيير.
 أول شيء فعلته قيادة حزب الحاكم بعيد الوحدة هو إخراج الإسلاميين والجهاديين والفقهاء والوعاظ والمرشدين الدينيين وأصحاب الفتاوى وشيوخ القبائل من حزب المؤتمر الشعبي العام إلى الشارع السياسي لمواجهة الحزب الاشتراكي في كل مكان. وكل هذا من أجل أن تأكل الثوم بأفواههم. وقد أسهم هؤلاء في إرباك الحياة السياسية خلال الفترة الانتقالية، وهي فترة قصيرة جدا لم يتمكن خلالها الناس من استيعاب حقيقة ما يجري والتمييز بين الغث والثمين. وانتهت الفترة الانتقالية دون أن تنجز مهامها. وجرت انتخابات نيابية أسفرت عن قيام برلمان توزعت فيه الأقلية والأغلبية على أساس شطري طبقا لعدد السكان.
أرادت قيادة حزب الحاكم استثمار أغلبيتها الشطرية (كتلة المؤتمر + كتلة الإصلاح) للانقلاب على اتفاقية الوحدة، وزجت بالبلاد في أزمة سياسية. وبشهادة الدكتور أبو بكر القربي -وهو شخصية حباها الله بسطة في العلم والأخلاق– أدار الاشتراكي الأزمة السياسية باقتدار ليس له نظير، وأنعش الأمل في التغيير عند الغالبية الساحقة من أبناء الشمال، وتجسد ذلك من خلال المؤتمرات الجماهيرية للمحافظات حيث أحس أهلوها أن ساعة الخلاص من استبداد الأئمة الجدد قد دنت وأن مشروعا سياسيا جديدا بدأ يطل.
 في هذه الأثناء أدركت قيادة حزب الحاكم أنها لن تستطيع أن تنتصر في معركة العقل، فعسكرت الأزمة السياسية وشنت حربا واسعة النطاق واحتلت الجنوب باسم "الشرعية" التي لم تكن في حقيقة الأمر إلا أغلبية عددية شمالية في البرلمان بينها 63 شيخ قبيلة و26 عسكريا و11 تاجرا و7 من خطباء الجوامع، نستطيع أن نذكرهم بأسمائهم. ويشكل هؤلاء نحو 60% من "الشرعية" التي جرى احتلال الجنوب باسمها.
 كانت نتيجة حرب 1994 هي استبعاد الجنوب من المشروع السياسي لدولة الوحدة، وهذا هو جوهر "القضية الجنوبية" التي لا يجوز بأي حال من الأحوال اختزالها في قضايا مطلبية حقوقية. وإذا صح هذا التشخيص فإن قضية جيش الجنوب المقاعد -مثلا- لا يمكن أن تحل برواتب ورتب وإنما بإعادة دمج المؤسسة العسكرية للشطرين وفقا لبرنامج ومعايير فنية ومهنية متفق عليها تفضي إلى قيام مؤسسة وطنية لا مكان فيها للتوريث والمحسوبية والمحاباة. بهذا المعنى تكتسب القضية الجنوبية بعدها السياسي الوطني العام ولا يمكن التعامل معها كقضية جهوية. وبهذا المعنى أيضا يكون النوبة قد جعل قضية المقاعدين العسكريين بلا أفق عندما رفع شعارات سياسية جهوية تضر ولا تنفع.
 صحيح أن هناك من يرفع شعارات انفصالية في الجنوب، لكن هؤلاء أقلية ولا يمثلون مشكلة لقيادة حزب الحاكم، وسوف تصل معهم إلى اتفاق وسيلتحقون عاجلا أم آجلا بركب الفساد. وهم قبل غيرهم يعلمون علم اليقين أن الانفصال لا مستقبل له.
 لسنا ضد الانفصال من منطلق أخلاقي أو إيماني كما يحلو للبعض أن يعبر عن نفسه، وإنما من منطلق سياسي واقعي وعملي. ولو أن الانفصال يمثل حلا لقلنا: اذهبوا بجنوبكم على بركة الله. ولكن من هي القوة التي تستطيع أن تدعي أنها قادرة على قيادة كل الجنوب من أجل هذه الغاية؟ وماذا عن الجنوبيين الذين تكونت لهم مصالح في الشمال والجنوب وربطوا مصالحهم بالوحدة؟ وماذا عن الشماليين الذين استقروا في الجنوب وأصبحت لهم مصالح هناك؟ هل سيتعامل معهم الانفصاليون كما تعامل الروس مع أبناء القوميات التي استقرت في روسيا وكما تعاملت الجمهوريات المستقلة مع الروس المقيمين فيها، أم سيطردونهم من الجنوب؟ الحالة الأولى لا تتسق مع الدعوة إلى الانفصال. والحالة الثانية انتحار جماعي مؤكد. وإذا افترضنا جدلا أن الانفصال تحقق: من يضمن أن حضرموت لن تطالب بانفصالها عن بقية الجنوب؟ ومن هو الذي يستطيع أن يمنعها عن ذلك؟ وما هي حجته؟ إذا كان هناك من يرفض وحدة 22 مايو1990 فبأي حق يمنع غيره من أن يرفض وحدة 30 نوفمبر 1967؟ وإذا حصلت معجزة وأصبحت هناك دولة حضرمية: من سيحمي استقلالها وأمن حدودها؟ هل ستدفع ثرواتها للغير مقابل هذه الحماية؟
 إن خيار الوحدة هو الخيار الواقعي الوحيد، ولكن في ظل دولة مواطنة متساوية لا دولة عصابات. وعندما نقول إن الجنوب واقع تحت الاحتلال فإن الشمال أيضا يعاني المشكلة نفسها، مع فارق أن للجنوب خصوصيته باعتباره مشروعا سياسيا جرى استبعاده بالقوة في إطار دولة الوحدة، واليمنيون في الجنوب والشمال يعلقون الآمال على هذا المشروع. وعندما يتوحد الجنوبيون حول مشروع سياسي وطني وحدوي واضح ومحدد، يتمحور حول بناء دولة المواطنة المتساوية، ويلبي مصالح كل الفئات والشرائح الاجتماعية في عموم الوطن، سيجدون الشمال كله معهم. 
 
* "حرب 1994.. لماذا؟ وكيف؟" ورقة عمل مقدمة إلى ندوة "مسار الوحدة اليمنية خلال عقد كاملـ" (صنعاء: المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية، 9-10 مايو 2000).
tahershamsan